شعار قسم ميدان

كيف تحولت "1984" من مجرد رواية لنبوءة العصر الحديث؟

ميدان - جورج أورويل
اضغط للاستماع 

 

عاش "جورج أورويل" حياة حافلة بالأحداث التاريخية الكبرى؛ حيث عاصر -عن قرب- صعود النازية والفاشية، وشهد الحرب العالمية الثانية، وبداية أفول الإمبراطورية البريطانية، ونهاية الفترة الاستعمارية العريضة التي عاشها العالم منذ القرن الثامن عشر، فكان شاهدًا على إعادة تشكيل عالم ما بعد الحربين وفق قوى وأفكار جديدة.
 

وسط ذلك كان "أورويل" مؤمنا بمبادئ الاشتراكية الديمقراطية، وشارك في النضال ضد الحركة الفاشية في أسبانيا وكتب أحد كُتبه "الحنين إلى كاتالونيا" في الثلاثينيات من القرن الماضي؛ تخليدا لنضال الطبقة العاملة في إسبانيا رغم هزيمتها في الحرب أمام الفاشية، وعلى الرغم من اعتباره يساريًا إلا أنه كان يرى صعود "الستالينية" انحرافا وانكسارا للثورة الشيوعية في الاتحاد السوفيتي، وتحولها إلى نظام حُكم شمولي؛ لا يقل سوءًا عن الأنظمة النازية والفاشية(1).
 

على هامش الرواية

يملك "أورويل" تاريخا طويلا من الترحال بحكم خلفيته الصحفية؛ فتنقل بين المُستعمرات الإنجليزية، وعاش فترة طويلة في بورما إحدى تلك المُستعمرات، ومر بتجربة تشرُّد طويلة في ضواحي باريس ولندن. وقد ساهمت رحلاته وتجاربه المتنوعة في خلق محتوى رواية 1984، إلا أن الدافع الأهم في كتابة الرواية كان الحضور الثقيل للنموذج "الستاليني" في روسيا ودول الاتحاد السوفيّتي، وكذا معاينته للسُّلطة الاستعمارية البريطانية خارج أوروبا.
 

من هنا انطلقت الرواية كعمل فني من مساحة الخيال السياسي، فـ"جورج أورويل" أحد الكتاب الذين حوّلوا مسألة الخوف من المستقبل -خاصة من التطورات المرعبة لتشكلات السُلطة السياسية الحديثة -إلى نقاش سياسي- معرفي نقدي؛ حول واحدة من أهم ظواهر القرن العشرين وهي ظاهرة السلطة التوتاليتارية (وهي السلطة الشمولية الكلية التي تحاول فرض سلطتها على المجتمع، وتعمل على السيطرة على كافة جوانب الحياة الشخصية والعامة قدر إمكانها)، كنمط ديكتاتوري حديث في ممارسة السُلطة يهدف إلى التحكم الكامل في الأفراد (2).
 

 وقد جعل أورويل -بشكل مباشر- المسائل السياسية لعصره وقضاياه مواضيع بعض من نصوصه الأدبية، وحسب قوله فإن هدف كتاباته الرئيس بعد عام 1936 كان الاهتمام بالمسائل السياسية أو "جعل الآراء السياسية فناً" (2).
 

رغم طابعها الأدبي، اعتبرت رواية 1984 في هذا السياق من أحد أهم الأعمال الأدبية السياسية في القرن العشرين، ونادراً ما نرى كتاباً قُرئ مثله

وفي هذا المجال، كتب "أورويل" روايتين مهمتين وهما "مزرعة الحيوانات" المكرّسة لتناول التجربة الاشتراكية في روسيا، أما الثانية فهي رواية "1984" التي تظهر ذلك العالم الذي تصنعه السُلطة التوتاليتارية في المستقبل. كتب الأُولى عام 1945 والثانية عام 1949، و مات صاحب هاتين الروايتين في عام 1950؛ أي بعد عام واحد من نشر "1984".
 

يرى بعض الكتاب بأنّ رواية "1984" مهمّة في فهم القرن العشرين، مثلما كان كتاب "ليفاثيان، أو التنين" لـ "هوبز" مهماً لفهم القرن السابع عشر، ذلك لأنهما تناولا تأسيس عالم جديد وأنظمة سياسية قيد التكوين. وأنهما -أيضاً- يتطرقان لولادة دولة تتسم شخصيتها بالوحشية. ورغم طابعها الأدبي، اعتبرت رواية 1984 في هذا السياق من أحد أهم الأعمال الأدبية السياسية في القرن العشرين، ونادراً ما نرى كتاباً قُرئ مثله، وأصبحت مفرداته جزءاً من اللغة اليومية للناس(3).

 

موضوع الرواية
يُظهر أورويل السلطة طوال الرواية وهي تعمل على ضبط المجتمع ومراقبة سلوك الأفراد فيه، وتتحكم، وتمارس سلطتها ورقابتها على الأفراد
يُظهر أورويل السلطة طوال الرواية وهي تعمل على ضبط المجتمع ومراقبة سلوك الأفراد فيه، وتتحكم، وتمارس سلطتها ورقابتها على الأفراد

في رواية جورج أورويل (1984) يتخيل الكاتب أن هناك، في دولة ما، أربع وزارات تشكل الجهاز الحكومي، إحدى هذه الوزارات هي وزارة "الحقيقة"، وهي "تختص بشؤون الأخبار، ووسائل اللهو، والاحتفالات والتعليم، والفنون الجميلة"، وكان "ونستون"، الشخصية الرئيسة في الرواية، يعمل موظفًا في وزارة الحقيقة، ويقوم بمراجعة كل المطبوعات وإعادة صياغتها بما يتوافق مع ما يراه الحزب الحاكم: "فالتاريخ كله كان بمثابة لوح تم تنظيفه لإعادة النقش عليه بما تستلزمه مصلحة الحزب".
 

ليُظهر السلطة طوال الرواية وهي تعمل على ضبط المجتمع ومراقبة سلوك الأفراد فيه، وتتحكم، وتمارس سلطتها ورقابتها على الأفراد ليس فقط بالعنف والقمع المباشر ضد أي خروج عليها وعلى قيّمها وأخلاقها السائدة؛ ولكن أيضا من خلال عملية إنتاج المعرفة، وإعادة صياغتها دائمًا بما يتوافق مع مصلحتها واستمرار سلطتها(4).

 

السُلطة والمعرفة أو ما الاستبداد الحديث؟
 

"أنت لا تملك سوى تلك السنتيمترات المكعبة داخل جمجمتك"

 بشكل أدبي روائي يكشف "أورويل" عن ثنائية مهمة جدا في فهم كيف تتشكل السُلطة الحديثة بشكل عام، وهي ثنائية السُلطة والمعرفة، فلا وجود حقيقي للسُلطة دون المعرفة؛ وتتحول تلك الثنائية "السلطة والمعرفة" داخل الأنظمة الشمولية الحديثة إلى شيء واحد؛ بحيث تُصبح السُلطة هي المعرفة؛ أو بمعنى أدق: السُلطة هي أداة احتكار إنتاج المعرفة(5).
 

صورة تمثيلية لرواية
صورة تمثيلية لرواية "1948" -في المعتقل- تعكس حجم النزوع السلطوي الشمولي للسلطة  (غيتي)

لذلك أحد أهم أهداف السُلطة الشمولية -كما يظهر في الرواية- هو عملية السيطرة على كل الأشكال الذاتية لتوليد المعرفة، كالخيال، والرمز، واللغة، والعقل، وأنماط العلاقات الاجتماعية والإنسانية؛ حيث تتكرر طوال الرواية عبارات على لسان مُمثلي السُلطة توضح حجم النزوع السُلطوي الشمولي تجاه كل ما من شأنه أن يخلق لدى الفرد استقلالية في التفكير، وقدرة ذاتية على إنتاج المعرفة: 

 "إنّ سبب وجودك هنا (المعتقل) يكمن في رغبتنا في مداواة علّتك، لنجعلك سليم العقل.. إننا لا نكترث للجرائم الحمقاء التي اقترفتها. فالحزب لا يهمّه ما تأتيه من أفعالٍ مكشوفة، إنما يهمّه أكثر ما يدور في رأسك من أفكار. نحن لا نحطم أعداءنا فحسب. وإنما نغير ما في أنفسهم".
 

اتسمت الديكتاتورية في القرن العشرين بالقدرة على امتلاك وإدارة نظام يهدف إلى السيطرة على الأفراد "مثال شاشات الرصد في الرواية " وهي عملية التحكم الكامل بوعي الأفراد وأجسادهم ووضعهم تحت المراقبة الدائمة

اعتبر "أورويل" فى الرواية أن أول بوادر مقاومة السُلطة هي امتلاك القدرة على الخيال، فتخيل وجود لحظة أبعد من اللحظة الراهنة التي تحاول السُلطة تأبيدها، والقدرة على الحلم بوجود واقع مختلف وحياة أفضل، ومساحة جديدة للتعاطي مع الحياة غير تلك التي تحددها السُلطة(6)، ليرسل رسالة على لسان بطل الرواية "ونستون سميث" الذي يرى أمام ناظريه كيف يتم تزوير التاريخ ويُغيَّر الماضي ويتم التلاعب بمعطيات الحاضر:

"إلى المستقبل ‏أو الماضي، إلى الزمن الذي يكون الفكر فيه حراً طليقاً، ‏إلى زمن يختلف فيه الأشخاص عن بعضهم البعض، ولا يعيش كل منهم في عزلة عن الآخر، إلى زمنٍ تظل الحقيقة فيه قائمة ولا يمكن فيه لأحد أن يمحو ما ينتجه الآخرون.. وإليكم، من هذا العصر الذي يعيش فيه الناس متشابهين، متناسخين، لا يختلف الواحد منهم عن الآخر، من عصر العزلة.. تحياتي!"(7).

 

ما التوتاليتارية أو كابوس الحداثة؟!

"من يسيطر على الماضي يسيطر على المستقبل، ومن يسيطر على الحاضر يسيطر على الماضي"

يذهب العديد من الباحثين إلى أن الصورة التي رسمها "جورج أورويل" هي صورة غير قابلة للتحقق واقعيا؛ لكن ما فعله "أورويل" تحديدا هو أنه استخدم أدب الخيال السياسي في مد خط الحلم الحداثي إلى أٌقصى استقامته (8).
 

 حيث ركز في الرواية على شكل النزوع السلطوي الخاص الذي طالما اتسمت به ظاهرة الديكتاتورية في القرن العشرين؛ وهو الشكل الشمولي الكلي للديكتاتورية الحديثة؛ وهو ما تمت تسميته أكاديميًا بالتجربة التوتاليتارية، وهي ظاهرة نتاج لتطور الحداثة في القرن العشرين بشكل حصري والتي اختلفت من وجوه كثيرة عن تجارب المنظومات الديكتاتورية التي سبقتها.
 

صورة تمثيلية توضح عملية التحكم الكامل بوعي الأفراد وأجسادهم ووضعهم
صورة تمثيلية توضح عملية التحكم الكامل بوعي الأفراد وأجسادهم ووضعهم "تحت المراقبة الدائمة" من قبل السلطة بالقرن العشرين  (غيتي)

فلقد اتسمت الديكتاتورية في القرن العشرين بسمة جديدة لم يسبق أن اتسم بها التاريخ الإنساني، وهي القدرة على امتلاك وإدارة نظام يُشَغَّل القدرات التكنولوجية والعلمية والإنسانية للقرن العشرين بهدف السيطرة على الأفراد "مثال شاشات الرصد في الرواية "، حيث تصبح السيّطرة هنا هي عملية التحكم الكامل بوعي الأفراد وأجسادهم ووضعهم تحت المراقبة الدائمة، وتوظيفهم كمادة وأدوات لصالح السُلطة.
 

لا يكتفي النظام التوتاليتاري بإخضاع المجتمع والأفراد وإجبارهم على قبول خطوطه السياسية العامة، إنما يحاول إعادة صياغة المجتمع والأفراد بشكل كامل عن طريق إعادة تشكيل ذاكرتهم الفردية والمجتمعية، وتاريخهم ووعيهم بذواتهم؛ صياغة يصبح فيه حضور االسُلطة حضورًا مطلقًا، كجزء من جميع الخلايا الاجتماعية والنفسية للفرد، خالقًا بذلك مجتمعا قائما على الشك والمراقبة والعزُلة وتجنيد الأفراد لصالح السُلطة(9).
 

"إننا لا نحطم الضّال الذي خرج علينا عندما يقاومنا؛ بل إننا لا نقدم أبدًا على تدميره طالما أنه يقاومنا، وإنما نسعى لأن نغيره، ونقبض على عقله الباطن فنصوغه في قالب جديد. إننا نبدد فكره ونجعله واحدًا منا".

وكما تقول "حنة أرندت"، فقصّة التوتاليتارية، ليست قصّة قوة تنتهي بالوصول إلى السلطة والاستيلاء على أجهزة الدولة، إنما هي قصة الهيمنة الشمولية. هيمنة متمثلة بالحضور والنشاط في مجمل الأبعاد الاجتماعية والنفسية للمجتمع والأفراد، قصة تستمر فيها السُلطة بالتمدد لتأكل المجتمع بأسره؛ مكونة حالة عدمية قاتلة للسياسة والذات الفردية وكل أشكال المجتمع المدني(10).
 

"دافع الاضطهاد هو الاضطهاد! ودافع التعذيب هو التعذيب! ودافع السُلطة هو السُلطة! هل بدأت تفهمني الآن؟"

 

نبوءة العصر الحديث

إن الذي يثير الاهتمام في رواية "1984" هو حضور خوف كبير من تلك الإمكانات التقنية-السُلطوية؛ التي وفرها القرن العشرون أمام الديكتاتوريين، وهذا الخوف إنما هو خوف حديث، مصدره هو التنامي المستمر لتلك السلطة السياسية التي خصّت ذاتها بجملة وسائل وآليات توفر السيطرة والترويض على المجتمع بالكامل.
 

 فالخوف من قدرة الديكتاتوريين أو الأنظمة الديكتاتورية في إخضاع جميع الأبعاد الاجتماعية والفردية، وحياة الإنسان الخارجية والداخلية، هو ذلك الخوف الذي صنعه القرن العشرون وجعله جزءاً من قلق مُثقفيه وأدبائه. لقد وقف كل من النموذج "الهتلري" و"الستاليني" وراء هذا الخوف ذاته في النصف الأول من القرن، أما في عقوده الأخيرة فتجسّد في الدولة الـبعثية والخُمينية، وعدد غير قليل من الدول الما بعد- كولونيالية (11).
 

فقد رسم "أورويل" في الرواية صورة عالم شمولي -خيالى إلى حدٍ ما- عالم مبني على شيوع ثقافة المراقبة، وهدم كل أشكال الثقة التي قد تتشكل بين الأفراد، ورغم أن رواية "أورويل" ليست كتابا نظريا عن ظاهرة الشمولية، إنما يمكن العثور فيها على غالبية تلك العناصر التي نجدها في النظريات السياسية حول النظام الشمولي، حتى في تلك النظريات التي ظهرت بعد كتابة الرواية.

المصدر : الجزيرة