عمق العثمانيين..جذور التدخل التاريخي التركي بسوريا
وعلى هذه الرؤية الإستراتيجية قامت الولايات المتحدة وروسيا بدعم حلفائهما، وإقامة القواعد العسكرية التي تبدو دائمة، بل وجاءت إيران داعمة للأسد ومتحدة مع روسيا لاستعادة حلب بكل الوسائل والأسلحة والعتاد الممكن، والتاريخ يخبرنا ويؤكد أن العثمانيين حين هزموا المماليك في معركة "مرج دابق" في شمال حلب تمكنوا بعدها بسهولة تامة من السيطرة على الشام ثم مصر ثم بقية الأقطار العربية، فالصراع على الجغرافيا السياسية كان ولا يزال محط تأثير على الكثير من الحروب التي تندلع.
بعد الصدام المملوكي العثماني الذي بدأ سياسيا باختلاف الفريقين حول رؤيتهما للصفويين في إيران، فبينما رآهم العثمانيون عدوا خطيرا يهدد دولتهم من الشرق، رآهم المماليك لاعبا سياسيا إقليميا مهما يوازن القوى الإقليمية خاصة أمام الصعود العثماني الجارف، وإن أبدوا خوفهم من الصفويين أيضا، هذا الاختلاف الإقليمي أطلق شرارة المعركة العسكرية والخداعية بين الجانبين، وكانت منطقة شمال الشام ذروة هذا الصراع ولقائه.
وكلّفَ السلطان الغوري من نجا من الأسرة الدلغادرية التركمانية الموالية للمماليك بالخروج وجمع العساكر التركمان في الأناضول ليتحدوا مع الجيش المصري عند وصوله إلى حلب، فخرجوا، وبينما مصـر تموج بحركة الاستعداد للقاء العثمانيين وصلت رسالة من الأمير خاير بك نائب حلب -الموصوف بعد ذلك بخاين بك- يذكر فيها أن السلطان سليم العثماني ينوي مهاجمة الشاه إسماعيل الصفوي، وأن الشاه يستعدّ لمقابلته، والحقيقة أن خاير بك كان متصلا بالسلطان العثماني سليم، وما أراد برسالته هذه إلا تثبيط همّة الغوري، وصرفه عن الاستعدادات القائمة، وقد بدأت اتصالات خاير بك بالعثمانيين منذ عهد السلطان بايزيد الثاني والد السلطان سليم([3]).
فلم يركن السلطان الغوري إلى رسالة خاير بك، رغم أنه لم يشك في ولائه، بل ضاعف جهوده وأعلن أنه سوف يقود الجيش بنفسه، وقرّر المجلس العسكري المملوكي الذي عُقد حينذاك في القاهرة أن يخرج السلطان إلى حلب متمركزا فيها، حيث يرقب الحوادث، ويرى ما يكون من "أمر الصوفي (إسماعيل الصفوي) وابن عثمان، فإن كلَّ مَن انتصر منهما على غريمه لابدّ أن يزحف على بلادنا"([4]).
يقول سليم للغوري: "أنت والدي وأسألك الدعاء، وإني ما زحفتُ على بلاد [الدلغادري] إلا بإذنك، وأنه كان باغيا علي، وهو الذي أثار الفتنة القديمة بين والدي والسلطان قايتباي، حتى جرى بينهما ما جرى… وأما ابن سوار (الموالي للعثمانيين) الذي ولي مكانه، فإنه إن حسُن ببالكم أن تُبقوه على بلاد أبيه أو تولوا غيره، فالأمر راجع إليكم في ذلك، وأما التجّار الذين يجلبون المماليك الجراكسة فإني ما منعتهم، إنما هم تضرَّروا من معاملتكم في الذهب والفضة، فامتنعوا من جلب المماليك إليكم، وإن البلاد الذي أخذتها من علي دولات أعيدها لكم، وجميع ما يرومه السلطان فعلناه"([5]).
فرح السلطان الغوري وكبار الأمراء بهذه الرسالة ظنا منهم تحقق الصلح والسلام بين الجانبين، وبالرغم من ذلك لم يتراجع الأشرف قانصوه الغوري عن الانطلاق بالجيش صوب حلب، ووصل بالفعل إلى دمشق فاستقبله نائبها الأمير سيباي استقبالا حافلا، ثم انطلق إلى مدينة حماة فاستقبله نائبها جان بردي الغزالي بالحفاوة والترحاب، ثم إلى حلب، فدخلها في 10 جمادى الآخرة 922هـ/ 10 يوليه 1516م([6]).
وفي حلب أرسل السلطان سليم سفارة إلى السلطان الغوري هدفها الأساسي كسب الوقت وخداع الأشرف، حتى يتمكن السلطان سليم من الاتصال بالمدد القادم إليه من إسطنبول فتزداد قوته، وقد استقبل الأشرف هذه السفارة بالود والترحاب.
|
أرسل الغوري من قبله رسولا إلى السلطان سليم هو الأمير مُغُلْباي الدوادار، "وكان رجلا فاضلا قادرا على ردّ الأجوبة وإقامة الحجة"([7])، وأرسل معه عشـرة من الفرسان الأقوياء بملابسهم العسكرية المملوكية الجميلة، وكان الغوري يهدف من وراء ذلك أمرين: أن يرى الجيش العثماني قوة وهندام الجيش المملوكي ممثلا في هذه العصبة المرسلة فيؤثر فيهم معنويا، وأن يقف هؤلاء على حقيقة الوضع في المعسكر العثماني.
فطِن السلطان سليم لهذه الخدعة، وكاد يقتل هذه المجموعة لولا شفاعة الوزير وكبار الأمراء العثمانيين؛ لأن "الرسول لا يُقتل، وليس له ذنب"([8]). لكن في نهاية الأمر قتل السلطان سليم الفرسان العشرة، وأمر بسجن مغلباي! ثم سرعان ما أفرج سليم عن مغلباي، وبعدما أهانه وأركبه حمارا أعرج، وحلق لحيته، وألبسه الملابس الحقيرة في المعسكر العثماني، قائلا له، "قل لأستاذك (الغوري) يجتهد جهده، وها أنا حضـرتُ إليه كالبرق الخاطف، والرعد القاصف"([9]). وفي رواية ابن إياس: "قال له: قل لأستاذك يُلاقيني على مرج دابق"([10]).
في هذه الأثناء سلّم الأمير المملوكي يونس بك مدينة عينتاب المملوكية دون مقاومة إلى العثمانيين في 18 أغسطس/11 رجب 922هـ، وبينما تجري الأمور على هذا الشكل الذي يصعب على العقل المملوكي تصوره، أرسل السلطان المملوكي إلى حليفه الشاه إسماعيل الصفوي على عجل ليمده بحملة صفوية لمواجهة العثمانيين، وإلا فإن العثمانيين سوف يتّجهون إلى إيران بعد سقوطهم، لكن الشاه الذي يبدو أنه قد اتعظ بصورة جيدة من الدرس الذي تلقّاه في جالديران رفض الاتفاق مع الغوري[11]!
واستمر الجيش العثماني بالتحرك صوب الجنوب والجيش المملوكي بالتحرك صوب الشمال، حتى التقى الفريقان في منطقة "مرج دابق" شمال حلب على بعد 20 كم منها، وكان من الملاحظ أن الجيش المملوكي أكثر عددا من الجيش العثماني، فقد بلغت القوات المملوكية 80 ألف جندي، لكن المماليك لم يستفيدوا من القوة العددية، نظرا للتسليح المتقدم على الجانب العثماني، فقد كان العثمانيون يملكون 300 مدفع قوي، ولم يكن المماليك يملكون هذا العدد الكبير من المكاحل أو المدافع فضلا عن ضعف المملوك منها، لذا غطّت هذه المدافع والأسلحة الحديثة الأخرى كالبندقيات النقص العددي، بل كانت أحد الأسباب المهمة في النصر العثماني[12].
وفي يوم الأحد 23 رجب سنة 922هـ/21 أغسطس 1516م تشارف الجيشان المملوكي والعثماني، وكانت خطة الجانب المملوكي ضعيفة لا رؤية فيها، تسبّبت في الهزيمة الثقيلة في ما بعد، ذلك أن السلطان قدّم المماليك القرانصة ليكونوا في مقدمة القتال، وهم مماليك/جنود السلاطين السابقين، وأراد من وراء ذلك أمرين: الاستفادة من خبراتهم السابقة فهم أعرف بالقتال وأقدم في الجيش، ثم فناء وقتل أكبر عدد منهم؛ لأنهم كانوا شوكة في حلقه، وتأخر مع مماليكه الجلبان "مشترواته"، وقدّر المؤرخون عددهم بـ 13 ألف مقاتل، وعلم القرانيص هذه المكيدة، وقالوا للغوري: "نحن نقاتل بأنفسنا مع النار، وأنت واقف تنظر إلينا كالعين الشامتة، ما تأمر أحدا من مماليكك يخرج للميدان"[15].
ويذكر ابن زنبل أن الذين قاتلوا القوات العثمانية من الجيش المملوكي لم يزيدوا عن ألفي جندي، وهم القوات التي كان يقودها الأمير سيباي نائب الشام والأمير سودون العجمي قائد الجيش المملوكي، والأمير أصلان بن بداق نائب حمص، وعدد آخر من الأمراء المقدمين والطبلخانات[16].
بينما يشير ابن إياس -الذي ينقل روايته عن الرواية/الوثيقة الرسمية التي جاءت إلى الأمير طومان باي نائب السلطان في مصر- إلى أن المماليك القرانيص والقوات الدمشقية بقيادة سيباي نائبها، وقوات الأمير سودون العجمي قائد الجيش المملوكي المصري، قد أبلت بلاء حسنا في بداية المعركة، حيث "قاتلوا قتالا شديدا هم وجماعة من النوّاب، فهزموا عسكر ابن عثمان، وكسروهم كسرة مهولة، وأخذوا منهم سبعة صناجق (ألوية)، وأخذوا المكاحل (المدافع) التي على العجَل ورُماة البندق (الرصاص)، فهمَّ ابن عثمان بالهروب أو يطلب الأمان، وقد قُتل من عسكره فوق العشرة آلاف، وكانت النصرة لعسكر مصر أولا، ويا ليت لو تمَّ ذلك، ثم بلغ المماليك القرانصة أن السلطان قال لمماليكه الجلبان: لا تقاتلوا شي وخلَّوا المماليك القرانصة تُقاتل وحدهم، فلمّا بلغهم ذلك ثنّوا عزمهم عن القتال"[17].
على الجانب الآخر كان السلطان سليم في الـ 46 من عمره، شجاعا مقداما، على عكس قنصوه الغوري الشيخ الهرم المتردد، لم يُعجب سليم قتال الجيش العثماني في بداية المعركة، فحمل سيفه، وصاح في عسكره بأعلى صوته: "هكذا تعاركون قدّامي مع عدوي؟!"[20].
بهذه الشجاعة التي اتصف بها سليم، وبتلك الآلات العسكرية المتقدمة من المدافع والبندقيات التي جعلت "النهار كالليل الحالك من كثرة الدخّان والغبار من حوافر الخيل"[21] على حد توصيف المؤرخين، أنهى العثمانيون الحرب في أقل من ثمان ساعات!
لم يتمكن السلطان الغوري من تحقيق أي شيء، والأرجح أنه خرّ صريعا تحت سنابك الخيل العثمانية ولم يُعثر له على جثّة ولا رأس، وتشير رواية ابن زنبل الرمال إلى أن عددا من الأمراء المماليك قطعوا رأس سلطانهم بعد مقتله، وألقوه في بئر هنالك، حتى لا يستفيد العدو من هذا المغنم فيفتّ في عضد أي مقاومة مملوكية قادمة[22]. ينشد ابن المؤرخ إياس[23] واصفا حال المماليك وسلطانهم في تلك المعركة قائلا:
لما التقَى الجيشان مع سلطاننا *** في مرج دابِقَ قال: هل من مُسعفِ
فلهُ أجابَ لسانُ حال قائلا *** عرَّضْتَ نفسَكَ للبلا فاستهدفِ
واشتدّ بالجلبان رُعْبَ قلوبهم *** وغَدَوْا يقولوا أي أرض نختفي
والنهبُ أطمعهُم لذُلِّ نفوسهم *** حتى أتاهم بالقضاء المُتلفِ
كان عدد القتلى من المماليك ألف جندي، ومن الجيش العثماني أربعة آلاف، وجُلّ من قُتل من المماليك كان بسبب "المدافع والبندقيات"[24]، وهذه الإشارة المهمة من المؤرخ ابن زنبل الرمّال (ت بعد 980هـ) تبين السبب الرئيس في هزيمة المماليك في "مرج دابق"، بل وهزيمتهم في الريدانية بالقاهرة في ما بعد. ولجأت فلول المماليك الهاربة إلى حلب، فصبّ عليهم عامة الحلبيين جام غضبهم جزاء لما ارتكبوه في حقّهم سابقا، وطردوهم، فعرّجوا على دمشق في أسوأ حال، وفي دمشق تجمّعت هذه الفلول، ثم خرجوا إلى مصر فوصلوها أرسالا متقطّعة، وتعرّضوا خلال الطريق لأذى العربان، وكان دخولهم القاهرة في رمضان 922هـ/أكتوبر 1516م.
وهكذا سيطر العثمانيون على حلب ثم دمشق دون مقاومة تُذكر، وبترحاب من الرأي العام الشامي، وأصبحت بلاد الشام رسميا من حلب إلى غزة ضمن السيادة العثمانية لأول مرة، وستسمر هذه السيادة لمدة أربعة قرون متوالية حتى دخول قوات الاحتلال البريطاني بقيادة الجنرال اللنبي إلى فلسطين والقدس في ديسمبر/كانون الأول 1917م، وقوات الاحتلال الفرنسي بقيادة الجنرال غورو إلى الشام في تموز/يولية 1920م. في تقريرنا المقبل سنتناول كيفية استيلاء العثمانيين على أهم قطر عربي "مصر"، وكيف مكنت مصر من أن تصبح إسطنبول عاصمة الخلافة الإسلامية منذ تلك اللحظة!