شعار قسم ميدان

"موسم الهجرة إلى الشمال".. وسؤال الهوية عند الطيب صالح

midan - ID
مثّلت رواية موسم الهجرة إلى الشمال وقت ظهورها؛ حدثاً استثنائياً في تاريخ الرواية العربية، وانطلاقًا إلى آفاق جديدة في الثقافة العربية، فبعد أكثر من خمسين عاماً من ظهور الرواية، لا تزال رواية موسم الهجرة إلى الشمال طازجة، كيوم ولادتها. وفي السياق الذي نشهده من موجات اللاجئين والمهاجرين العرب في أوروبا، وموقف الدول الأوروبية من ذلك مع صعود تيار اليمين فيها، فإن الرواية تكتسب معاني جديدة، وتمنح القارئ فرصة لرؤية الأحداث بطريقة مدهشة (1).

 

كتب الطيب صالح روايته أواسطَ الستينيات، كانت مجتمعات العالم العربي وأفريقيا والعالم الثالث قد خرجت لتوها من ربقة الاستعمار العسكري الطويل، مفعمة بالأمل في التخلص من آثاره المزمنة، أو من جرثومته -كما سماها في الرواية- التي تركها في نسيج هذه المجتمعات (2).

  

استعرضت الرواية فكرتها من خلال ثلاث شخصيات رئيسية، مثّل كل منها رؤية مختلفة للوجود، تظهر في أول الرواية شخصية الراوي الذي يمثل الجيل الثالث في الرواية، والذي عاش أغلب حياته بعد رحيل الاستعمار الإنجليزي، ثم هناك شخصية الجد والتي مثلت بساطة المجتمع التقليدي، مجتمع ما قبل الاستعمار والتحديث، ثم شخصية مصطفى سعيد؛ الشخصية الرئيسية والأكثر إثارة للتأمل، طفل يتيم الأب يعيش هو وأمه وحيديْن، ويقرر الالتحاق بالمدرسة والتعليم النظامي الحديث، ليُظهر هناك تفوقاً ونبوغاً ملفتين للنظر، يرى فيه المعلمون معجزة، إذ يقول له ناظر المدرسة: "هذه البلد لا تتسع لذهنك". ثم سهل عليه الدراسة في القاهرة ولم يبلغ الثانية عشر بعد، ومن هناك وبمساعدة عائلة مستشرق إنجليزي يكمل رحلته للدراسة في لندن.

 

تحوّل مصطفى سعيد إلى أسطورة يحكي عنها كثيرون، أبحر في الثقافة الغربية حتى شعر بأنه امتلكها، مستوعباً كل تفاصيلها ومركّباتها الثقافية في المسرح والموسيقى والاقتصاد؛ عرف الحانات والمقاهي والمسارح والأندية، وأجاد اللغة الإنجليزية كما يتكلمها أبناؤها، وكتب العديد من الكتب. استطاع هضم الثقافة الغربية لكنّ شيئاً ما في قرارة نفسه كان ينحيه عن الاندماج الكامل معها وعن تخطيها، ليُمثل بذلك جيل الوسط في الرواية، الجيل الذي خاض تجربة الاستعمار وتشربها حتى النخاع، ومن خلال شخصيات الرواية وكيفية تمثلها لعالمها تفتح الرواية أسئلة متعددة، وأبعاداً متنوعة وزوايا وتفاصيل مثيرة، كلها تغري بالدراسة.

   

الانهماك في الحياة لا التساؤل عنها
undefined

كان مجتمع ما قبل الاستعمار – مُمثلا داخل الرواية في شخصية الجد – يتمثل الحياة والوجود بكل مكوناته، الزمن والطبيعة والنفس الإنسانية والحوداث التاريخية، كمُعطى طبيعي لا يثير التساؤل ولا يبعث على التأمل "أيام نقضيها على وجه الأرض وبعدها ربنا يفعل فينا ما يشاء". 

انسجمت الحياة في أعينهم مع الطبيعة كامتداد لها، حيث تصفهم الرواية دائماً بالبعد عن التركيب والتساؤل "الشجرة تموت ببساطة، وجدك عاش وسيموت ببساطة".
    
يُفسر المفكر عبد الله العروي هذه الحالة التاريخية بأنه لم يكن لدى مجتمعات قبل الاستعمار أي تساؤل حول الذات أو الوجود، وسبب ذلك استمرار التاريخ بلا انقطاع؛ أي بدون حوادث تاريخية جذرية تهدد النُظم الاجتماعية والسياسية المتوارثة لعشرات القرون، والسبب الثاني "غياب الآخر" الذي كان حضوره يجعل الذات محل مُساءلة أو نقد (3).

   

موسم الهجرة إلى السؤال
undefined

يبدأ التساؤل في الظهور مع الجيل الثاني في الرواية مع شخصية مصطفى سعيد الذي أحس بمرارة الاستعمار وعايشه وشهد نهبه لثروات بلاده، ومع احتفاظه بأمله في أن ينتصر لذاته، صارت صورة الذات التي تمثلها مصطفى سعيد بوعي هي صورة الشرق المستعمَر المهزوم ما قبل الحداثي، متمثلاً في حالة الرجولة البدائية الجنسانية الشهوانية واللا عقلانية، هذا الشرق الذي تعرض للاستعمار من قبل الغرب المستنزف لثرواته المستغل لها والمحتكر لقدرات هذا الشرق. أما الآخر: فهو الغرب الأوروبي بحضارته الغربية الصناعية وتقاليده الأرستقراطية الذي يتجسد في جانب منه في المرأة الأرستقراطية الأوروبية (شخصية جين مورس). وهكذا تمثلت العلاقة بين الشرق والغرب في علاقة صراعية بين رجل بدائي وامرأة أرسقراطية(5).

    

"وفي لندن أدخلتها بيتي، وكر الأكاذيب الفادحة، التي بنيتها عن عمد، أكذوبة أكذوبة. الصندل والند وريش النعام وتماثيل العاج والأبنوس والصور والرسوم لغابات النخل على شُطآن النيل، وقوارب على صفحة الماء أشرعتها كأجنحة الحمام، وشموس تغرب على جبال الأحمر، وقوافل من الجمال تَخبُّ السير على كثبان الرمل على حدود اليمن، أشجار التبلدى في كردفان، وفتيات عاريات من قبائل الزاندى والنوير والشلك(4)".

 

بيد أن تلك الصورة المتخيلة التي تمثلها مصطفى سعيد عن الذات، ليست حقيقية كما تخبرنا الرواية على لسانه بأنه ينظر لنفسه أنه مجرد أكذوبة (6) صنعها الاستعمار ذاته. لاحقا أثبت الفيلسوف إدوارد سعيد أن فكرة وهوّية "الشرق" كان شيئا من اختلاق الخطاب الاستعماري الغربي، وهو الخطاب الذي صاغ من الوجود الحقيقي والمتخيل لشعوب الشرق، صورةً خاصة متخيّلة فانتازية إلى حد بعيد (7).

 

مثّل مصطفى سعيد بشكل رمزي القطيعة التاريخية التي خلقتها حالة الاستعمار في المجتمعات الشرقية، فصوّره الطيب صالح ببراعة كشخص لامنتمي بلا جذور قبلية أو عائلية كما كان الحال في المجتمعات الشرقية التقليدية، بدا واضحاً ذلك في تصويره لعلاقته بأمه "مخلوقان سارا شطراً من الحياة معاً، ثم سلك كل منهما سبيله". كانت إجابة مصطفى سعيد لسؤال الهوية – وهي إجابة مصطنعة بشكل واعي – هي من إفراز العملية الاستعمارية نفسها؛ عبارة عن هوية وصورة متخيلة وبدون أصل تاريخي عن الشرق، لا وجود لها إلا في ذهن الاستعمار، فقط حتى لو استخدمها للانتقام من النظام الذي ساهم في إنتاجه كذات قلقة كما يظهر في الرواية (8).

  

undefined     

    

"سنكون كما نحن، قوماً عاديين؛ وإذا كنا أكاذيب فنحن أكاذيب من صُنع أنفسنا"

مثلت شخصية الرواي النقيض من مصطفى سعيد أو أناه الأخرى؛ فعلى الرغم من تشابه بداية حياتهما والاحتكاك بالغرب والاستعمار، وإدراك الراوي لعمق التأثير الاستعماري في تشكيل الوعي بالهوية وبالوجود لدى المستعمَرين، إلا أنه يبدأ من تأكيد أصالة انتمائه للمكان الذي وُلد فيه، والناس الذين عاش معهم وتربى وسطهم، والعادات والقيم التي مثلت هويته الأصلية، فكان الحب والإحساس بمعاناة وهزيمة الشرق الذي يحمله الرواي، إنما ينبع بالأساس من مشاعر الهوية وانتمائه للوطن، والذي عبر عنه في قوله "إنني عدت ولي شوق عظيم إلى أهلي في تلك القرية الصغيرة عند منحني النيل".

   

وليس هذا فحسب؛ بل ويصور مدى حبه لعشيرته وهو ما نراهُ في قوله "ذاك دفء الحياة في العشيرة"، ويتبعها بقوله "فراشي الذي أعرفه في الغرفة التي تشهد جدرانها على نزهات حياتي في طفولتها ومطلع شبابها"، فشعر بأنه يعود إلى الرحم الذي خرج منه، وإلى العناصر الثابتة التي تزيده ثباتاً، فيبدو لنفسه، وسط محيطه الطبيعي مثل النخلة في فناء الدار، مخلوق له أصل، له جذور، له هدف (9).

 

فهو يحس بجذوره دائماً ويحن إليها، هذه هي أرضه ومنها يكتسب هويته "تمتلئ عيناي بالحقول المنبسطة كراحة اليد إلى طرف الصحراء حيث تُقام البيوت. أسمع طائراً يغرد، أو كلباً ينبح، أو صوت فأس في الحطب، أحس بالاستقرار، أحس أنني مهم، وأنني مستمر ومُتكامل". وكذا في استمرار علاقته بالتاريخ كمصدر للذاكرة والإحساس بالأمن "أذهب إلى جدي فيحدثني عن الحياة قبل أربعين عاماً بل خمسين عاماً، لا بل ثمانين، فيقوى إحساسي بالأمن".

     

نظر الراوي إلى الاستعمار كجزء من التاريخ وجزء من الذاكرة التاريخية التي شكلت وعي المجتمع السوداني بعد الاستعمار "لم يكن مجيئهم مأساة كما نصور نحن، ولا نعمة كما يصورون هم، كان عملاً ميلودرامياً سيتحول مع مرور الزمن إلى خرافة". فالاستعمار قد حدث وانتهى ولم يَعُد ممكناً العودة بالزمن إلى الوراء ولا الحديث عن هوية أصيلة نقية متمايزة عن الاستعمار وحوادث التاريخ "كونهم جاءوا إلى ديارنا، لا أدري لماذا، هل معنى ذلك أننا نسمم حاضرنا ومستقبلنا، إنهم سيخرجون من ديارنا إن عاجلاً أم أجلاً، سكك الحديد والبواخر والمصانع والمستشفيات والمدارس ستكون لنا، وسنتحدث لغتهم، دون إحساس بالذنب ولا إحساس بالجميل، سنكون كما نحن قوماً عاديين، وإذا كنا أكاذيب فنحن أكاذيب من صنع أنفسنا" (10). لا يحمل الرواي هنا أي مشاعر عداء لأحد، من وجهة نظره فالدراما التي خلقها الاستعمار لا تحرض على الحرب، ولكن فقط تبعث على الحزن.

 

الذات المجروحة
undefined
   
في هذه المقارنة بين شخصيات الرواية يتجسد ما تركه الاستعمار على الذات المستعمَرة، يتجسد في أبشع صوره مأساوية وعنفاً: انشطار الذات، لا على المستوى الاقتصادي والثقافي فحسب، بل على المستوى الوجودي. لقد انشطر المجتمع الأصلي إلى شطرين، أولهما -وبسبب من الاستعمار نفسه- لم يعد تقليدياً، بينما الآخر -وبسبب من شوقه العارم إلى هوية أصيلة- لم يستطع أن يصبح حديثاً بمعنى الكلمة. هذا هو جذر الإنسان المشطور: مصطفى سعيد.. قصة حياته لم تكن سوى صفحة واحدة، إهداء ليس له ما بعده؛ لأن ما بعده لم يكن ممكناً: "إلى أولئك الذين يرون بعين واحدة، ويتحدثون بلسان واحد، ويرون الأشياء إما سوداء أو بيضاء، إما شرقية أو غربية". إهداء حزين لمخلوق ربما كان له وجود في الماضي، لكنه – وبسبب الاستعمار – توقف عن الوجود (11).

 

إن مجتمع ما بعد الاستعمار مجتمع أصبحت ثقافته هجينة، يتولد عنه الآن ذات منقسمة (شخصية الراوي) ذات ترى بعينين، وتتكلم بلسانين، وترى الأشياء بيضاء سوداء معاً، لا شرقية ولا غربية. تلك كانت مأساة مصطفى سعيد. أما مأساة الراوي، فهي أنه يحاول التخلص من ميراث مصطفى سعيد، يحاول أن يختار، يحاول أن يكون ما بعد استعماري، لكي يتاح له أن يكتب حتى صفحة الإهداء من قصة حياته: بعين أم بعينين؟ أسود أم أبيض؟ شرقي أم غربي؟ أم هما معًا؟!(12).

 

حالة ما بعد الاستعمار
undefined

إن عالم ما بعد الاستعمار قد وضع حداً للانفصال بين الشعوب، وقد نقضي السنين أسفاً وتحسراً على أن الطريقة التي أصبح فيها العالم عالماً واحداً قد تمّت عبر لقاء عنيف ومدمر بين أوروبا (وأميركا) من جهة وما سواها من جهة أخرى. لكن ذلك حدث، كرهنا أم أحببنا، والعالم الذي نتج عنه عالم متمازج خليط، لا يمكن إغلاق الأبواب فيه ولا حماية ما يسمى بالأصالة والهوية.


مصطفى سعيد أدرك ذلك، رغم محاولته، عبثاً، أن يقاومه. وحدها جين مورس من وضعت حداً لجموح مصطفى الجنسي وتلذذه بالانتقام من الآخر الغربي.

    

"جين مورس الأوروبية الأرستقراطية، التي يرى جورج طرابيشي أنها تمثل الحضارة الغربية المتفوقة التي تدرك بالضبط هذا التفوق وحجمه، أدارت مصطفى على ساقيه أعواماً، وأهانت كبرياءه، ورفضت، حتى بعد زواجها منه، أن تنصاع له إلا بشروطها. وشروطها، التي انصاع لها مصطفى سعيد ذليلاً، تمثلت في أن يعطيها مزهرية ومخطوطة وسجادة صلاة وأشياء استخدمها مصطفى باعتبارها لوازم "الشرق" ومتعلقاته المعبرة عن ذاته وهويته الأصيلة المتخيّلة، كي تقوم في النهاية بحرقها وتدميرها وإتلافها"، فكَيْ تملك الغرب، أو شيئاً منه، كما يرى طرابيشي، يعني أنّ عليك حتماً أن تخسر جزءاً من ذاتك أيها الآخر. وذروة العنف في علاقة هاتين الشخصيتين تجسدت في ذلك المشهد الصاخب الذي "سلّمت" فيه جين نفسها لمصطفى سعيد، الذي مارس معها الجنس وقتلها في الوقت ذاته، وهي مرتاحة راضية.(13)

   

الذي اختفى ليس مجتمعات ما قبل الاستعمار، وطرائق معيشتها فحسب، بل أوروبا ذاتها. ضريبة الاستعمار هذه الكل دفع ثمنها: منتصرين ومهزومين. لم تُعد أوروبا محتفظة بما يسمى "هويتها الخاصة" في عالم ما بعد الاستعمار. لا يمكنك أن تستعمِر العالم وتجعله واحداً ثم تجلس مرتاحاً في طرف قصيّ منه وأنت سعيد بقيمك وعوالمك.(13)

 

لقد حلّ مكان مجتمعات ما بعد الاستعمار مجتمعات أخرى. شرقية أم غربية؟ كلاهما، أو بالأحرى لا شيء منهما، فليس ثمة غرب أو شرق بعد الاستعمار، في الرواية اختفى مصطفى سعيد، لكن الأرستقراطية الأوروبية جين مورس ماتت أيضاً، وهي النتيجة الحتمية لعالمنا الجديد الذي نعيشه منذ قرن ونصف تقريباً، عالم بلا هويّات (14).

المصدر : الجزيرة