شعار قسم ميدان

كيف عبرت رواية "البصيرة" لسارماجو عن أفكار كارل شميت؟

أدب - ميدان
كثيرا ما أثارت الديمقراطية، مفهوما وسلوكا، الكثير من النقاشات في الأوساط الشعبية، فما بين اعتبارها سلوكا يعبر عن انفتاح كلي على النموذج الغربي بما يحمله من تغير ثقافي وثورة على العادات والتقاليد الاجتماعية، وما بين اعتباره تقليدا سياسيا غربيا لا تعد الدول العربية مهيأة لتطبيقه، فإنها بتبايناتها تلك، تعبر عن موروث شعبي يحمل التباسا حول ماهية الديمقراطية.

 

التباس لم يقتصر على النقاشات العامة، وإنما امتد لكتابات الفلاسفة والمفكرين والكُتَّاب، لما تحمله الديمقراطية من تناقضات في ساحتها، ما بين النظرية والتطبيق، ومن أهم أولئك الذين كتبوا عن الديمقراطية، جوزيه ساراماجو الكاتب البرتغالي الشهير الذي حصل على جائزة نوبل للآداب عام 1998 حينما انتقد في روايته "البصيرة" الديمقراطية باعتبارها الوجه الآخر لشرعنة الاستبداد، ساخرا من القانون الذي يضعه الحاكم ويرفعه متى يشاء معلنا حالة الطوارئ للقضاء على الخصوم، أو بمعنى أدق، للقضاء على الشعب وإرادته الحرة.

 

ما يميز رواية ساراماجو "البصيرة" في انتقادها للديمقراطية عدة أمور، منها: أن ساراماجو يتركنا نعيش في مدينة مجهولة غير محددة المعالم، ليس لها اسم ولا عنوان على الخريطة، ويفتح لنا عالمه الروائي وسط أبطاله المجهولين سوى من بعض الأسماء الوظيفية، فهذا رئيس الوزراء، وذاك وزير الدفاع، وإلخ.

 

في الواقع، لا يهمنا كثيرا أن نعرف أسماءهم، ولا يعيب السرد الروائي غيابها، ليصبح هذا التغييب جوهر التعريف، حيث يتمثل غرضه الرئيسي في تعميم صلاحية تطابقه بمختلف الأزمنة والأمكنة، فلتكن مدينة ساراماجو في "البصيرة" هي كل مدينة على كوكبنا الأرضي بها نظام انتخابي ورقي يعطي شرعية للاستبداد ويعيد تكريسه تحت دعوى الديمقراطية والصالح العام.

الكاتب البرتغالي الشهير جوزيه ساراماجو
الكاتب البرتغالي الشهير جوزيه ساراماجو

الأمر الآخر، أن ساراماجو ينطلق في أعماله عادة من المخالف ليعرف السائد، ومن الخاص لنرى العام، ومن الاستثناء ليثبت القاعدة، فقد انطلق في روايته "العمى" ليعيد تعريفنا وإدراكنا لمعنى البصيرة الحقيقية، ويجعلنا نتساءل هل فقدان القدرة على الإبصار هو فقدان للحياة؟ من خلال مدينة متخيلة تتحول جميعها إلى مجموعة من العميان فيما عدا سيدة واحدة، لتأتي إلينا هذه السيدة في رواية "البصيرة" ليصبح بصرها، أي استثناؤها من وباء العمى الذي أصاب المدينة، هو تهمتها الرئيسية.

 

حالة الاستثناء بين ساراماجو وكارل شميت
تبدأ رواية "البصيرة" بوصف الطقس في يوم ممطر في مدينة متخيلة يحجم المقترعون عن التوجه إلى صناديق الاقتراع حتى الساعة الرابعة عصرا، ثم يصلون جميعا في الوقت نفسه، وعند فرز الأصوات يتبين أن نحو ثلاثة أرباع المقترعين وضعوا في الصناديق أوراقا بيضاء (أي أوراقا انتخابية غير مؤيدة للحزب الحاكم)، وبعد أسبوع من سيطرة حالة الذعر على الحكومة، تجري عملية الاقتراع في يوم آخر مشمس، فتأتي النتيجة صادمة، فقد ألقى ثلاثة وثمانون في المئة من الناخبين بأوراقهم البيضاء.

كانت هذه لحظة الاستثنائية في تاريخ المدينة المجهولة؛ فلأول مرة يحدث أن يسقط الحزب الحاكم في نتيجة الانتخابات، هذه اللحظة هي محور رواية "البصيرة" لساراماجو، التي قدم فيها سخرية لاذعة للديمقراطية، وبَيّن كيف تشرعن الديمقراطية للقمع في بعض الأنظمة المستبدة، ولكنه قمع مصبوغ بطلاء القانون، وبإرادة صاحب السيادة الذي يملك القرار إزاء حالة الاستثناء.

 

تركيز ساراماجو على حالة الاستثناء في رواية "البصيرة" يتوافق مع مقولة الفيلسوف الدنماركي كيركجارد "حالة الاستثناء تعرف العام"، أي إن الحالة الاستثنائية تبرز الكلي، وما هو مخالف للقانون يبرز أهمية القانون، فالاستثناء هو الكاشف عن الحقيقي، عن القواعد العامة الأكثر رسوخا.

 

هذا التوافق على أهمية الحالة الاستثنائية هو ما يدفعنا لنقرأ رواية ساراماجو برؤية كارل شميت وفلسفته، لندّعي أن روح شميت وفكره قابع بين طيات الرواية، ينبئُك بأحداثها ويفسرها لك، ونرى في ساراماجو كيف تُحكى الفلسفة وتُروى النظرية السياسية داخل نص أدبي؟ فرواية ساراماجو هي نص في النظرية السياسية.

undefined

 

ويمكن أن نجد هذا التلاقي الذي يصل إلى التطابق بين أفكار كارل شميت وجوزيه ساراماجو في روايته "البصيرة" في أن السيادة في لحظات الاستثناء سلاح ينفي الديمقراطية، ويبين تناقضاتها، ويوضح كيف تحولت الدولة القومية إلى لاهوت جديد، ينفي وهم العقلانية التي قامت عليه الدولة الحديثة.

 

لحظات الاستثناء سلاح ينفي الديمقراطية
يرى كارل شميت أنه من يمتلك السيادة يمتلك في لحظة استثنائية معينة سلطة رفع القوانين، ومن خلال استخدامه لهذه السلطة يقوم بتأكيد السيادة، أي إن حالة الاستثناء هي التي تثبت سيادته. وفي رواية "البصيرة" نجد اجتماعات متواصلة من أعضاء الحكومة لمواجهة الخطر المهدد لبقائها، فلا يجدون قرارا يمكن اتخاذه لإنقاذ الدولة من ورطتها الأشد وطأة في تاريخها سوى إعلان حالة الطوارئ.[2]

وفقا لحالة الطوارئ، يسمح للحكومة -في الوقت الذي تنتفي صلاحيتها بنتائج الانتخابات- بممارسة سلطاتها ووقف الضمانات الدستورية، ليعطي لها حق المعاقبة على الحرية في التعبير، ومنع حرية الإعلام، ووقف الجرائد عن الإصدار، ومصادرة آراء المواطنين التي -للمفارقة- يقرها القانون والدستور أيضا.[3] وتُتخذ هذه الإجراءات الاستثنائية وترفع حالة الطوارئ داخل مبنى البرلمان الذي يصفه ساراماجو -ساخرا- بأنه قلب السلطة وقلب الديمقراطية.

وقد رسم شميت في كتابيه "اللاهوت السياسي" و"مفهوم السياسي" ملامح سيادة الدولة على المجتمع على نحو يفيد بأنها قادرة على أن تكون متى احتاجت في حل من أي عقد دستوري تبرمه هي بنفسها، وبأن في وسعها أن تطلب من أفرادها أرواحهم في سبيلها، وأن تقبض على أرواح بعضهم إذا ما اقتضت مصلحتها ذلك.

فيكشف كل من شميت وساراماجو التناقضات الداخلية التي يحملها النظام الديمقراطي، وكذب الوعود التحررية التي أعلنتها الدولة القومية الحديثة كمبرر لوجودها، ووهم تحررها من الميتافزيقيا والتخلص من القيد الديني، ودعواها التمسك بالعقلانية.

كارل شميت
كارل شميت

يرى شميت أن فقه الدولة الحديثة قائم على مفاهيم لاهوتية معلمنة، وليس عقلانية وضعانية. ويتوافق هذا مع وصف ساراماجو إعلان حالة الطوارئ في "البصيرة" بأنه "نوع من الحكم السليماني المحاط بالعناية الإلهية كحل الحكومة للمشكلة العويصة منذ النتيجة المشؤومة للانتخابات".

فهو دلالة على أن الدولة القومية قد نصبت نفسها إلها، ومؤشر على مدى تطابق مفهوم السيادة لدى شميت مع مفهوم اللاهوت، حيث تتجلى قوة الدولة كالإله في لحظة خرق القانون.

تتمثل كذلك مظاهر سلطة الدولة كإله في لحظات الاستثناء عبر القدرة على التمييز بين العدو والصديق، وكان هذا ما فعله ساراماجو في "البصيرة" وهو الرغبة في التمييز بين العدو والصديق، ولأن عملية الاقتراع بها من السرية التي لم تكشف عن هؤلاء الذين صوتوا أصواتا بيضاء ضد الحكومة، كانت عملية التمييز صعبة، مما دفع الدولة لإعلان حالة الطوارئ للتعبير سيادتها في تلك الحالة الاستثنائية. واستمر بحث الحكومة بأجهزتها المختلفة في "البصيرة" عن العدو باعتباره المختلف، حتى كانت السيدة الوحيدة التي كانت مبصرة وقت العمى الذي أصاب المدينة هي المتهم الأول.

 

لم يفعل المواطنون شيئا غير دستوري، فممارسة حقهم الانتخابي، وتصويتهم بأصوات بيضاء حق دستوري لا يجوز معاقبة المواطنين عليه، فلا يوجد مبرر قانوني لتزايد قلق الحكومة ورغبتها في معاقبة المدينة من خلال التهديد بالانسحاب من العاصمة، والبحث عن طرق وأفكار لمعاقبة المواطنين.

ليثير شميت وساراماجو أسئلة عديدة نرى من خلالها التناقضات التي يحملها النظام الديمقراطي، مثل: كيف للديمقراطية ذاتها كحكم الشعب بنفسه أن يتسق مع صلاحيات دولتية فائقة أشبه ما تكون في بنيتها بصلاحيات إله؟ أي ديمقراطية لها أن تخول المؤسسة السياسية بالقفز على أي عقد دستوري أو تقييد قانوني أراده الشعب نفسه؟

 

نهاية "البصيرة" بتوقف الكلب عن العواء واستمرار مأزق الديمقراطية
افتتح ساراماجو روايته "البصيرة" باقتباس من كتاب الأصوات عبارة عن مقولة "قال الكلب: علينا أن نعوي"، وأنهى الرواية بمقتل السيدة المتهمة بتأليب الجماهير للتصويت ضد الحكومة بأصوات بيضاء، بينما يأتي الكلب مهرولا من الداخل، يتشممها ويلعق وجه صاحبته، بعدها يرفع رقبته لأعلى، ويطلق عواءه مرتجفا يقطعه في الحال طلقة أخرى، حتى يخرس نباحه مع صوت طلقة الرصاص الثالثة.

حينئذ يسأل رجل أعمى بالخارج رجلا آخر قائلا: "أسمعت شيئا؟

بعد سماع صوت ثلاث طلقات

أجابه الآخر: لكن كان هناك أيضا كلب يعوي ثم صمت

ربما أصابته الطلقة الثالثة

الحمد لله فأنا أبغض عواء الكلاب"[4]

انتهت الرواية بقتل الكلب وإسكاته عن العواء، في دلالة على الكيفية التي تخرس بها الدولة بما تملكه من سلطة السيادة أصوات المعارضة،  وتبسط نفوذها على المجتمع في لحظة استثنائية تؤكد فيها سيادتها، وتشرعن فيها انتهاك القانون بالقانون، ويصبح استخدام القمع والعنف والوأد أمرا فوق استيعاب السلطة القضائية التي يحكم منطق عملها تعريف محدود للشر لا تستوعب عبره حالة الشر العامة التي قد تثار وقت الاستثناء من إبادة جماعية أو انتهاك شامل، فاللاهوت الذي تتمتع به الدولة الحديثة يكفل لها في حالة الاستثناء أن تملك الحيازة الصريحة على حياة البشر، بل كذلك حق تعيين العدو الداخلي والقضاء عليه من حيث هو لا يخضع لقرار الدولة والقانون الساري فيها، في وسط ارتباك وتعطل للسلطة القضائية.

 

حيث لا يوجد ما يكفل الديمقراطية كحق ليحكم الشعب نفسه بنفسه، فلا يبقى لنا سوى أن نرثي الديمقراطية التي وُئدت مع عواء الكلاب الذي تبغضه السلطة، ببعض من أبيات شعر كتبها الشاعر النيجيري أوديا أوفيمون في ديوانه كذب الشاعر الصادر في 1980:

"في نموذج ديمقراطيتنا

ترقد وعود الأمس السحرية

باردة مثل عفن المواشي الميتة".[5]

 

لنرى كيف أن قضية الديمقراطية تجسد معاناة عالمية وأزمة حقيقة، فما زال الطريق نحو تحقق نموذج ديمقراطي فعلي يحافظ على إرادة الشعب الحرة في ظل أنظمة سلطوية تمتلك سطوة العنف وسلاح السيادة، وتمتلك رفاهية تعيين العدو من الصديق ورفع حالة الاستثناء وقتما تشاء، طريقا شاقا في كل مدينة تتشابه مصائرها مع مدينة ساراماجو، التي تصبح بذلك مدينة عالمية وإن ظلت مجهولة الاسم.