شعار قسم ميدان

"كونراد".. الرجل الذي فضح بقلمه إرث أوروبا العنصري والاستعماري

ميدان - "كونراد".. الرجل الذي فضح بقلمه إرث أوروبا العنصري والاستعماري
اضغط للاستماع

 
    
 
مقدمة الترجمة
جون كونراد.. كاتب أظهر جرائم الاستعمار والسيطرة والعبودية في زمن عاش فيه الكتاب الآخرين على تمجيد السلطة والقوة تحت شعار الحضارة ورفع مستوى البلدان والشعوب المحتلة. ارتكبت القوى الاستعمارية أبشع جرائم الحرب والغزو ولكن لم تتوقف عن ذلك بعد وقوع ما صابت إليه تحت سيطرتها فتفننت بالتعذيب والاستعباد حتى زمن ليس بالبعيد.. وكان كل ذلك كأنه لم يكن؛ فلم يذكره الإرث الذي خُطَّ بيد المستعمرين؛ أكان ذلك لأنهم لم يروا ما فعلت سلطاتهم بغيرهم أم لأنهم غضوا الطرف خوفاً. بالرغم من ذلك، دوماً ما يكون هنالك من يمشي عكس التيار ويسبق عصره… كان جون كونراد هذا الشخص وقد عرضت المؤرخة مايا جاسانوف ذلك في السيرة الذاتية لحياته تحت عنوان "ساعة الفجر".

 

نص التقرير

ساعة الفجر. مايا جاسانوف. بنجوين للنشر، 2017. ص400.

  

في أواخر القرن التاسع عشر والعقد الأول من القرن العشرين، لم يعد هناك ما يعيد تشكيل العالم أكثر من الإمبريالية الأوروبية التي أعادت رسم خارطة العالم وأَثْرَت أوروبا وأدّت إلى مقتل ملايين الأفارقة والآسيويين. فعلى سبيل المثال، في عام 1870، كان نحو ثمانين في المائة من جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا تحت سيطرة ملوك الشعوب الأصلية أو رؤساء قبائلها أو غيرهم من الحكام. في غضون خمسةٍ وثلاثين عاماً، أصبحت تتكون القارة بأكملها تقريباً -باستثناء عددٍ قليلٍ من المناطق المعزولة- من المستعمرات الأوروبية أو المحميات. فاستولت كلٌ من فرنسا وألمانيا وإيطاليا والبرتغال وإسبانيا والمملكة المتحدة على قطع من "هذه الكعكة الأفريقية العظيمة"، على حد تعبير الملك ليوبولد الثاني من بلجيكا الذي أخذ قطعةً ضخمةً لنفسه.

  

في الوقت ذاته، وقعت جارتها الآسيوية في قبضة قوى متعددة، فشدد البريطانيون قبضتهم على شبه القارة الهندية، والفرنسيون على الهند الصينية، والهولنديون على ما يطلق عليها اليوم إندونيسيا. وقد فازت كلٌ من اليابان وروسيا ونصف الدول الأوروبية حتى الإمبراطورية النمساوية المجرية المتضخمة إما بمناطق محصورة "جيوب" أو تنازلات وامتيازات في الصين. في تلك الأثناء، خاضت الولايات المتحدة حرباً لا ترحم في الفلبين، مما أسفر عن مصرع مئات الآلاف من الفلبينيين لإقامة مستعمرة أمريكية.

   

صورة من الحرب الأمريكية  الفلبينية
صورة من الحرب الأمريكية  الفلبينية
 

من المذهل كيف أن مثل هذه الأحداث نادراً ما تظهر في عمل الكتاب الأوروبيين في ذلك العصر، كما لو أنه لم يكن هناك تقريباً أي روائي أميركي كبير من القرن التاسع عشر قد تناول العبودية أو لم يكن هناك كاتب ألماني كبير في القرن العشرين كتب عن المحرقة. ليس الأمر أن الأوروبيين كانوا غير مدركين لذلك، فقد عاش مئات الآلاف منهم في المستعمرات أو عملوا فيها، وظهرت ثمار الإمبراطورية في كل مكان: في القصور الفخمة والمعالم الضخمة التي بنيت مع ثروات استعمارية، في أسماء الشوارع مثل شارع مدغشقر في بوردو وطريق الخرطوم في لندن، وفي المحلات التجارية المليئة بالحلي الأجنبية والتوابل. في عام 1897، جاء أكثر من مليون زائر لمشاهدة معرض عالمي في ضواحي بروكسل الذي يضم 267 من الرجال والنساء والأطفال الكونغوليين -من الكونغو- الذين يعيشون في أكواخ ويجدفون قواربهم حول بحيرة صغيرة؛ وكان هناك معارض بشرية مماثلة في معارض وأسواق في الولايات المتحدة.

 

غير أن الكُتّاب صمتوا عن الحقيقة ولم يكتبوها إلى حد كبير. كان مارك توين ناقداً صريحاً للقسوة الإمبريالية في الفلبين وأفريقيا ولكن في بعض القطع النثرية القصيرة فقط في آخر عقدٍ من حياته. كان جورج أورويل يشعر بخيبة أمل عميقة في عمله لسنوات كضابط شرطة في بورما الواقعة تحت حكم بريطانيا في زمنه، لكنه لم يبدأ الكتابة فور عودته من هناك؛ فقد بدأ في الكتابة فقط في عام 1927؛ ثم ظهرت روايته الأولى "أيام بورما" في عام 1934. إذا ما تطرّق كُتّاب القرن من الإمبريالية، فكان ذلك عادة للاحتفال بها وتمجيدها فقط، كما فعل جون بوتشان وروديارد كيبلينغ في المملكة المتحدة وأمثالهما في فرنسا وألمانيا.

 

كان الكاتب الهولندي جوزيف كونراد استثناءً جلياً لأقرانه في ذاك العصر، ففي روايته نوسترومو، يقول رائد التعدين المليونير الأمريكي هولرويد: "سندير الأعمال التجارية في العالم ما إذا كان العالم يحب ذلك أم لا". وتمثل روايته "قلب الظلام" -التي نشرت في عام 1899- تصوره الثاقب لهذه الأعمال. لا يمكن لأحدٍ يقرأ هذا الكتاب أن يتصور المستعمرين في أفريقيا مرة أخرى كما كانوا يحبون تصوير أنفسهم: بكرم منهم ودون أي أنانية ينشرون المسيحية والفوائد التجارية؛ ففي "قلب الظلام" يقول مارلو -راوي كونراد وشخصيته البديلة: "كانت رغبتهم انتزاع الكنز من أحشاء الأرض" وفي مقطع آخر يقول مارلو: "الأمر كسرقة اللصوص لخزنة أموال، لا أخلاقيات فيه ولا هدف نبيل من ورائه".

  

undefined

  

كانت الكونغو في ذلك الوقت مستعمرة خاصة "شخصية" لملك بلجيكا ليوبولد الثاني، التي حكمها ضمن نظامٍ لا رحمة فيه مستغلاً أعداداً كبيرة من الكونغوليين كعمال قسريين لجمع العاج والمطاط البري والغذاء لجنود الملك، إضافةً للحطب الذي تم استخدامه كوقود للسفن البخارية التي ملأت الأنهار وأكثر من ذلك بكثير. ولكن الروائي لم يقصد أن بلجيكا قامت لوحدها بسرقة ثروات البلدان المستعمَرة، التي مثلها بشخصية السيد كورتز، الشخصية الشريرة المتمثلة في صياد العاج الجشع في الرواية: "ساهمت كل أوروبا في صنع كورتز".

 

عاش كونراد في عالم أوسع من عالم أعظم كُتّاب عصره مثل مارسيل بروست أو جيمس جويس، وهذا ما يميز رواية "ساعة الفجر" The Dawn Watch، الكتاب الجديد الذي خطته المؤرخة مايا جاسانوف من جامعة هارفارد بكل أمانة وبلاغة. ولد جوزيف تيودور كونراد كورزينيوسكي إلى والدين بولنديين، غادر منزله في سن السادسة عشر للإبحار حول العالم فركب السفن التجارية لعقدين، ثم استقر في المملكة المتحدة وأصبح كاتباً. كتبت جاسانوف أنه على الرغم من أن كونراد: "لن يكون قد عرف كلمة ‘ العولمة‘.. ولكنه جسدها عبر رحلته الممتدة من مقاطعات الإمبراطورية الروسية عبر أعالي البحار إلى المقاطعات البريطانية". وعلى الرغم من وجود بعض الصور النمطية العنصرية في تصوير الأفارقة و -بدرجة أقل- الآسيويين، اعترف كونراد بوجود عالم متعدد الأعراق؛ حيث أشارت جاسانوف إلى أن نصف ما كتبه جعل من جنوب شرق آسيا موقعاً له. لم يكن هنالك أي كاتب آخر في عصره يتعامل بشكل حاد مع العلاقات والصدامات بين الأوروبيين والعالم غير الأوروبي.

 

إن تعاطي كونراد مع الإمبريالية والمتمردين السياسيين وحياة البحر في الوقت الذي كان يستبدل فيه الشراع في البخار -المحرك البخاري أساس الثورة الصناعية- جعله يتناسب مع أبعاد العالم المتصلة بوقتنا الحاضر. فكما ذكرت جاسانوف في كتابها: "إن ورثة البحارة المستبدلين بالتكنولوجيا في روايات كونراد موجودون [في وقتنا الحاضر] في صناعات تعطلت بسبب الرقمنة". وأضافت: "يمكن العثور على نظائر الأناركيون -المعادين للحكومة المذكورين في رواياته-  في غرف الدردشة على الإنترنت أو الخلايا الإرهابية. وإن المصالح المادية التي ركزها في الولايات المتحدة تنبعث اليوم من الصين". لم يضع كونراد نظرية العولمة -حتى تحت اسم آخر- ولكن أخذت جاسانوف على عاتقها أن تري أن كتابات كونراد امتدت وشملت جميع أنحاء العالم في عصر كان فيه الكُتّاب غالباً ما يعملون على جغرافيا ومسرح محدود؛ خذ على سبيل المثال "ويسكس" وهو اسم أطلقه توماس هاردي على جزء من إنجلترا حيث تدور معظم رواياته فيه. ولا يزال هناك عدد قليل جداً من الروائيين المخضرمين الذين يمكن للمرء أن يقول عنهم ذلك في وقتنا الحاضر.

   

قامت جاسانوف بزيارة العديد من الأماكن التي عاش فيها كونراد، ورسمتها بعين روائية
قامت جاسانوف بزيارة العديد من الأماكن التي عاش فيها كونراد، ورسمتها بعين روائية
 
بعيداً عن الديار

على مدى عقود من الزمن، انشغل النقاد وكُتّاب السيرة الذاتية بحياة كونراد التي عاش معظمها في زوايا بعيدة من العالم، كما خلقت شبكة من مذكرات كونراد المحتوية على مراوغات من نسجه تحدياً جديداً أمام هؤلاء النقاد والكُتّاب. إن كتاب "ساعة الفجر" ليس شاملاً لسيرة كونراد الذاتية بأكملها كما في كتب أخرى، مثل كتاب "حياة جوزيف كونراد" من تأليف زدزيسلاو ناجدر الذي صدر عام 2007. في الواقع، إن "ساعة الفجر" ليس سيرة كاملة بقدر ما هو تأمل في حياة الروائي والعديد من أعماله الرئيسية، ولكنه متعة كبيرة للقراءة حيث اندفعت فيه جاسانوف لفهم العالم الذي شكّل وصقل مهارات ونظرة الكاتب الذي تحب. للاقتراب من تجربته البحرية، سافرت جاسانوف في سفينة حاويات -تستخدم لنقل البضائع- من هونغ كونغ إلى إنجلترا؛ وعلى متن سفينة شراعية بطول 134 قدماً من أيرلندا إلى بريتاني؛ وبواسطة قارب نهري لألف ميل في الجزء السفلي من نهر الكونغو. إلا أنها تذكر هذه الرحلات فقط بشكل متواضع، حيث لا تستخدمها لتفخر بمشروعها ولكن لاستحضار حياة كونراد على الماء؛ فتصف العرض الرائع لنهر الكونغو، أو إيقاع حديث البحارة عندما لا يروا اليابسة لأيام، فينصب تركيز حواسك على البحر وشروق الشمس والطقس.

 

قامت جاسانوف بزيارة العديد من الأماكن التي عاش فيها كونراد، ورسمتها بعين روائية: "مرسيليا، مدينة زيت الزيتون، أشجار البرتقال، النبيذ الحلو، وأكياس التوابل، الفم المفتوح على البحر المتوسط والعين الناظرة نصب أفق الأطلسي، مدينة الصليبيين، الثوريين، وكونت مونتي كريستو". وتخطّ بقلمها الماهر واصفةً الأشخاص الذين شكلوا العالم الذي عاش فيه كونراد مثل الملك ليوبولد الثاني، الذي وصفته بكلماتها: "لدي أنف كمنحدر جبلي ولحية تمتد كزبد الشلال على صدره". رسمت بمهاراتها الوصفية لوحة تعكس ما قال أحد الكتاب عن عمل الكلمة المكتوبة: "تجعلك تسمع، تجعلك تشعر… وفوق كل ذلك تجعلك ترى".

 

قاد استكشاف عالم كونراد -وخاصة التغيرات في تجارة المحيطات التي وقعت على مدى حياته- جاسانوف إلى أسفل بعض الطرق الفرعية الرائعة. عنى التحول من الشراع إلى المحرك البخاري تضاؤل عدد الوظائف: لم يعد هناك كل تلك الأشرعة لتجهيزها وطيها، كما كانت البواخر أكبر ويمكن أن تحمل شحنات أكبر بكثير؛ وبالتالي كان سوق العمل صعباً جداً، ويبدو أن كونراد قد قضى الكثير من الوقت في البحث عن مرسى ليخدم فيه. في إحدى المرات، استطاع الانضمام إلى سفينة بريطانية تبحر لمسافات طويلة ليعمل كزميل أول أو ثاني، ووجد أن أكثر من أربعين في المئة من الطاقم كانوا أجانب مثله حيث كانت الأجور أقل من أجر العديد من العمال البريطانيين العاملين على البر، ولكنها سخية لشخص من آسيا أو أوروبا الشرقية. وجدت جاسانوف أن الأمر نفسه يحدث اليوم مع الطاقم الفلبيني الذي يعمل في سفينة الحاويات التي سافرت على متنها.

  

undefined

   

وتشير إلى أنه حتى خلال الشفق الطويل-الرحلة الطويلة- للسفينة الشراعية، فإن تكلفة الفحم تعني أن النقل عن طريق السفن الشراعية لا يزال قادراً على المنافسة من الناحية المالية إذا ما كان السفر لأكثر من 3500 ميلاً، والذي كان أحد الأسباب التي دفعت كونراد للعمل في كثير من الأحيان على متن هذه السفن، الأمر الذي كان من حسن حظ قرّائه لاحقاً.

  

ضحايا الإمبراطورية

وصف كونراد لقاءه مع العالم خارج أوروبا باللامكان أكثر قوة مما ظهر في روايته "قلب الظلام" التي ربما تعتبر أكثر الروايات القصيرة -باللغة الإنجليزية- قراءةً والتي لاقت استحساناً على نطاقٍ واسعٍ. تنبع قوة الكتاب من كونه مقتبساً من الشهور الستة التي قضاها كونراد في الكونغو في عام 1890. وكان قد انضم للطاقم في منصب كابتن الباخرة الذي تخيله على أنه مغامرة، ولكن عندما تدرب على المنصب، أرعبه الجشع والوحشية التي رآها، فسقط مريضاً بالزحار والملاريا، وقلّص مدة إقامته للعودة إلى أوروبا.  في مذكرات كونراد للأسابيع الأولى من إقامته على السفينة، يمكن العثور على كمية كبيرة من تفاصيلها في "قلب الظلام" حيث وصفت العمال الرقيق المكبلون في سلاسل، والجثث المتعفنة لمن أُجبِروا على العمل حتى الموت.

 

ما الذي أعطاه هذه القدرة النادرة على رؤية الغطرسة والسرقة في قلب الإمبريالية؟ وكيف له أن يرى مهمة الملك ليوبولد -التي تم الترويج لها بشكل كبير على أنها داعمة للحضارة- على أنها عمل تأسس على الرقيق؟ يعود جزء كبير من ذلك إلى حقيقة أنه هو نفسه كبولندي يعرف معنى العيش في أرض محتلة. خلال القرن التاسع عشر، تم تقسيم أرض "بولندا اليوم" بين ثلاث إمبراطوريات مجاورة، النمسا-المجر وبروسيا وروسيا. الأمر الآخر هو أن عائلة كونراد عاشت في المنطقة الأكثر قمعاً. عندما بلغ الثالثة من عمره، هاجم القوزاق الكنائس لتفريق مراسم التأبين لبطل قومي بولندي. وعلاوة على ذلك، في السنوات القليلة الأولى من حياته، تم معاملة عشرات الملايين من الفلاحين في الإمبراطورية الروسية كالعمال الرقيق: العبيد.

 

أبولو كورزينيوسكي والد كونراد
أبولو كورزينيوسكي والد كونراد
  

كان أبولو كورزينيوسكي والد كونراد شاعراً قومياً بولندياً ومعارضاً للرق، رغم أنه وزوجته من طبقة النبلاء في البلاد والتي كانت تملك في بعض الأحيان العبيد. بسبب أنشطته القومية، أُلقيَ بكورزينيوسكي في سجن وارسو القاسي ثم ساقته شرطة القيصر كالقطيع إلى المنفى في شمال روسيا، وذهبت زوجته وابنه البالغ من العمر أربع سنوات معه. ساهم المناخ المتجمد بتفاقم السل الذي أودى بحياة والدة كونراد عندما كان في السابعة من عمره. توفي والده بعد بضع سنوات فقط حيث تحولت جنازته -في كراكوف التي احتلتها النمسا في ذلك الوقت- إلى مظاهرة ضخمة للقومية البولندية. ليس من المستغرب أن هذا الصبي الذي نشأ بين المحاربين القدامى في المنفى، وحديثهم عن العبودية، وأنباء الأقارب الذين قتلوا في الانتفاضات خلق منه شخصاً واعياً لعدم الثقة في الغزاة الإمبراطوريين الذين أدّعوا أن لهم الحق في حكم شعوب أخرى.

   

في زمن كونراد، كان هنالك عدداً قليلاً من الأوروبيين المعادين للإمبريالية جهارةً، كما كان يميل معظمهم إلى اليسار من الناحية السياسية. ومن المفارقات أن كونراد -بغض النظر عن سياسته- كان متحفظاً جداً ولم يحبذ أياً من النقابات العمالية. رغم اشمئزازه من الإمبريالية الروسية والبلجيكية، كانت الإمبريالية البريطانية رائعةً بنظره. كانت روايته "قلب الظلام" موضع ترحيبٍ كبيرٍ بين "الإصلاحيين الكونغوليين" البريطانيين الذين حرضوا ضد نظام العمل القسري للملك ليوبولد. من ناحية أخرى، كان كونراد حذراً من اعتبار نفسه جزءاً من حركتهم رغم أن أحد شخصياتها البارزة كان الإيرلندي روجر كاسيمنت الذي توطّدت علاقته به لفترةٍ وجيزةٍ عندما تشاركوا منزلاً في الكونغو. خلافاً للعديد من المثقفين البريطانيين، لم يتبنى كونراد المثالية الاشتراكية رغم تبني المقربون منه لها. تميزت روايتان من رواياته بوعيه الشخصي في السياسة؛ كانت أولاهما "العميل السري" التي تطرقت للاسلطويين الأناركيين في لندن، أما الثانية فكانت رواية "تحت عيون غربية" التي تحدثت عن الثوريين الروس في سانت بطرسبرغ وجنيف. امتلأت الروايتان بالشخصيات المتسلطة المرتشية والساذجة الميؤوس منها، كما تعددت شخصيات مخبري الشرطة بين صفوف كلا المجموعتين من اللاسلطويين والثوريين.

  

بطريقةٍ ما، خدمت رؤية كونراد الصارمة كتاباته جيداً؛ على الرغم من أن روايته "تحت عيون غربية" قد نشرت قبل ست سنوات من الثورة الروسية إلا أنه قد توقع مصيرها تقريباً. يقول راوي الرواية في مرحلة ما: "في ثورة حقيقية لا تتخذ أفضل الشخصيات الصفوف الأمامية. تقع الثورة العنيفة في أيدي المتعصبين ضيقي الأفق… أما الشخصية النبيلة الإنسانية المخلصة… غير الأنانية والذكية قد تُنشِأ حركة ما- لكنها لا تلقي للسابقين بالاً. إنهم ليسوا قادة الثورة، إنهم ضحاياها".

  

كان لدى كونراد عيناً ثاقبةً رأى فيها مختلف أشكال الظلم في العالم
كان لدى كونراد عيناً ثاقبةً رأى فيها مختلف أشكال الظلم في العالم
   

كان الأمر صحيحاً تماماً في روسيا، ولكن هذه الرواية تعتبر خرقاءً بحوارها ذا اللغة الخشبية -للتعبير عن الكذب المغلف بالمدح والإطراء للمناورة والإغراء، أو بكلمة معبرة أكثر: "النفاق السياسي"- وشخصياتها المسطحة، كان يمكن لهذه الرواية أن تكون أفضل بكثير لو أن كونراد أظهر المزيد من التعاطف مع هذه الشخصيات "النبيلة الإنسانية المخلصة"، بغض النظر عن مدى كذبهم وتضليلهم. تتميز الروايات التي أصدرت في وقت لاحق رؤية أشمل تعطي عمقاً أكبر للتعامل مع المأساة السوفيتية، مثل رواية "الدكتور جيفاغو" للروائي بوريس باسترناك ورواية "الحياة والقدر" للروائي فاسيلي غروسمان.

  

كان لدى كونراد عيناً ثاقبةً رأى فيها مختلف أشكال الظلم في العالم، ولكن ما الذي أعطاه وجهة نظر متشككة لدى أي شخص يطمح للتغيير؟ تقترح جاسانوف أن هذا جاء من "فشل أهداف والده السياسية"، ولكن هناك أدلة تشير إلى خلاف ذلك. في مذكراته التي نشرها تحت اسم "سجل شخصي"، يتحدث عن والده على أنه "وطنياً" وليس ثورياً. وقد تحققت الأهداف السياسية لكورزينيوسكي خلال حياة ابنه، عندما فاز البولنديون أخيراً بوطنهم وحرروه من القوى الاستعمارية. يعتبر هذا الهدف أكثر اعتدالاً وأقل شراً من أحلام كونراد الظاهرة في "العميل السري" و"تحت عيون غربية" التي تجسدت في رؤية اللاسلطويين الأناركيين الهادفة لتدمير جميع الحكومات والبلاشفة -إحدى الأنظمة الديكتاتورية للبروليتاريا -الطبقة الكادحة. دعا كونراد إلى الأمة البولندية وقام بتكريم ذكرى والده في زيارة لقبر كورزينيوسكي بعد عقود من وفاته، حيث فاجأ الروائي عائلته بالركوع في الصلاة.

  

كان من الواضح أن استبعاد كونراد من قِبَل جميع الراديكاليين والمصلحين يعود أسبابٍ أخرى. في أواخر سن المراهقة عندما كان يعيش في مرسيليا، خسر كل أمواله من خلال الاستثمار في إدارة السلع المهربة -ربما البنادق- إلى إسبانيا. تلقى قرضاً من صديق وحاول استرداد خسائره في الكازينوهات حيث خسره ما استدانة. عانى من اكتئابٍ شديد حيث أطلق النار على صدره في محاولة للانتحار، لكن الرصاصة لم تصب قلبه فنجا مما أشعره بالإذلال.

  

تاديوس بوبروسكي  (مواقع التواصل الإجتماعي)
تاديوس بوبروسكي  (مواقع التواصل الإجتماعي)

   

كان خاله تاديوس بوبروسكي بمثابة الوصي على كونراد منذ وفاة والده، فهرع إلى مرسيليا لإنقاذه من المشاكل. في سلسلة طويلة من الرسائل وفي مقابلاته الشخصية على مر السنين، رفض بوبروسكي بشدة طموحات كونراد الشباب غير العملية والرومانسية وحثّه على القيام بأمرٍ معقول، مثل العودة إلى كراكوف والاندماج في الأعمال التجارية. لحسن الحظ، لم ينجح خاله بذلك.

  

كما عانى كونراد من إحراج كبير في وقت لاحق، وهو ما تذكره جاسانوف فقط باقتضاب. في التسعينات من القرن التاسع عشر، استثمر في عمل وفقد جميع مدخراته تقريباً، بالإضافة إلى ميراثه المتواضع في منجم للذهب في جنوب أفريقيا. ومن المفارقات أن ثورة التهافت على الذهب في جنوب أفريقيا كانت عبارة طريقاً مختصراً لربح الأموال، وكتب كونراد عن مثيلها من الصناعات بقسوة في روايته "نوسترومو" حيث تحدث عن تجارة الفضة و"قلب الظلام" حيث تحدث عن تجارة العاج. ومن الأكثر إحراجاً من كل هذا، أنه تكبّد هذه الخسائر الفادحة عندما كان كان على وشك الزواج وتكوين أسرة. مما يثير العجب أن إحدى الحبكات في أفضل رواياته "لورد جيم" تدور حول رجل يحاول أن يتعايش مع عارٍ مبكرٍ. قد يكون تحفظه على آرائه السياسية نابعٌ عن طيشه في شبابه ورغبته في إثبات رصانة نفسه وتحمله للمسؤولية في نظر خاله بوبروسكي الذي اعتبره والده.

  

من ناحيةٍ أخرى، تجاوز كونراد مراوغات وعذاب حياته الخاصة في أفضل أعماله. ونقش صورة أعمق العلاقات بين الشمال والجنوب في العالم، وصور تأثير تآكل الشهوة للثروات بقوة أكبر من أي كاتب آخر في زمنه، وربما في زمننا أيضاً.

_______________________

 ترجمة: آلاء أبو رميلة

هذا التقرير مترجم عن: Foreign Affairs ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر : الجزيرة