شعار قسم ميدان

هل يسعى الإنسان بطبعه للعنف أم تفرضه عليه الظروف؟

midan - العنف

"الحرب هي كل الأشياء وملكة كل الأشياء"

(الفيلسوف الإغريقي هيرقليطس)

 

خلال تسجيل مَرئي مُسرب أثار ضجة ضخمة وقت صدوره، يظهر فيه لقاء أو مؤتمر لمجموعة من المثقفين المصريين في الفترة التي تلت الانقلاب العسكري في مصر مباشرة، يخرج أحد المثقفين وهو يحرض الباقين ويعلن تأييده المُطلق لتحركات الجيش في خطوة الانقلاب العسكري، وما تلاه من مذابح وانتهاكات، بقوله "مفيش ديمقراطية، ومفيش مجتمع انتقل إلى الأمام بدون دم"، كان هذا هو "حلمي النمنم" الذي تم تعيينه على رأس وزارة الثقافة المصرية في وقت لاحق.
 

بعد هذا التصريح بمدة قصيرة قامت قوات الأمن والجيش المصري بارتكاب أكبر مذبحة في تاريخ مصر الحديث ضد المعارضين للانقلاب العسكري1.

 

تفتح هذه المقولة الدالة العديد من الأسئلة؛ إذ ما الذي يدعو وزير الثقافة المصري، وهو المثقف المصري العلماني التنويري، إلى أن يصرح بهذه المقولة والتي تبدو وكأنها إحدى الحقائق التاريخية الكبرى، فما الرابط بين الديمقراطية مثلا أو بين التقدم إلى الأمام وبين العنف والدماء والحرب؟

 

والسؤال الأهم أيضًا -أمام مشهد طوفان العنف والحروب التي ملأت المنطقة العربية- هل العُنف ممارسة تاريخية وسياسية تظهر ضمن سياقات وظروف تساعد على تنمية الظاهرة وتسمح بظهورها؛ أم أن العنف دافع طبيعي مغروز في الطبيعة الإنسانية لدى الأفراد والجماعات؟، وما هي الجذور النفسية والاجتماعية للعنف؟

 

 

العُنف جوهر التاريخ

"العنف مولد التاريخ"

(كارل ماركس)

 

بحسب النظرة الفلسفية لهيغل وماركس فكل شيء في حالة صيرورة وتغيّر، والعنف والصراع هما العنصر الثابت وسط صيرورة تاريخية متحركة لا شيء ثابت فيها
بحسب النظرة الفلسفية لهيغل وماركس فكل شيء في حالة صيرورة وتغيّر، والعنف والصراع هما العنصر الثابت وسط صيرورة تاريخية متحركة لا شيء ثابت فيها
 

يرى فلاسفة الحداثة الأوائل وأنصار نظرية التقدم -هيغل وماركس وتلامذتهم- أن الواقع الإنساني يتكون من مكونات أساسية2، المكوّن الأساسي وهو المحرك لهذا الواقع جدلية النفي والصراع، وأن هذا المكون الجدلي هو الذي يدفع بالواقع الحالي حتمًا نحو تجاوز ذاته إلى كيان آخر جديد نوعيًا، وأن الصراع والعنف هما محركا الطبيعة والتاريخ والمجتمع والفرد، فبحسب تلك النظرة الفلسفية فإن كل شيء في حالة صيرورة وتغيّر، والعنف والصراع هما العنصر الثابت وسط صيرورة تاريخية متحركة لا شيء ثابت فيها.

 

فخلال شرحه لفلسفة هيغل، يُفصل الفيلسوف الروسي "كوجيف" بين وجهين للفلسفة التاريخية الحداثية3؛ حيث يرى أن فلاسفة التاريخ -وعلى رأسهم هيغل بالطبع-  دائمًا ما يفترضون أن العقل هو المحرك الأساسي للتاريخ، فالعقل هو الذي أنتج مفاهيم الديمقراطية والتنوير والعلمانية، وهو الذي يدفع الجماهير لأن تنضبط في مسارات تاريخية مُحددة سلفًا بواسطة العقل -مُمثلا في النخب والمثقفين ورجال السُلطة- لتتحرك إلى الأمام.

 

بينما يرد تأويل "كوجيف" لهيغل وللفلسفة التاريخية أن العنف -لا العقل- هو المحرك الأساسي للتاريخ4 وهو الوجه الحقيقي والفعلي للفلسفة التاريخية الهيغيلة والحديثة بشكل عام، فلم يركز كوجيف على التنظير البارد والعقلاني والسلمي للفلسفة التاريخية؛ بل ألقى الضوء على لحظات المفارقة المعرفية والتبرير الفلسفي للتعسف والتوتر والصراع واللحظات الدموية، فهذه الصراعات الدموية هي التي تدفع بالأشياء نحو نهايتها القصوى؛ موضحا5 "أن جوهر الفلسفة التاريخية هو عبارة عن تصور إرهابي للتاريخ".

 

يوضح الفيلسوف الفرنسي "جان بول سارتر" استنادًا على هذا المنظور الجدلي الصراعي الذي كشفه كوجيف، أن العلاقة الأساسية6 بين الذوات الحديثة التي نظر لها ديكارت؛ هي علاقة صراع على المستوى الوجودي؛ فالذات في جوهرها ومضمونها هي رغبة، وهذه الرغبة دائمًا ما تصطدم برغبة الآخر.

 

جان بول سارتر الفيلسوف  والأديب والروائي والناشط السياسي الفرنسي (1905-1980)
جان بول سارتر الفيلسوف  والأديب والروائي والناشط السياسي الفرنسي (1905-1980)
 

وعبر عن ذلك7 "إن الرغبة في الشيء تصبح رغبة في الآخر، رغبة في انتزاع اعتراف الآخر، فالصراع بين الذوات على المستوى الوجودي صراع قاتل من أجل إثبات أصالة الذات واعتراف الآخر بها"، ينطبق هذا على الجماعات بأنواعها كما ينطبق على الأفراد؛ فالجماعات القومية والثقافية والأيديولوجيه على تنوعها -بحسب سارتر- هي عبارة عن رغبات لإثبات الذات الجماعية من ناحية ورغبة في انتزاع اعتراف الآخرين بذاتيتهم وثقافتهم وأصالتهم من ناحية أخرى.

 

إذا كان الجدليون وفلاسفة التاريخ يجعلون الصراع في صلب الأشياء كالدودة في الفاكهة؛ فإن هناك نظريات أخرى تُرجع العنف والعدوانية إلى الطبيعة الإنسانية ذاتها، فيُعتبر التحليل النفسي من أهم النظريات التي نظرت إلى العنف بإيجاد أساس راسخ له في قلب التكوين النفسي والبيولوجي للإنسان.

 

العُنف جوهر الإنسان

عام 1929 كتب فرويد كتابه الأخير بعنوان قلق في الحضارة8، وقت كتابة هذا الكتاب -والذي يُعد وصيّة فرويد الأخيرة- كانت المجتمعات الأوروبية على أعتاب واحدة من أقسى مراحل تاريخها؛ فالصراعات تحت شعارات السياسة والاقتصاد والأيديولوجيا صارت هذيانا جماعيا، وأحلام التقدم التي بشرت بها الحداثة تحولت إلى كوابيس، والفاشية والنازية والستالينية باتت تهيمن على فكر كثير من الأوروبيين بالتدرّج قبل أن تهيمن على أجزاء واسعة من بلادهم، وحدثت أزمة اقتصادية هي الأكبر في تاريخ الرأسمالية حتى ذلك الحين9، قبل الدخول في حرب عالمية مدمرة فاقت في فظائعها كل حروب القرون السابقة مُجتمعة.
 

تساءل
تساءل "فرويد" أسئلة بسيطة وجوهرية؛ من أين يأتي كل هذا الدمار والعداء الذي يحيط بنا، هل الإنسان محكوم بأفكاره أم بغرائزه؟ (مواقع التواصل)

 

في الوقت الذي كان الفلاسفة والمثقفون وعلماء الاجتماع والاقتصاد والسياسة يناقشون أوضاع الغرب المأزوم من خلال تحليلات معرفية أو اجتماعية أو حتى أيديولوجية وسياسية، كان "فرويد" يريد لفت انتباه الجميع إلى مشكلة أعمق، إلى مساحة داخل الإنسان لم يُدركها جيدا فلاسفة الأنوار ولا عصر النهضة، وكل المُبشرين بميلاد الذات الإنسانية العقلانية الفاعلة.

 

تساءل "فرويد" أسئلة بسيطة وجوهرية؛ من أين يأتي كل هذا الدمار والعداء الذي يحيط بنا، هل الإنسان محكوم بأفكاره أم بغرائزه؟ هل الإنسان في علاقته بالآخرين محب للخير والتسامح أم مدفوع إلى الشر والاعتداء؟

 

وتحت عنوان قلق في الحضارة صاغ فرويد أفكاره الأساسية التشاؤمية حول واقع الإنسان ومصيره؛ فبينما بشرت فلسفة الأنوار بعقلانية الإنسان وباستقلال وعيه، حذر فرويد من ضآلة وعي الإنسان وأنه خاضع في المطلق للاوعيه، وفي الوقت الذي أعلن الفلاسفة أن العصر العلماني الحديث عصر تحركه الأفكار الحرة، نبّه فرويد إلى أنه عصر تسوده الغرائز لا الأفكار، غرائز بلا كوابح أخلاقية تحكمها.

 

يرى فرويد أن الإنسان ليس هو "ذلك الكائن الطيب السَمح الظمآن إلى الحب، الذي يدعي أنه لا يهاجم إلا دفاعا عن نفسه، فهذه الصورة الجميلة عن الإنسان لا توجد إلا في الكتب والأشعار والمُثل والأحلام؛ أما في الحقيقة فالإنسان هو كائن يختزن قدرًا كبيرًا من العنف في تكوينه النفسي وفي كوامنه الغريزية، فكل إنسان ميال إلى استغلال الآخر والتفوق عليه والاعتداء عليه، لإشباع حاجته العضوية والنفسية، فالإنسان مدفوع عضويا إلى إشباع حاجته من العدوان كما هو مدفوع إلى إشباع حاجته من الجنس"10.
 

سيغموند فرويد (1856-1939) (مواقع التواصل)
سيغموند فرويد (1856-1939) (مواقع التواصل)

 

يعيب فرويد على الماركسيين نظرتهم إلى الإنسان باعتباره كائنا طيبا وخيرًا تجاه الآخرين، وإنما أفسده النظام الاجتماعي المبني على الملكية الخاصة والظلم الاجتماعي11، فوجهة النظر الماركسية أن الإنسان يميل إلى السلام والخير؛ لكن ظهور الملكية الخاصة للأشياء، والاستغلال الاقتصادي، والتفاوت الطبقي أقحم عنصر الصراع والعنف في التاريخ12.

 

فالعنف عند الماركسيين عنف تاريخي، إذا زالت أسبابُه زال؛ بينما لا يتردد فرويد لحظة واحدة في الإلحاح على أن العنف والعدوان هو من السمات الجوهرية في الطبيعة الإنسانية، ويؤكد على أنها سمات حتمية لها أُسُس عميقة في النفس البشرية، ورغم كل الكوابح الأخلاقية والتعاليم الدينية التى تحث على الفضائل إلا أن التاريخ الإنساني كله مليء بالصراعات والعنف منذ قابيل وهابيل حتى الحرب العالمية، فالعنف كما الجنس هو السمة الأكثر جوهرية في الإنسان قبل أن يكون سمة رئيسة في التاريخ13.

 

وفي الأخير يردد فرويد مقولته الحاسمة "الإنسان ذئب أخيه الإنسان".

المصدر : الجزيرة