شعار قسم ميدان

معرض القاهرة للكتاب.. معرفة في وطن تائه

midan - معرض القاهرة للكتاب
في بلد يعج بالاضطرابات، ويسجن فيه من يعارض توجهات النظام، وتطال مقص الرقيب ما لا ترضى عنه السلطة، وتتضخم فيه الأسعار، يقام معرض الكتاب حاملا شعار "القوى الناعمة"، ليطرح السؤال الذي لا يمل من فرض نفسه حين قراءتنا للمعرض واتجاهاته: أي قوة تمتلكها المعرفة في مصر؟

على أرض المعارض بالقاهرة، وفي نهايات يناير/كانون الثاني -كما هو معتاد- كانت الجماهير تتوافد على بوابات المعرض الدولي للكتاب في نسخته التاسعة والأربعين، وعلى جنبات الطرق كانت المكتبات ودور النشر تتراص أمام الزائرين. ففي عرض دام أسبوعين، فتحت 860 دار نشر أبوابها للزائرين، بمشاركة سبع وعشرين دولة، بواقع خمس عشرة دولة عربية، وعشر أجنبية، واثنتين أفريقيتين[1]، إلا أنه، ولأسباب تتعلق بالأسعار، لم يحظ هذا الزخم في دور النشر والمؤلفات بالتفاعل الإيجابي الموازي له، ففي تحقيق صحافي أجرته الصحافية دعاء عبد اللطيف حول المعرض، علّق أحد الشباب بأنه اُضطر للذهاب إلى جناح سور الأزبكية -المشهور بأسعاره المخفضة- بعدما اكتشف أنه يحتاج خمسة آلاف جنيه تقريبا مقابل ثلاثة كتب لا غير[2].

      

undefined

 

وهي التجربة التي تكررت كثيرا في معرض هذا العام، فعلى الرغم من المشاركة الكبيرة من دور النشر بمؤلفاتها الحديثة، وعلى الرغم من تزاحم وسائل التواصل بالترشيحات وقوائم الكتب، باختلاف مجالاتها، إلا أن ذلك لم يمنع الشباب من مراجعة قوائم مشترياتهم، وتعديلها حسب الحالة المادية لهم، ومن ثم التوجه إلى الدور الرخيصة والتي تتناسب مع ارتفاع الأسعار المسيطر على الأشياء في مصر، ومن بينها الكتب والمؤلفات.

   

لكن، هل يعني ذلك أن جميع الزوار يأتون لأجل الكتب؟ في الحقيقة لم تكن الإجابة بـ"نعم" عند الجميع؛ لأنه، وحسب التحقيق المذكور[2]، فإن إحدى الزائرات تقول إن المعرض -في تصورها- بمثابة فرصة للأطفال ليستمتعوا بالأنشطة المجانية، مشيرة إلى أن كتب وألعاب الأطفال تُطرح بخصومات كبيرة[2]. الأمر الذي يوضح تصورات شريحة كبيرة من الزوار عن المعرض، وحقيقة الارتباط بين ما سجلته أرقام الزيارات وما مثّلته هذه الأرقام فعليا تجاه ثقافة الزائرين.

    

أرقام الزائرين لا تعبر عن كل شيء

 في مفارقة عجيبة بين أرقام الحضور والإقبال على الكتب، لم تكن أعداد الزوار هذا العام في توافق مع حركة البيع والشراء داخل المكتبات، ولم تكن المفاجأة التي سجلتها أرقام الزيارات -بالنظر للوضع الاقتصادي المصري- لتكتمل وتسجل مفاجأة أخرى في حجم التفاعل مع دور النشر والمكتبات، وهو الأمر الذي يعود في المقام الأول لحالة الاقتصاد والأسعار بالسوق المصري، إضافة إلى لأغراض الترفيهية لدى بعض الزوار.

   

undefined

   

وربما يقف السبب الأخير، وهو الترفّه بزيارة المعرض، خلف أرقام الزيارات الكبيرة التي اقتربت -قبل أيام من انتهائه- من ثلاثة ملايين زائر[3]، في تقارب مع عدد زائري العام الماضي الذي ناهز خمسة ملايين زائر في نهاية المعرض، وفي زيادة ملحوظة عن عام 2016 الذي بلغ عدد زائريه، في نهايته، نحو 3 ملايين زائر، وعن معرض 2015 الذي بلغ زائروه قرابة 2 مليون زائر في اليوم الأخير[4].

   

لكن، هل تعبر الأرقام دائما عن الحقيقة؟ قد تكون الإجابة بـ"لا" حسب ما يظهره الواقع وشهادات عدد من الزائرين، وقد تكون بـ"نعم" التي تختارها الجهات الحكومية والتصريحات الرسمية في المعتاد، فقد جرت عادة النظام المصري في كل عام أنه يوظف أرقام الزائرين للاستدلال على اهتمام المصريين بالـ"عرس الثقافي" في ظل القيادة الرشيدة للوطن، الأمر الذي يجعلنا نتوقف ونتساءل: هل ارتفاع عدد الزوار يعتبر وحده مؤشرا على النجاح؟!

  

وهو السؤال الذي أجاب عنه الروائي والناقد "أحمد إبراهيم"، في معرض حديثه عن شعار المعرض لهذا العام "القوى الناعمة.. كيف؟"، قائلًا أن "هذه الجملة صعبة على رواد المعرض، وأغلبهم ليسوا نخبويين بل يأتون إليه في إطار أنها رحلة أو نزهة"[5]. فالمعرض وإن كثر زائروه فإن حاله لا يتحرك للأفضل عن الأعوام السابقة، إذ أن ظاهرة تحويل المعرض إلى نُزهة أخذت في الانتشار بشكل ملحوظ، فالبعض أضحى يعتبره رحلة استجمام للعائلة يلعب فيها الأطفال الكرة في الحدائق وتتجمع الأسرة فيها لتقضي وقتاً لطيفًا في المساحات الخضراء الواسعة للمعرض، أو ربما يذهب الشاب بصحبة صديقته إلى المعرض ويتنزهان بين الحفلات الموسيقية والأنشطة الثقافية لتصبح مثل هذه الزيارات الترفيهية للمعرض بلا فاعلية تجارية/شرائية حقيقية.

  

undefined

  

بيد أن هذا الركود في شراء الكتب ذات الطابع العلمي والفكري لم يشمل سوق الروايات والشعر الحديث اللذين أغرقا المعرض بإصدارات شبابية لا حصر لها. فزائر المعرض في هذا العام لا يكاد يجد دارين للنشر إلا وبينهما دار أخرى لنشر الروايات والأدب الشبابي، وبات من الصعوبة بمكان ألا تمر دقيقة واحدة في تجوالك بالمعرض إلا وأنت تمرّ أمام دار أو دارين لنشر الروايات الهابطة والأدب الرديء الذي ترفضه الدور الجادة والعريقة، فحسب لجنة التحكيم في مسابقة الجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر" لعام 2015: فإن مستوى عدد كبير مما قُدّم للجائزة من روايات؛ لا يرقى لمستوى الترشيح فحسب، بل لا يصلح للنشر أصلا[6].

    

لكن، ولأن تكلفة هذا اللون من الأدب والشعر الحديثين أرخص مما سواهما، فإن الإقبال عليهما كان أكبر بكثير من الإقبال على الكتب ذات الطابع الجاد والعلمي، ولعل الاستثناء الوحيد لذلك هو المركز القومي للترجمة، الذي تدعمه الحكومة المصرية وتقدم فيه خصما يصل إلى 70% للطلاب الجامعيين، مما جعل المركز يعج بالشباب والطلاب طوال أيام المعرض، إلى حد أنك في بعض الأحيان لن تستطيع دخول جناح المركز من شدة الازدحام عليه، وهو ما دفع بعض الشباب إلى تأجيل زيارتهم للمركز بسبب هذا الازدحام بالفعل.

  

دور النشر الشبابية .. ظاهرة سلبية أم إيجابية؟

 في حوار مع الناشر "إسلام مصطفى"[7]، صاحب مركز تراث للبحوث والدراسات، وأحد الناشرين المشاركين في المعرض، فإنه تطرق إلى نقد الجانب التنظيمي في معرض هذا العام، قائلا إنه -من جهة التنظيم- لم يكن على مستوى أي من المعارض الدولية في العالم العربي ولا يقترب من أدناها بحال من الأحوال، لذا فإنه يعطي تقييما للمعرض، بشكل عام في هذه الدورة، أقل من المتوسط.

    

لكنه يخرج من التعليق العام على الحدث إلى التعليق الخاص بانتشار دور النشر الشبابية بمعرض هذا العام، فيرى أن التوقف الذي شهده المعرض في عام 2011 لظروف الثورة المصرية، أحدث انتعاشة كبيرة في دور المعرض في العام التالي، فقد ظهرت العديد من دور النشر الشبابية الجديدة، التي قامت -في بداية الأمر- على هدفين مزدوجين وهما الربح المادي باعتبار النشر مشروعا تجاريا، والهدف المعرفي المتمثل في القيمة الثقافية التي تضيفها الدار الشبابية إلى المعرض وزائريه.

      

يعلق الروائي أحمد الجويلي بأن الوضع الثقافي المصري يشهد نوعا من الانحدار بسبب ما تختاره بعض دور النشر من المؤلفات تحت شعار
يعلق الروائي أحمد الجويلي بأن الوضع الثقافي المصري يشهد نوعا من الانحدار بسبب ما تختاره بعض دور النشر من المؤلفات تحت شعار "البيع أولا وأخيرا"
   

لكنه يستدرك قائلا إن هذه الطفرة الإيجابية قد تحولت -بمرور الوقت- إلى غثاء سلبي، فكثير من تجارب الشباب في الدخول إلى عالم النشر جاءت بالسلب على المستوى المعرفي والثقافي في مصر في الفترة الأخيرة، لدرجة أنه ختم كلامه قائلا بأن "الواقع مزري أكثر مما نتخيل"[7]، ورغم أنه لا ينفي توافر مجموعة من الكُتاب الشباب الجيدين، إلا أنهم ما يزالون مجهولين في بداية خطواتهم.

        

وعن هذا الانحدار في مستوى النشر، يعلق الروائي أحمد الجويلي بأن الوضع الثقافي المصري يشهد نوعا من الانحدار بسبب ما تختاره بعض دور النشر من المؤلفات تحت شعار "البيع أولا وأخيرا"، "فأصبح معرض الكتاب ليس نبراسا كما كان، بل أصبحنا داخل حلبة ماراثونية تسويقية كل شيء فيها مباح من حيث المواد المنشورة، الهزل أو حتى الاعتماد على جمال الكاتبات في التسويق والدعاية لكتب هزلية" [5].

   

حول الترشيحات هذا العام.. رؤية مغايرة

وفي الوقت الذي تزاحمت فيه مواقع التواصل بنصائح المعرض وقوائم الترشيحات في المجالات المختلفة، كانت مدرسة أخرى تقف في منطقة مغايرة، على رأسها د. "هبة رؤوف عزت" أستاذة العلوم السياسية، التي رأت أن الترشيحات الثقافية "أشبه ما تكون بالوصفة الطبية التي ستناسب مريضا دون الآخر، لأن أي قائمة كتب مقترحة تتوقف على القارئ وخلفيته وثقافته وما قرأ من قبل، بل ومزاجه النفسي في هذه اللحظة وذلك المنعطف التاريخي- الانسحابي أو التقدمي"[9]. 

  

غير أنها في النهاية لم ترضِ أن يخرج المتابعون بلا إفادة في حدث كهذا، فحاولت تقريب فلسفتها من فكرة القوائم العامة فاقترحت بدلا من المؤلفات المحددة: مجالات بعينها تحسب أنها تتتابع في أهميتها على النحو التالي: المجال الأول الذي رشحته "وبدون كثير تردد" هو القوة الصلبة وكل ما يتعلق بها ويتفرع عن ذلك من نظريات الدولة وتحولات أشكال الحرب وتغير طبيعة الجيوش وبالأساس تقنيات القتل وثقافة وسيكولوجيا الخوف وعسكرة الأمن والتأمين.

     

undefined

  

أما المجال الثاني فهو كل ما يتعلق بفقه الأرض والحدود والخرائط وتصورات المكان والحق في المدينة وإبادة المدن وذوبان المسافة. يليه المجال الثالث وهو الذكاء الصناعي وكل القضايا الاجتماعية والاقتصادية المتعلقة به من أول التكنولوجيا إلى إحلال الآلة بالإنسان لاستخداماته في الحياة. ثم يتبعه المجال الرابع وهو المستجدات في الفيزياء والبيولوجيا والنانو تكنولوجي وكل ما فيه إمكانية لتغيير خلق الله والانعكاسات الاجتماعية والإشكاليات الأخلاقية وقضايا البيئة.

     

وتنتقل رؤوف إلى المجال الخامس وهو الفلسفة، لكنها تقول إن الفلسفة "هي مساحة واسعة لا داعي للتعمق فيها والتوهان، مع الإشارة إلى أهمية مقدمات مقارنة للفلسفة في الأنساق الحضارية المختلفة".

     

ثم تذكر المجال السادس وهو علم النفس الاجتماعي وحركة الجماهير والصيغ الهجينة للفعل الجماعي وتحديات ذلك كله. والمجال السابع هو العمارة وفلسفتها والجمال في فنونه المختلفة وكل ما يتعلق بصلة الإنسان بالمسكن والحيز المعيشي وجماليات الحياة الإنسانية السوية. ثم تذهب إلى المجال الثامن وهو تاريخ وجغرافيا وأنثروبولوجيا الوطن والإقليم بحسب الاهتمام، من إيران شرقا مرورا بتركيا العثمانية والجمهورية شمالا للمشرق العربي لفلسطين للجزيرة العربية وملف مكة -الذي سيتأزم قريبا في تقديرها- عبورا بمصر وصولا للمغرب، وتستدرك قائلة: "كل شخص حسب فضوله، هذه بالأساس اهتمامات وتفضيلات. المقالات الجيدة تغني في العموم للمتابعة العامة لكن الكتب لمزيد من الفهم تكون بحسب الفضول"[9].

      

undefined

  

ثم تختم بالمجال التاسع التي تقول إنه "كان من الممكن أن يكون مجال الفقه والشريعة، لكن لأنه ثبت بالمشاهدة والتجربة أن غالبية من قرأ كتابا في أصول الفقه يجلس مجلس الفتيا، وكل من قرأ كتابا لأحد أعلام الأمة صار متحزبا له، ولأن "الهَري" أصلا في المجالات المذكورة أعلاه كلها بعد قراءة كتاب أو كتابين قد تجاوز المعدلات المسموح بها دوليا، وحفظا للدين والملة والعقل، فتعلّموا دينكم من أهل العلم مشافهة وتربية وتزكية- وكفاية تدين سائل"[9].

    

وتنبه هبة رؤوف في خاتمة هذه المجالات المقترحة إلى فائدة تصيغها بسؤال: لماذا نقرأ؟ فتقول: "كي نفهم ونتابع، لا كي نتحول لكتائب شغب إلكترونية تتشاكس وتتنازع على مقصود فلان من فقرة في كتاب، أو للتباهي الفردي بسرديات منتحلة ومستعارة وأسماء يوحي تكرارها في الحديث بثقافة موسوعية متوهمة، سلفا كانت أم خلفا أم تلفا". ثم تذكر في النهاية: "نقرأ لنزداد تواضعا، ولنحافظ على إنسانيتنا ومعتقدنا بأقصى ما نملك من فهم"[9].