شعار قسم ميدان

فن الرواية.. ملحمة العصر الحديث!

midan - library novel

"الرواية هي ملحمة عالمٍ بلا آلهة!"

(جورج لوكاتش)

 

عندما كتب الأديب الإسباني ميخائيل دي ثربانتيس روايته الشهيرة "دون كيشوت" في مطلع القرن السابع عشر، لم يكن يعلم أنه بذلك يؤسس لنمط جديد في السرد الأدبي يقوم على سرد الواقع اليومي المعاش، وأن هذا النمط الجديد الذي ابتكره بشكل عفوي سيصبح بعد ذلك علامة فارقة تدل على نقلة نوعية في الذوق والوعي الأوربي.

 

يمتاز كل زمن بأسلوب خاص في السرد يعبر عن روحه وقيمه[1]، ففي العصور التاريخية القديمة كان الشعر الملحمي هو النمط السردي المعبر عن روح العالم القديم ومعتقداته، حيث برزت أعمال شعرية ملحمية كالإلياذة والأوديسة والتي تحكي عن أبطال ذلك المجتمع وصراعاته،بما فيها من محاورات بين الأبطال والآلهة الإغريقية وتدخلّ هذه الأخيرة في خطّ سير الأحداث. بينما عبر أدب الفروسية عن روح العصر الوسيط وقيمه السائدة التي ارتبطت بطبقة النبلاء الحاكمة، ومنها كلاسيكية فرسان الطاولة المستديرة، التي تدور أحداثها في فرنسا العصور الوسطى والتي تُرجمت إلى عشرات اللغات، وأُنتجت على شكل قصة قصيرة ليستلهم منها الناشئون قيم النبل والفروسية التي سادت ذلك العصر.

 

يكاد ينعقد الإجماع على أن الرواية بصورتها التي نعرفها الآن كانت قد ظهرت في المجتمع الأوروبي الحديث، فهي بذلك تعد الأسلوب الذي عبّر من خلاله المجتمع الحديث عن قيمه ونمط عيشه، إلا أن الآراء التي تناولت تفسير أسباب نشأة فن الرواية تحديداً في العصر الحديث كانت قد بلغت من الكثرة إلى حد التعارض فيما بينها، تأتي على رأس هذه المقاربات التفسيرية نظرية الفيلسوف الألماني هيغل والتي فتحت الباب أمام العديد من المقاربات النقدية التي تفاعلت مع أطروحة هيغل سواء بالنقد والتعديل أو بالدعم والتأييد.

 

هيغل: الرواية بديلاً عن الملحمة
الفيلسوف الألماني جورج فريدريش هيغل (1770 - 1831) (غيتي)
الفيلسوف الألماني جورج فريدريش هيغل (1770 – 1831) (غيتي)

يقدم الفيلسوف الألماني جورج فريدريش هيغل تفسيراً لنشأة الرواية في العصر الحديث بصورة مرتبطة تماماً بأطروحته الفلسفية التاريخية والتي يرى فيها أن مسار التاريخ الإنساني ليس سوى مسار لتطور الوعي البشري، وبذلك يضع هيغل الرواية في مقابل الملحمة، فالأخيرة هي "الصورة التعبيرية عن الوعي في المجتمع القديم، بينما الرواية هي الصورة التعبيرية الملائمة لحالة الوعي في المجتمع الحديث"[2].

 

ولفهم هذه الأطروحة بصورة صحيحة فإنه لابد من تسليط الضوء قليلاً على فلسفة تطور الوعي عند هيغل، حيث يرى أن التاريخ الإنساني محكوم بالقانون التطوري، فالوجود الإنساني بكل تجلياته -بما في ذلك تجلياته الأدبية والفنية- في تطور مستمر من "حالة اللاوعي إلى الوعي، ومنه إلى درجة أعلى وهي درجة الوعي المطلق"[2]، وخلال هذا التطور تحل منتجات الوعي الحديث محل الوعي القديم.

 

بحسب هيغل فإن الملحمة كانت التعبير الملائم لنمط عيش المجتمعات القديمة، وهي المجتمعات التي آمنت بوجود قوى خارقة تتجاوز الطبيعة وعوالم غيبية تؤثر في مصير الإنسان على الأرض وتسيير حركة الكون، ومن هنا فقد عبرت هذه الملاحم الشعرية عن روح ذلك العصر فأخذت تسرد الصراع الدرامي بين هذه القوى الغيبية وإرادة الإنسان.

 

لكن الإنسان الحديث لم يعد يؤمن بوجود هذه القوى الغيبية وتلك الأرواح القادرة على تسيير حركة الإنسان والطبيعة، وإنما بات العالم -من منظور هذا الإنسان- ينتظم وفق قوانين عقلية، وبالتالي لم تعد هذه الملاحم بما حملته من تصورات عن الكون والآلهة لتلائم وعي الفرد والمجتمع الحديث، وهو ما اقتضى بطبيعة الحال البحث عن نمط جديد من السرد يتسق مع معطيات واقع العصر الحديث وقيمه.

يشير هيغل إلى أن أدب الفروسية كان يعبر عن روح النظام الإقطاعي وقيم الفروسية السائدة، لكن ما إن أخذ النظام الإقطاعي يضمحل ويخفت، حتى باتت قيم الفروسية محل سخرية
يشير هيغل إلى أن أدب الفروسية كان يعبر عن روح النظام الإقطاعي وقيم الفروسية السائدة، لكن ما إن أخذ النظام الإقطاعي يضمحل ويخفت، حتى باتت قيم الفروسية محل سخرية

يشير هيغل إلى أن أدب الفروسية الذي"صور أولئك الأبطال الشجعان الفخورين باستقلاليتهم ونبلهم… والذين يتحلون بحس العدالة، ويريدون بالتالي أن يتحكموا باستقلال تام بالأحداث التي تدور حولهم" كان يعبر عن روح النظام الإقطاعي وقيم الفروسية السائدة فيه، لكن ما إن أخذ هذا النظام الإقطاعي يضمحل ويخفت، ويحل مكانه نظام يقوم على العقلنة والمساواة، حتى باتت قيم الفروسية محل سخرية "على النحو الذي صوره لنا الروائي الإسباني ثربانتيس في روايته دون كيشوت"[2]، حيث يصارع الفارس الذي يرمز لذلك العصر، طواحين الهواء وهو الأمر الذي مثل استعارة بارعة لأفول هذا الزمن، فمعركة هذا الفارس هزلية، وغريبة عن الزمن الحديث.

 

وبناءً عليه، فقد كان لابد من حدوث تغييرات على أسلوب السرد والتعبير، وعلى المضامين المعرفية الذي يحملها السرد الأدبي، فإن كانت "الملحمة هي ابنة العقلية القديمة التي تتصور العالم مليئاً بالآلهة والأرواح الفاعلة المؤثرة، العالم الذي يلفه السحر والأشباح"[2] فإن الرواية هي ابنة العقلية الحديثة التي تجاوزت التصورات الغيبية السحرية، وبذلك فقد قامت الرواية بتصوير العالم المعيش في واقعيته.

 

جورج لوكاتش: الرواية ملحمة الطبقة البرجوازية

إذا كان الفيلسوف الألماني هيغل قد علل نشأة الرواية بتطور الوعي الإنساني تجاه الكون والطبيعة، فإن الفيلسوف الماركسي جورج لوكاتش سيبني على هذه الأطروحة مستفيداً من إسهام الفيلسوف الألماني الآخر كارل ماركس ونظريته المادية في التحليل الإجتماعي للطبقات، حيث سيقوم لوكاتش بتقديم تفسير لظهور الرواية من منظور الصراع الطبقي.

وبحسب لوكاتش فإن الرواية تكون بذلك "ملحمة الطبقة البرجوازية"[3]، حيث ظهر هذا الضرب الجديد من الأدب بصورة متزامنة مع الثورة الصناعية وصعود الطبقة البرجوازية على مسرح التاريخ في القرن السابع عشر، وكما أن لكل طبقة ملحمتها الخاصة، فإن الرواية هي ملحمة الطبقة البرجوازية والتي من خلالها عبرت فيها هذه الطبقة عن نفسها ونمط حياتها.

لقد كان السرد الروائي هو الأسلوب الأمثل لنمط الحياة البرجوازية الفردانية، حيث يمكننا من خلال الرواية أن نعطي صورة بانورامية للحياة الحديثة وأنماط التبادل والعلاقات بين أفراد المجتمع الحديث
لقد كان السرد الروائي هو الأسلوب الأمثل لنمط الحياة البرجوازية الفردانية، حيث يمكننا من خلال الرواية أن نعطي صورة بانورامية للحياة الحديثة وأنماط التبادل والعلاقات بين أفراد المجتمع الحديث

ولكن لماذا كانت الرواية تحديداً هي الأسلوب الذي اختارته الطبقة البرجوازية للتعبير عن نفسها؟  بحسب لوكاتش فإن الشعر الملحمي لا يستطيع مجاراة إيقاع الحياة الحديثة وتسارعها المطرد، بالتالي فقد كان السرد الروائي هو الأسلوب الأمثل لنمط الحياة البرجوازية الفردانية، حيث يمكننا من خلال الرواية فقط أن نعطي صورة بانورامية للحياة الحديثة وأنماط التبادل والعلاقات بين أفراد المجتمع الحديث.

 

لا يكتفي لوكاتش بالتفسير المادي لنشأة الرواية، حيث يعود مجدداً إلى أطروحة الوعي عند هيغل، فيرى أن "الرواية هي ملحمة عالم بلا آلهة"[3]، ويقصد بذلك -كما يشير الناقد الأدبي حنا عبود- "أن البرجوازية الصاعدة التي فرضت قيمها على المجتمع، حملت معها تصوراً -أو وعياً- عن العالم يختلف عن التصور القديم عند اليونان. فصورة العالم في ذهن البرجوازية تتألف من قوى مادية ملموسة، وليس من أرواح وأشباح؛ فما يتقرر على الأرض يقرره البشر وحدهم من دون تدخل أي قوة من القوى الغيبية"[3].

 

وهكذا انعكس هذا الوعي البرجوازي العلماني للعالم -إن صح التعبير- على الرواية ذاتها، والتي جسدت الواقع اليومي المعاش وأنماط التبادل والعلاقات بين أفراد المجتمع الحديث دون إحالات غيبية أو تدخل لقوى خارقة خارج الطبيعة، فالتصور الذي تحمله الرواية هو من صنع الطبقة البرجوازية، تماماً كما أن الملاحم عكست تصور طبقة النبلاء عن العالم.

 

إن مسألة التصور الذهني عن العالم، هي أهم عنصر يميز الرواية عن الملحمة، فالمسألة لا تتعلق بحلول الرواية محل الشعر الملحمي كنتيجة لتطور الوعي كما ذهب هيغل، فبحسب لوكاتش فإن هناك ملاحم شعرية حديثة جسدت هذا الوعي العلماني الحديث للعالم، كما هي ملحمة ملتون "الفردوس المفقود" والتي تدور حول طرد إبليس من السماء لأنه طالب بالمساواة والديمقراطية، وهكذا يرى البرجوازي أنه "يواجه العالم وحيداً، دون إله يقف ضده أو إلى جانبه" فالبرجوازي يصنع العالم من خلال العمل لا بالدعاء وانتظار تدخل القوى الغيبية[3].

 

الرواية كتجسيد للثقافة الشعبية
لم تكن لتظهر الرواية إلا بعد أن فقدت اللغة اللاتينية مكانتها كلغة مقدسة، حيث كانت هذه اللغة هي لغة الطباعة الوحيدة في أوروبا وبواسطتها كتبت النخب الدينية والثقافية أعمالها
لم تكن لتظهر الرواية إلا بعد أن فقدت اللغة اللاتينية مكانتها كلغة مقدسة، حيث كانت هذه اللغة هي لغة الطباعة الوحيدة في أوروبا وبواسطتها كتبت النخب الدينية والثقافية أعمالها

على النقيض مما ذهب إليه لوكاتش حيث جعل الرواية منتجاً يحاكي قيم الطبقة البرجوازية ونمط عيشها وتصورها عن العالم، يذهب كل من الناقد الروسي ميخائيل باختين وعالم الاجتماع بنديكت أندرسن إلى أن الرواية تعبير عن الثقافة الشعبية والقيم الجمعية للمجتمع الحديث. فبحسب بندكت أندرسن في كتابه "الجماعات المتخيلة" فإن الرواية لم تكن لتظهر إلا بعد أن فقدت اللغة اللاتينية مكانتها كلغة مقدسة، حيث كانت هذه اللغة هي لغة الطباعة الوحيدة في أوروبا وبواسطتها كتبت النخب الدينية والثقافية أعمالها سواء الأعمال الدينية أو الأدبية أو الفلسفية[4].

 

ولأن اللغة اللاتينية كانت لغة النخبة وحسب، فإن تلك الأعمال التي كُتبت بواسطتها لم تستطع أن تعبر عن الثقافة الشعبية واقتصر تداولها بين النخب، لكن وما إن أخذت اللغات المحكية والمحلية تستقل عن اللغة اللاتينية الكلاسيكية، وترقت بعد ذلك لتصبح لغات طباعية قومية رسمية، حتى ظهرت الرواية مع اللغات القومية وعبرت بذلك عن الثقافة الشعبية وبواسطة ذات اللغة التي تستخدمها فئات المجتمع المختلفة[4].


تظل الإجابة على سؤال "كيف نشأ فن الرواية؟" مفتوحة على احتمالات عديدة..، وغاية ما تفعله النظريات والمقاربات هو تقديم تفسيرات محتملة للنشأة بأثر رجعي

يشير الناقد الروسي ميخائيل باختين إلى هذا قائلاً "أن اللغة المستخدمة في السرد الروائي، وهي اللغات المحكية المحلية هي أول ناحية تختلف فيها الرواية عن الملحمة، وبالتالي عن البرجوازية. لغة الرواية ليست رفيعة المستوى على غرار الملحمة، كما أنها من ناحية أخرى ليست من صنع البرجوازية، بل نتيجة إسهام الطبقات والفئات التي تركن في قاع المجتمع"[2].

يرى باختين أن الرواية حين ظهرت كانت قد تناولت الشخصيات الشعبية بصورة رئيسية، "فالمعتوه والمجنون والمتشرد واللص والنشال والمهرج والمبروك والديوث، سواء أكانت هذه الشخوص من الرجال أو النساء إنما نجدها في الطبقات الشعبية، وهذه الطبقات على الأقل مما دون الطبقة الوسطى وليس فوقها"، وهكذا تكون الرواية قد عبرت عن الفلكلور الشعبي بواسطة اللغات المحلية المحكية[3].

 

وإجمالاً، تظل الإجابة على سؤال "كيف نشأ فن الرواية؟" مفتوحة على احتمالات عديدة، خاصة وأننا نتحدث عن ضرب من الأدب والفن، وبالتالي فإن تعيين عوامل مادية لنشأة الفنون عامة والرواية بشكل خاص يعد مجهوداً شائكاً منذ البداية، وغاية ما تفعله النظريات والمقاربات هو تقديم تفسيرات محتملة للنشأة بأثر رجعي.

المصدر : الجزيرة