شعار قسم ميدان

كاتبة الرعب "فيرجينيا وولف" كانت تسمع أصواتا غير بشرية

فرجينيا وولف - ميدان

قبل قرون، كان يُعتقد أن سماع المرء لأصوات خيالية تدور في رأسه هي علامة على التواصل مع الله، وإن لم يكن ذلك، فهو الشيطان إذن. وارتبطت هذه الظاهرة حديثا بمسمى الجنون، إلا أن مفهوم الأصوات الخيالية هو مفهوم أدبي للغاية كذلك. حيث يمكن أن يكون الأدب الخيالي "تجريبيًا" في المجال العلمي والفني، أي أنه وسيلة لدراسة دور الصوت الخيالي في التفكير المعتاد للمرء وكذلك في حالات الإبداع.

وقد اختبر بعض المؤلفين المشاهير الأصوات الداخلية على أنها "هلوسة لفظية سمعية"، ويبدو أن سماع الأصوات التي ليس لها مصدر هو سمة مشتركة في حياتنا جميعا، فضلا عن كونه جانب من جوانب التجربة الخاصة في اكتساب البصيرة، أو الحالات الإبداعية أو النفسية الخاصة.  وقد يشمل ذلك شخصًا فقد عزيزا له يريحه سماع صوت من تركه، أو متسلق جبال يسمع أصواتا حوله تؤنسه، أو طفل يتحدث إلى أصدقاء خياليين أو رياضي يركّز اهتمامه على تحفيز نفسه.

 

من يخاف من فرجينيا وولف؟

إن من أشهر الأدباء الذين عرف أنهم يسمعون أصواتا خيالية هي الأديبة الشهيرة فيرجينيا وولف. وقد تم التعرض لمزيد من حياة الأيقونة في فيلم "من يخاف من فرجينيا وولف" في عام 1966، والذي أظهرها كما كانت دائما ساحرة غامضة، ذات موهبة محكوم عليها باللعنة، وفنانة بوهيمية محبة للانتحار. 

ولكن من المؤكد أن أحدا لا يخاف من هذه الصورة شعبية عن "الجنون" المبدع؛ وتكمن معاناة وولف الخاصة وراء هذه الصورة الفاتنة؛ حيث عانت بين سن 13 (عندما توفيت أمها)، وسن 33 (عندما نشرت روايتها الأولى) سلسلة من الانهيارات النفسية الكبرى وسماعها الدائم للطيور التي تغني باليونانية القديمة.

ولكنها تعلمت كيف تتعامل مع صورتها العامة، وتتقبل الصورة النمطية التي ورثتها عن عائلتها الشهيرة، فاستخدمت علاج الراحة لمرضها النفسي ليكون فرصة للانسحاب إلى رحلة واسعة وهادئة للتجول في ذهنها والخروج بأفكار خلاقة. كما تعلمت وولف إدارة الأصوات التي كانت دائمة الحضور في ذهنها ولم تعاني من أي انهيار عصبي كامل حتى نهاية حياتها. ومنذ ذلك الحين، اختارها النسويون والناقدون الأدبيون والناشطون لتمثلهم.

يمكن النظر إلى حياة وولف وأرشيف أعمالها باعتباره مصدر جاد للبحث في تجربة الاستماع إلى الأصوات؛ ففي مقال نشر في عام 1919، حثت وولف قرائها على "دراسة العقل العادي في يوم عادي"، وحيث لم تر أي تناقض في وصف العقل بأنه "هالة مضيئة" ذات رؤية خاصة مع فكرة السلامة النفسية للمرء، وكانت أصواتها في وقت من الأوقات تجارب باطنية تخضعها لتحقيقها العلمي الخاص.

 

تُظهِر الأبحاث كيف أن سوء المعاملة في الحياة المبكرة غالباً ما يحفز التجارب السمعية المؤلمة في السنوات اللاحقة. وقد استفادت وولف من هذه الفكرة منذ عام 1920 عندما تحدثت لأول مرة، إلى نادي Memoir عن الإساءة الجنسية التي عانت منها أثناء طفولتها. ورأت بوضوح العلاقة بين الأحداث الرهيبة في حياتها المبكرة – تلك الوفيات المؤلمة والاعتداء الجنسي والإكراه الأبوي والإهمال العائلي – وأصوات الموتى التي تحدثت إليهم، فضلا عن الطيور الغريبة التي تغني باليونانية.  ورأت أيضًا كيف أن تطوير قدرات "تلقي الصدمات" سمح لها بأن تصبح كاتبة وكيف أن كتابتها تحميها من الانهيار الذهاني.

فيرجينيا وولف
فيرجينيا وولف

توجيه الأصوات والاستفادة منها
في الرسائل والمذكرات الخاصة بها، تناقش وولف كيف سمح لها الدخول إلى مساحة " الغرابة" بالتأقلم مع الذكريات التي أصبحت أكثر واقعية من الحاضر وكيف كان يتطلب ذلك تحويل حالتها العقلية طواعية إلى حالة من التفكك المتحكم به. وهو تقسيم للوعي  ينطوي على تقسيم بعض العمليات العقلية بحيث يعمل الوعي الذاتي في مجالين أو أكثر يغلق كل منهما نفسه بعيدا عن الآخر. وهذا " التقسيم" في الوعي يتجلى في شكل متطرف في اضطرابات الشخصية المتعددة.

 

 وفي تحولها بين الحالات العقلية المختلفة استكشفت وولف خيالها وإبداعها الأدبي، في كتابها On Being Ill، تصف وولف  الانزلاق الغريب في المرض النفسي ورؤيتها الجديدة للعالم المألوف وتغير شكل الزمان والمكان بالنسبة لها. وهو ما وصفه الطبيب النفسي كارل ياسبرس (1913) بأنه المرحلة الشديدة للذهان وهي أن يكون المريض النفسي في مرحلة من الغياب عن الحاضر.

وفي رواية  To the the Lighthouse، وهي أكثر روايات وولف يأتي فيها ذكر للسيرة الذاتية، تدخل ليلي بريسكو( في الرواية) "منطقتها الغريبة" الخاصة بعد وفاة صديقتها ومضيفتها السيدة رامزي.  وتستعد للقفز إلى "مياه الفناء" عندما تشرع في رسمها، فتستدعي كل إرادتها بينما تتتحرك يدها بالفرشاة، وتستدعي مشاهد سابقة في ذهنها  وتسمعها بينما تحمل  قبضة متينة على إدراكها الحسي بالحاضر. وبينما تظهر اللوحة، فإن "بقايا" سنواتها الآن تحقق توازنا عاطفيا  ترى من خلاله مشروع إعادة تشكيل مبدعة لذكرى الماضي، وتوقن أنه لا يمكن إدانة المرء بإحساس بالعار طوال حياته، وكانت وولف تكتب نيابة عن صوت والدتها في هذه الرواية.

undefined

أجبرت الأصوات الخيالية وولف على ابتكار إمكانات جديدة لصوتها الخيالي وتوظيفه. ففي  كتابها السيدة دالواي، ابتكرت طريقة في الكتابة تشبه الجوقة اليونانية بتنقلاته وألوانها وتداخل الأصوات. وبينما زادت تجاربها العقلية مع الأصوات زادت مساحات إبداعها، أدركت أن هناك الكثير مثلها في هذا العالم وأنها ليست بمفردها.

عرفت وولف -النسوية- أن مفهومنا الجمعى الليبرالي للأشخاص يجب أن يعترف بالتنوع الهائل للجنس البشري. لكن إذا هربنا من فكرة التنوع في داخلنا بوصف هذه التجربة بالجنون، فكيف لنا أن نحتفل بالاختلافات التي نواجهها في العالم خارج أنفسنا؟

تسمح لنا روايات وولف  بالاستماع  إلى الأصوات التي كانت بداخل رأسها وتقبل الأصوات التي نسمعها بداخلنا وتعلم الدروس السياسية والأخلاقية بالإضافة إلى تلك المعرفية حول ما يحدث بينما يستمر عقلنا في الحوار اللانهائي مع نفسه.

_____________________
ترجمة: الزهراء جمعة
رابط المقال الأصلي