شعار قسم ميدان

كيف نتعامل مع الموت؟.. العبثية في روايات ألبير كامو

ميدان - كيف نتعامل مع الموت؟ العبثية في روايات ألبير كامو
اضغط للاستماع
 
 
لطالما شكّل الموت مصدر قلق وحيرة للإنسان على مرّ العصور، حتى أن أقدم النصوص الإنسانية المكتوبة؛ وهو ملحمة جلجامش؛ تناول هذا الهاجس الإنساني من الموت، ونزوعه المحموم نحو الخلود من خلال رحلة جلجامش، وبعد طول بحث وعناء وترحال، يعود من رحلته خائباً بلا جدوى، إذ يستسلم أخيرا لحقيقة أن الزوال هو النهاية المحتومة لكل وجود، والإنسان وحده من بمقدوره أن يأخذ موقفا أمام الموت، ذلك أنه الكائن الوحيد الذي يعي مسألة موته، وهذا الوعي هو ما يعطي للحياة قيمتها وجديّــتها بحسب الفيلسوف مارتن هايدجر، فعندما "ينفتح الإنسان على إمكانية الموت، يدرك أن الإمكانيات التي يريد تحقيقها ليست هي الهدف، فالموت إذا بمثابة تذكير للإنسان بنسبية أي إمكانية أخرى"[1]، وهو ما يعمق شعور الإنسان بالحياة نفسها!

 

إن ثنائية "الحياة/ الموت" إذا هي ثنائية غير قابلة للتجزيء على مستوى الوجود، بل وعلى مستوى التفكير أيضا، إذ يقول إسبينوزا: "إن التفكير في الموت هو تفكير في الحياة أيضا"[2]، فالموت – بحسب الدكتور الطيب بو عزة-  "مكمن الأسئلة الوجودية الحافزة للتفكير.. ويقين الكائن البشري بفنائه هو ما يدفعه إلى التفكير في ماهية وجوده ومآل تجربته"، لذا يمكن القول: "لعل تأمل الموت كان هو الذي أيقظ الوعي الإنساني ليفكر ويستفهم ويصوغ أكبر الأسئلة الماورائية التي اغتنت بها حيواته وحضاراته"[3]

                     

الفيلسوف والكاتب الفرنسي ألبير كامو
الفيلسوف والكاتب الفرنسي ألبير كامو

       

والعلاقة بين السرد والموت علاقة وثيقة، نجدها في الميثولوجيا اليونانية[4] التي صورت صراع الآلهة والإنسان ومقاومة الأخير لحكم الآلهة بفنائه، كما تجسدت كذلك في الملاحم البابلية كملحمة جلجامش التي أشرنا إليها آنفاً، وليس انتهاء بفن الرواية الحديث الذي قارب مسألة الموت وأبعاده الوجودية، ولعل أفضل نتاج سردي وجودي تناول مسألة الوجود والموت قد تمثل في الأعمال الأدبية للروائي الفرنسي ألبير كامو وبخاصة في روايتيه "الغريب" و "الطاعون".

          

"غريب" ألبير كامو: بين عبثية الوجود الإنساني وعبثية الموت
يدور متن هذه الرواية حول شخصية محورية هي شخصية مارسو بطل الراوية وساردها، إنه "الغريب"/ اللامنتمي الذي يتصرف على نحو آلي بارد، فيبدو جامدا وغير آبهٍ بما يدور حوله من أحداث وما يحتمله من شخوص وعلاقات[5]، حتى عندما تصله برقية بوفاة أمه من دار العجزة التي كانت تقيم فيها، لا يزيد رد فعله عن الاستغراب مما ينبغي لهذا الحدث أن يمثل له، إذ يقول "ماتت أمي اليوم. وربما أمس، لا أدري. لقد تلقيت من الملجأ الذي كانت تقيم فيه برقية هذا نصها" "أمكم توفيت. الدفن غدا. خالص تعازينا!" لم أستطع أن أفهم من ذلك شيئا..!!"[6]
          

undefined

            

لم يفتقر غريب كامو إلى المشاعر والإحساس وحسب، بل إنه افتقر كذلك إلى الحس الأخلاقي، وهو ما يتجلى في عجزه عن إصدار حكم ما حيال جاره اللئيم الذي يعمل في مجال الدعارة، إذ يبدو أن جميع الأمور سيّان بالنسبة إليه، كما لا يبدو أن مارسو باستطاعته أن يحب، ذلك أن الحب يتطلب التزاما تجاه إنسان آخر وهو ما لا يفهمه، فضلا عن أن يتعاطى معه، لذا فإنه يندهش من سؤال ماري له إن كان يحبها!

           

وفي أحد الأيام، يذهب مارسو مع رفيقه ريمون في نزهة إلى الشاطئ، وهناك يرتكب مارسو جريمة قتل بدم بارد، كان دافع الجريمة أن ضوء الشمس الساقط على سكين أحدهم انعكس على عينيه، ما جعل "العرق يتجمع على أهداب عيني وسال دفعة واحدة على جفوني … وعميت عيناني في هذا الستار المؤلف من الدموع والملح ولم أعد أحس إلا بدقات الشمس على وجتني …. وتوتر كياني كله، وتقلصت يدي على المسدس واستجاب الزناد للضغط"![7]

            

سيحال مارسو إلى المحاكمة، وستكمن المعضلة الأخلاقية في تلك المحاكمة في كيفية محاكمة شخص لا يمتلك تصورا عن الخير والشر، فالأشياء بالنسبة إليه "تحدث وحسب"، فلا معنى لإصباغ قيمة أخلاقية على السلوكيات والأفعال، وحين سيقوم بسرد أحداث "الجريمة" أمام المحكمة فإنه سيسرد تفاصيل ما جرى بدقة عالية ودون تلاعب بالحقائق ولا محاولة لتبرئة ساحته أو تعليل "جرمه"، وهو ما سيثير حفيظة المحكمة والادعاء والحضور!

                 

       

ببساطة لم يرَ مارسو أن فعله يشكّل ما يمكن أن يكون "جريمة"، إذ إن مثل هذا الإقرار يتطلب الإيمان بمرجعية أخلاقية ما، أو على الأقل القبول بالمواضعات الإجتماعية والأعراف السائدة التي تحدد الصواب من الخطأ وهو ما لا يجيد الرجل لعبه أبدا، ولذا فإن المحاكمة ستتحول من محاكمة شخص على اقترافه جريمة قتل إلى محاكمة للشخص نفسه ووعيه، وتحديد مدى مسؤوليته الأخلاقية والشخصية عن فعله، "وسيكون هدف المحاكمة عندئذ هو تحويل مارسو إلى إنسان"![8]

             

ستنتهي المحاكمة بالحكم على مارسو بالإعدام حين تفشل جميع المحاولات في "إصلاحه"، وهو الحكم الذي يبدو أنه نابع من رغبة في نفي هذه الشخصية غريبة الأطوار وإبعادها من المجتمع وذلك لما تمثله من خطر يتهدد الجميع، وأمام حكم الإعدام نلحظ أن مارسو يختبر للمرة الأولى عاطفة من نوع ما، إذ يفكر للمرة الأولى في صديقته ماري. وإذا كان لم يبدِ ندما على الفعل الذي قام به، إلا أنه أخذ يفكر بإمكان اسئتناف الحكم واحتمالات العفو عنه، ويؤمل نفسه أن يعيش حياة أطول، رغم إيمانه في قرارة نفسه أن "الموت في الثلاثين أو الستين لا يشكل فرقا!"[9]

         

إن التيمة الأساسية التي تقبع خلف هذه الأحداث والتي يريد كامو الكشف عنها بأسلوب إيحائي هي عبثية الوجود الإنساني، فمارسو " يجسد الشخص الذي لا ينسجم مع النمط الحياتي السائد. شخص غريب أمام وجود غير قابل للاستيعاب والتعقيل"[10]. فالعبثية -بحسب كامو- لا تأتي من كون العالم عبثي، بل من عدم خضوعه لمعايير العقل والعقلانية، وبالتالي في الهوة بين وعي الإنسان وعقلانيته من جهة وعدم قابلية العالم للعقلنة من جهة أخرى.

             

"مقطع من رواية الغريب يتحدث فيه كامو عن الموت"

      

يختصر كامو مغزى هذه الرواية بهذه الجملة التي جاءت على لسان ذلك الغريب مارسو: " في مجتمعنا كل رجل يرفض أن يبكي على والدته يعدم..! لماذا نبكي؟ سنموت جميعا عاجلا أم آجلا "[11] لقد طُرح الموت في رواية الغريب بوصفه عائقا أمام الإحساس بزخم الحياة، ما جعل مارسو يغرق في حالة من اللامبالاة وعدم الإحساس بالجدوى وبالمجمل عدم الإحساس بقيمة الحياة نفسها.

        

لكن التساؤل الذي يطرح هنا: كيف يمكن الخروج من هذه الدائرة المغلقة؟ يبدو أن مارسو قد أحسّ بشيء من قيمة الحياة عند إصدار حكم الاعدام عليه ومواجهته الموت بصورة حقيقية، وذلك رغم مقاومته لهذا الشعور. هذه الفكرة ستتجلى بصورة أوضح في رواية الطاعون حين تواجه الإنسانية وضعا مأساويا للغاية، يكون الموت فيه شرطا وجوديا شاملا يتهدد الجميع، حينها لا يكون ثمة خلاص سوى الخلاص الجماعي بكل ما يتطلبه الأمر من إيمان وتضامن مع الجماعة!

             

الطاعون: أو كيف نواجه عبثية الموت
على النقيض تماما من رواية "الغريب" التي يدور متنها حول شخصية مارسو وعوالمه الذاتيه المستغلقة بإحكام أمام أي إمكانية انفتاح أو تعاط مع العالم الخارجي، فإن رواية الطاعون تعد أكثر روايات كامو انهماكا بالشأن العام وتناولا له، وهنا يستخدم كامو لفظة "الطاعون" كاستعارة عن العبث الذي يعتري الوجود الإنساني، والموت الذي يترصد الجميع أفرادا وجماعات والذي لا يمكن رصده ولا التنبؤ به!
            

undefined

          

بدأ كامو بكتابة الرواية  في جنوب فرنسا إبان اندلاع الحرب العالمية الثانية واحتلال ألمانيا لها، قبل أن يكمل كتابتها في مدينة وهران الجزائرية التي تجري فيها أحداث الرواية، وإذ يستخدم كامو لفظة "الطاعون" مجازا للتعبير عن شكل الحياة الذي أنتجته الإيديولوجيا النازية والموت الذي بثته في هذا العالم، فإن هذه الاستعارة كانت محطّ نقد شديد، إذ تشي بأن هذا الشر والموت مجهول المصدر، لا نتيجة لخطابات وسياسات وقفت خلفها السلطة النازية[12]. لكن اهتمام كامو لم ينصب على التنقيب عن مصدر هذا الشر، بل استقراء الطرائق التي سيواجه فيها الناس عبث الموت الذي بات يسم الوجود الإنساني!

      

إن الحدث المحرك للرواية وأحداثها هو الطاعون الذي يستشري في المدينة بسرعة جنونية، ويفتك بأبنائهافردا فردا، والطاعون في هذه الحالة ليس مجرد وباء يصيب الناس وحسب، بل إنه قد أصبح شرط الوجود الإنساني، ما يعني أنه سيقوم بإعادة تشكيل وعي الناس وأفهامهم، وستظهر حينها إمكانات النفس البشرية عارية أمام الحقيقة بخيرها وشرها.

      

تبدأ الأحداث في صباح يوم 16 من أبريل، حين يرى الدكتور ريو ذلك "الجرذ اللعين" ميتا أمام عتبة داره، لم يعره ريو أدنى اهتمام حينها، حيث اكتفى بإلقاء نظرة عليه ثم قام بركنه جانبا، لكن وبعد تكرر حوادث موت الجرذان يبدأ الدكتور بالتساؤل: "أمن المعقول أن يكون الطاعــ… ؟!". أيام قليلة فقط ويبدأ الموت يدبّ إلى الناس أيضا[13]، وتزداد الوفيات يوما بعد آخر، ولا أحد يجرؤ أن ينبس باسم ذلك الوباء المفجع: الطاعون! لكن حين تصل الوفيات إلى حد لا يعود بالإمكان إنكار الحقيقة معه، يعترف الناس بالحقيقة المفجعة أخيرا: المدينة مصابة بالطاعون! وهنا تُسيّج المدينة وتغلق منافذها تماما وتعزل عن العالم الخارجي، وهكذا "يتقلص الفضاء المكاني والزماني إلى مقدار مدينة مغلقة"[14]، ويصبح الوجود البشري محض "معاناة" و "ألم" غير محتملين!

           

أمام هذه الوضعية المأساوية يستحضر كامو "سؤال الوضع البشري في مواجهة الشر المطلق، ويكشف عن عمق الشعور الإنساني: كيف يفكر ويستفهم، وكيف يشك إلى أن يختل يقينه، وكيف يخاف ويقلق إلى حد الارتعاب، وكيف يحب إلى درجة التماهي، وكيف يقطع العلائق إلى حد التوحد والعزلة، وكيف يكبر الجشع في دواخله إلى حد فرحه باقتناص الفرنك من أحشاء الألم"[15]!

     

ستجسد شخصيات الرواية إذا الطرائق المختلفة لمواجهة الشر وعبثية الحياة، أولى الشخصيات الجديرة بالتوقف عندها هو الأب بونولو، يجسد الأب الرؤية اللاهوتية للوجود والتي تقوم بتفسير حوادث هذا العالم الدنيوية بردها لأسباب غيبية مفارقة للعالم، فيعزو الطاعون إلى خطايا البشر، داعيا إياهم إلى التوبة والإنابة ليرفع الرب عنهم هذا البلاء.

                

إلا أن موقفه هذا لن يستطيع الصمود أمام مشهد طفل صغير يعاني ويموت من الطاعون، وهنا سنلحظ أن الارتباك والقلق قد تخللا موقفه الإيماني الراسخ، إذ يلقي خطابا في الكنيسة يُبين فيه عن ذلك القلق والاختلال في اليقين، سيختمه بهذه المقولة "يا إخوتي، لقد أتت الساعة، فيجب أن تؤمنوا بكل شيء أو تنكروا كل شيء. ومن هو الذي يجرؤ فيكم على إنكار كل شيء"[16]!، وبرغم هذا الاهتزاز العارض الذي أصابه سيموت القس وهو يحتضن رمزه الديني بين يديه![17]

        

ثاني الشخصيات -ولعله يجدر أن يكون الأول في العرض- هو الطبيب ريو، والذي يبدو أنه البطل الذي اختاره كامو لقصته، وذلك لدوره في مواجهة الطاعون، حتى في الحالات التي يتملكه اليأس ويبدو له أن ليس ثمة أمل بالنجاة، يواصل ريو أبحاثه مدفوعا بما يسميه بـ "الواجب الأخلاقي"، يجسد ريو النموذج الذي سيحمل أعباء البشرية على عاتقه ويكافح في سبيل تحقيق الخلاص الجماعي! بينما سيكون الشغل الشاغل للصحفي رامبير هو اللحاق بزوجته الذي سيحول العزل الصحي بينه وبينها، وستتمثل كافة مساعيه في تحقيق خلاصه الفردي والالتقاء بحبيبته، لكن -وفي نهاية المطاف- يعدل عن الهروب أمام المأساة  الرهيبة التي عمّت الجميع، لأنه من "المخجل أن يكون المرء سعيدا بمفرده، لذا يقرر البقاء رغم الحظر تضامنا مع الجميع وخضوعا للمصير المشترك"[18].

             

                 

إلا أن أكثر الشخصيات إثارة للجدل هي شخصية السيد تارو، يجمع تارو ما بين السخرية الصارخة من الواقع العبثي والحزن العميق على المصير الإنساني، إنه يجسد ما يسميه كامو بـ"الحزن الفلسفي" في هذا العالم، واللاجدوى بصورتها المأساوية، لم يكن تارو غير مبال بالمصير الإنساني، بل إنه كان يتألم له حتى النخاع، لكن لم يكن يمتلك سوى سخريته في مواجهة هذا الواقع المتردي، ورغم ذلك سيقترح على الطبيب ريو في أحد الأيام تنظيم حملات تبرع بالدم، وعندما سئل عن الدافع من وراء عمله أجاب "لا أدري، أخلاقي ربما!"[19]  وأخيرا فهناك تلك الشخصية الحقيرة التي ستنظر إلى الطاعون بوصفه فرصة ومصدر استرزاق وغنى سريع، "فيحرص على استغلال الكارثة والاستثمار في الألم من أجل تنمية رصيده المالي"[20]، يجسد كوتار الانحطاط الإنساني الذي لا يرده وازع أخلاقي ولا يردعه رادع!

       

في النهاية، وبفضل تكاتف الجميع وسعيهم لتحقيق خلاصهم الجماعي، سينجح الطبيبان ريو وكاستيل بإنتاج لقاح يبرئ من الإصابة بالطاعون "وكان الطبيب ريو قد رأى جرذين حيين يدخلان منزله من باب الشارع. وكان بعض الجيران قد أنبؤوه بأن الجرذان قد ظهرت في بيوتهم أيضا. وارتفعت من بعض المباني تلك الضجة التي نسيها منذ أشهر خلت. وترقب ريو نشر الإحصاءات العامة التي كانت تذاع في مطلع كل أسبوع، فإذا هي تكشف عن تقهقر ذلك الوباء"[21].

      

بالمجمل، يطرح كامو في رواية الطاعون رؤية للموت مختلفة تماما عن تلك التي طرحها في الغريب، فإذا كانت حتمية الموت قد دفعت الغريب نحو الإنزواء واللامبالاة وفقدان الرغبة في العيش، فإنه سيكون الحافز نحو تجاوز الأنانية الضيقة التي كان عليها البشر قبل استفحال الوباء، وبلوغ التضامن الضروري لتحقيق الخلاص للجنس الإنساني من مصير الفناء.

       

بصورة واضحة يتخذ كامو في رواية الطاعون موقف إدانة لكل أشكال التبرم والتنصل من مسؤولية الإنسان في الوجود، فمحاولات الإفلات من مواجهة الشر أو اتخاذ موقف غير مبال تجاهه أو الاستسلام لسطوة الموت هو أمر يعده كامو "انتحارا فلسفيا"[22]، وفي هذه الحالة لا يبقى للإنسان سوى التشبث بالحياة لأجل تحقيق الخلاص للنوع الإنساني ككل، وفي واقع الحال فإن هذا ليس خيارا بإمكاننا القبول به أو رفضه، إنها مسألة وجود ومصير مشترك لابد أن تثير فينا حس التعاضد المشترك!

المصدر : الجزيرة