شعار قسم ميدان

كوخ العم توم.. الرواية التي أشعلت فتيل الحرب الأهلية الأميركية

"كوخ العم توم"

بينما كانت الحرب الأهلية الأميركية (1861- 1865) قد اندلعت لتوها، كان الرئيس الأميركي أبراهام لنكولن -الذي وعد في حملته الانتخابية بإلغاء العبودية وهو ما أدى لاندلاع تلك الحرب فور وصوله للحكم- يجلس في البيت الأبيض إلى جانب الروائية الأميركية هارييت بيتشر ستو؛ حيث قال لنكولن  مازحاً أثناء استقباله للكاتبة "إذن هذه السيدة الصغيرة هي المسئولة عن تلك الحرب الكبيرة"[1]، في إشارة منه إلى الأثر العظيم الذي أحدثته رواية "كوخ العم توم" للكاتبة ودروها في تشكيل وعي شعبي جديد يقوم على رفض العبودية وتأجيج المشاعر ضدها.

 

وهنا يحق لنا التساؤل -كما ذهب د. الطيب بو عزة- هل يمكن لحفنة من الصفحات أن تشعل ثورة وتغير مسار تاريخ بلد بأكمله؟، بل هل باستطاعة رواية أدبية أن يتجاوز أثرها حدود التأثير الفني والجمالي والوجداني، وتقتحم ميدان التاريخ السياسي فتقلبه رأساً على عقب؟

 

إذا ما تتبعنا التاريخ الثقافي الإنساني فإننا سنجد أن بعض الكتب والدعوات كان لها الأثر الحاسم في إحداث تغيير جذري في الواقع، وقد كانت هذه الكتب في الغالب تعاليم دينية أو فلسفية؛ حيث تتسم هذه الأصناف من الكتب ببلورة تصورات جديدة للوجود بكافة مستوياته الأخلاقية والمعرفية والاجتماعية، ما ينعكس مباشرة على الواقع الاجتماعي والسياسي، وذلك حين تتحول هذه التصورات إلى ضرب من التفكير تحمله جماعة تتكتل كقوى تغييره من أجل تجسيده في الواقع[2].

الرئيس الأميركي لنكولن

إلا أنه من النادر أن نقع على أعمال أدبية أحدثت تحولات أفضت إلى تغيير الواقع الاجتماعي والسياسي؛ فالأدب يمكن أن يغير الأذواق العامة، كما أن بإمكانه تجييش العواطف الفردية أو الجماعية تجاه حدث أو قضية ما؛ لكن أن ينتقل هذا التجييش من مستوى التأثير النفسي والجمالي، إلى إحداث تغيير سياسي فذاك أمر جد استثنائي، وهو ما حدث مع رواية "كوخ العم توم" والتي تعد واحدة من بين عوامل عديدة أسهمت في تغيير المزاج والرأي العام الأميركي تجاه العبودية وأدت إلى مناهضتها والمطالبة بإلغائها، وهو ماتم على يد الرئيس الأميركي لنكولن عام 1863.

 

تأثير كبير

صدرت رواية "كوخ العم توم" في العام 1852، أي قبل اندلاع الحرب الأهلية الأميركية بعقد من الزمان تقريباً، حتى صار الكتاب الأكثر مبيعاً في القرن التاسع عشر بعد الإنجيل، فخلال عام واحد من صدورها فقط، بيعت في الولايات المتحدة الأميركية وحدها 300 ألف نسخة من الكتاب، بينما بلغ حجم النسخ التي بيعت في المملكة المتحدة البريطانية قرابة المليون ونصف نسخة خلال عام واحد، وهو ما يعد رقماً مهولاً بمقاييس تلك الحقبة[2]!

 

أكسبت الرواية كاتبتها شهرة واسعة ففي العام 1853 حين قامت بزيارة بريطانيا لضمان حقوق النشر والتوزيع، استُقبِلت ستو استقبالا باهراً من قبل حشود ضخمة في الشوارع، وقد قُدمت لها عريضة جلدية تزن أكثر من 26 باوند موقعة من قبل نساء بريطانيات من حول العالم يطالبن فيها بإلغاء العبودية، هذا فضلا عن تلك الدعوات التي حرص النبلاء البريطانيون على توجيهها لها[3].

الملكة البريطانية فيكتوريا

ولم تقف شهرة ستو عند هذا الحد، فقد حرصت الملكة البريطانية فيكتوريا على أن تلتقيها خلال زيارتها لبريطانيا، ورتبت لذلك لقاءً مع الكاتبة أثناء تواجدها في إحدى شوارع لندن، وذلك على الرغم من نصيحة عدد من مستشاري الملكة بعدم لقاء شخصية مثيرة للجدل كستو، كما لاقت الكاتبة في جولاتها إلى عدد من الدول الأوروبية ذات الترحيب والاستقبال الحافل الذي لاقته في بريطانيا[3].

 

ونتيجة للشهرة الضخمة التي حظيت بها الكاتبة من خلال روايتها "كوخ العم توم"، باتت ستو أيقونة للنضال ضد الرق والعنصرية، وقد تلقت عشرات الدعوات من قبل جمعيات مناهضة للعبودية، كما أن اسمها بات يتصدر عناوين الصحف والمجلات الكبرى كصحيفة النيويورك تايمز الأميركية والأنديبندنت البريطانية، كما بات حضورها في المحافل الدولية المناهضة للعنصرية أمراً ثابتاً وبديهياً.

 

اندلعت الحرب الأهلية الأميركية عام 1861 واستمرت لأربعة أعوام متتالية، وذلك على إثر وصول الرئيس الأميركي أبراهام لنكولن إلى السلطة؛ والذي كان قد وعد بإلغاء العبودية في حملته الانتخابية، ما أدى إلى تمرد عدد من ولايات الجنوب الأميركية التي كانت تعتمد في اقتصادها على نمط الإنتاج الزراعي؛ وبالتالي كان العبيد يمثلون قوة عاملة مهمة وضرورية لاستمرارية هذا النمط الاقتصادي.

 

لاشك أن هناك عوامل موضوعية عديدة أدت لاندلاع الحرب، ومن السذاجة بمكان إرجاع أسبابها إلى تأثير الرواية وحده، فهناك العوامل الاقتصادية التي ذكرناها آنفاً، وهناك العوامل المناطقية المتمثلة في الصراعات الشمالية / الجنوبية، لكن أحداً لا ينكر تأثير رواية كوخ العم توم وشخصية كاتبتها ستو في تغيير الرأي العام الأميركي؛ بل والأوروبي من قضية العبودية بما لم تفعله مئات الخطابات السياسية الرنانة.

اندلعت الحرب الأهلية الأميركية عام 1861 واستمرت لأربعة أعوام متتالية (غيتي)
اندلعت الحرب الأهلية الأميركية عام 1861 واستمرت لأربعة أعوام متتالية (غيتي)

وخلال الحرب الأهلية وجهت ستو الكثير من الانتقادات إلى الرئيس لنكولن لتأخره في إنجاز استحقاق تحرير العبيد، وذلك نتيجة الظروف التي أنتجتها الحرب ومحاولته استمالة بعض القوى المتمردة، كما قامت بشن حملة ضد الحكومة البريطانية لاستمرارها في التجارة مع موردي القطن الجنوبيين[3].

 

واستطاعت كوخ العم توم أن تضرب على وتر إنساني حساس، فأوجدت لها مكانة في التراث الأميركي والإنساني برمته؛ حيث تُرجمت الرواية لأكثر من ستين لغة، ولا يزال تأثيرها باقٍ حتى يومنا هذا في الوجدان الأمريكي والإنساني، فقد استعادت السينما الرواية وحولتها لمادة مصورة في أكثر من عمل سينمائي، كان آخرها حين حل العم توم ضيفاً على السينما في العام 1987 ببطولة الممثل الأميركي الشهير صامويل جاكسون، كما أن الرواية لا تزال تُدرّس في المدارس والجامعات الأميركية باعتبارها عملاً يتصل بالتاريخ والثقافة الأميركية.

 

كما اتثبت رواية "كوخ العم توم" قدرة الأدب في إحداث فارق على مستوى الوعي والواقع، كما قالت الروائية الأميركية جين سمايلي الحائزة على جائزة بولتيزر، فإن "الأدب يجب أن يساعدنا على مواجهة المسئوليات لا تجنبها، فقد غيرت كلمات ستو العالم؛ وشجاعتها في التقاط قلمها يلهمنا الإيمان بقدرتنا على التأثير نحو تغيير إيجابي، فكوخ العم توم وقصته القوية تتحدانا كي نواجه الماضي الأميركي الشائك ونربطه بقضايا اليوم"[3].

 

العم توم

أجادت رواية كوخ العم توم تصوير الآلام البشرية الناجمة عن الرق والعبودية، ونقل مشاعر الأمهات اللواتي انتُزع أطفالهن منهن ليباعوا في سوخ النخاسة (غيتي)
أجادت رواية كوخ العم توم تصوير الآلام البشرية الناجمة عن الرق والعبودية، ونقل مشاعر الأمهات اللواتي انتُزع أطفالهن منهن ليباعوا في سوخ النخاسة (غيتي)

قبل الاستهلال بعرض الرواية من المناسب طرح التساؤل التالي، ما الذي جعل رواية العم توم تكتسب كل هذه الشهرة، وتُحدِث كل ذلك التأثير الذي أحدثته في مسار التاريخ والوجدان الأميركي؟

 

إنها -كما يصفها د. الطيب بو عزة- "رواية الحرية، وصوت يندد باستعباد الإنسان لأخيه الإنسان" [2]، وقد استطاعت ستو أن تحشد فيضاً من المشاعر الإنسانية والقيم الدينية بلغة بسيطة قريبة من النفس، كما أجادت تصوير الآلام البشرية الناجمة عن الرق والعبودية، ونقل مشاعر الأمهات اللواتي انتُزع أطفالهن منهن ليباعوا في سوخ النخاسة، وإذا كانت الرواية من الناحية الفنية تعد من النصوص السردية البسيطة في حبكتها الدرامية؛ فإن بساطتها هذه هي التي مكنتها من إحداث هذا التأثير والانتشار الواسعين.

 

إضافة لذلك، فقد أشارت ستو في كتاب أصدرته بعنوان "المفتاح إلى كوخ العم توم" أنها استندت في روايتها على سيرة ذاتية لعبد أسود تمكن من الفرار إلى كندا عام 1830، ثم قام بإيواء الفارين من العبودية ومساعدتهم في الحصول على عمل، كما أنها قامت بإجراء مقابلات مع عدد من العبيد الفارين من أسيادهم، مستمعةً لمعاناتهم وقصص فرارهم من أيدي صائدي العبيد، وأن هذه القصص الواقعية التي استمعت لها ستو والتي جسدتها في روايتها كان لها بالغ التأثير على المتلقي وشحذ عواطفه الإنسانية ضد العبودية والعنصرية[1].

 

والعم توم زنجي أسود قوي البنية طيب النفس تتبدى على ملامحه صفات الرصانة والإحساس بالكرامة، وكان رجلا ضخم الجسم عريض المنكبين تدل ملامحه الأفريقية على الإباء وعزة النفس ورجاحة العقل، فكان إلى جانب ما هو عليه من الوداعة والبساطة محترماً ومحبوباً ومتديناً..) هكذا رسمت ستو ملامح العم توم وصفاته الخلقية.

 

تبدأ الرواية حين يقرر السيد آرثر شيلي -الذي كان يعامل العم توم معاملة حسنة- بيع اثنين من عبيده، أحدهم كان العم توم والآخر كان طفلا صغيراً يدعي جيم، وذلك لسداد دين عليه لتاجر من الجنوب يدعى هالي، على أن يسترده منه في حال قام بتسديد الدين متى توفر له المال.

 

حين تسمع إليزا والدة جيم خبر بيع ابنها لسيد يسكن في ولاية أخرى، تقرر الهرب معه إلى المجهول، وذلك خوفاً من تكرار التجربة التي لم تشف منها بعد، وهي تجربة فِقدها لزوجها واثنين من أبنائها في صفقة بيع عبيد سابقة، كما أنها تنصح العم توم بالهرب كذلك، إلا أنه يرفض الغدر بسيده الذي أحسن إليه، ويقرر تحمل أعباء افتراقه عن أسرته وأبنائه والانتقال مع السيد هالي.

 

يترك العم توم زوجته وأولاده وينتقل مع السيد الجديد عبر قارب يُبحر في نهر المسيسيبي، وعلى متن القارب يتعرف على فتاة صغيرة تدعى إيفانجيلين التي تتعلق به فتطلب من والدها شراءه، وهو ماتم على متن القارب؛ حيث ينتقل العم توم من ملكية هالي إلى أسرة أوغسطين سانت كلير، وهناك تربط العم صداقة بابنة المالك التي كانت تحثه على قراءة الإنجيل والتمسك بالمسيحية، وترمز الطفلة هنا إلى الفطرة الإنسانية النقية التي ترفض أن يستعبد الإنسان نظيره في الإنسانية، وبالمجمل فقد كانت حياة توم في ظل عائلة أوغسطين طيبة وهادئة.

ولكن بعد فترة قضاها العم توم مع عائلة سانت كلير، يموت رب الأسرة فتقوم الزوجة ببيع العبيد الذين كان يقتنيهم زوجها في سوق النخاسة، وهناك يباع توم إلى سيد غليظ الطباع يدعى سايمون ليغري، وهنا يبدأ فصل مأساوي جديد من حياة العم توم تحت سلطة هذا السيد السادي منزوع الإنسانية؛ حيث تتجلى في بيت هذا السيد أسوأ مشاهد العبودية ومآسيها.

 

كان ليغري يفخر بقسوته ويتلذذ بإخافته لعبيده فيكثر من تهديدهم بتعذيبهم بلا سبب، قائلاً "أترون قبضتي هذه؟ شاهدوها وقدروا قوتها، إن قبضتي لم تصبح هكذا صلبة كالحديد إلا من كثر ما حطمت من رؤوس العبيد، وإني لم أصادف بعد زنجياً يقوى على مقاومة قبضتي؛ ويبقى حياً بعد لكمة واحدة!".

 

عاش العم توم في منزل السيد ليفري حياة قاسية مثقلة بالمعاناة رغم إخلاصه وتفانيه في عمله، وفي وجدانه حنين أبدي إلى العودة لزوجته وأبنائه، وهو ما سيدفع زوجة العم توم -التي كانت لا تزال تسكن عند السيد آرثر شيلي- للعمل في محل حلوى لخمس سنوات متتالية حتى تدخر المال لتفديه!

 

وفي إحدى الليالي تلوذ جاريتان بالفرار من بيت هذا السيد بسبب ما لاقتاه من معاناة لا تحتمل، فيأتي السيد هالي بالعم توم ويقوم باستجوابه بما يعرفه من أمر الجاريتين، إلا أن العم يرفض الإفصاح عن أي معلومة وهو ما سيلاقي لأجله تنكيلاً شديداً من سيده، فقد كان التعذيب مبرحاً وخلف في جسد العم توم جراحاً غائرة أفضت في نهاية المطاف إلى موته.

 

وفي تلك الأثناء، يكون السيد جورج آرثر شيلي ابن المالك القديم للعم توم، قد وصل لتحريره من سطوة هذا الرجل السادي؛ إلا أنه يصل بينما كان العم توم في النزع الأخير، فيموت قبل أن يتمكن من إنقاذه، فيقسم جورج على قبر العم توم أن لا يمتلك عبيداً ثم يقوم بعدها بجمع عبيده، ويحكي لهم مشهد موته قائلاً  لهم "انطلقوا إلى الحرية؛ ولكن تذكّروا أنّكم مدينون لذلك الرجل الطيب العم توم، وردّوا ذلك الجميل لزوجته وأبنائه وفكروا بحريتكم كلّما رأيتم كوخ العم توم، واجعلوه نصباً تذكارياً لكي تسيروا على خطاه وكونوا مؤمنين، وأوفياء كما كان".

 

تلك هي -باختصار- أحداث الرواية التي هزت الوجدان الأميركي، ربما لا نجد في السرد صخباً وترويعاً يحاول تضخيم فظاعات الرق والعبودية، لقد صورت الرواية في أحداثها المتتابعة أنماطا مختلفة من السادة؛ فبعضهم كان طيباً والآخر كان متوحشاً ولا إنسانيا، ولكن قوة الرواية تكمن في واقعيتها ولغتها البسيطة التي حاكت مآسي العبودية دون تضخيم أو ابتذال يجعلان الأحداث تبدو غير منطقية ولا واقعية ما يفقدها قدرتها على التأثير.

المصدر : الجزيرة