شعار قسم ميدان

رحلة البحث عن الله.. قصة حي بن يقظان

midan - باحث عن الله
اضغط للاستماع
  
لعل أقدم التعريفات الفلسفية التي تناولت الإنسان وأرادت القبض على جوهره وتحديد ماهيته قد عرّفته بأنه "حيوان اجتماعي"، وهو ما ذهب إليه الفيلسوف الإغريقي أرسطو، الذي أضاف إلى هذا التعريف القول إن "الإنسان كائن مدني بطبعه"، ما يعني أن إنسانية الإنسان لا تتحقق إلا إذا اتصل بمجتمع ونهل من مخزونه الثقافي والحضاري.

             

وبحسب هذا التصور، فإن الإنسان الذي لم يتصل بمجتمع ولم ينشأ في محيط اجتماعي وما يستتبعه ذلك من تهذيب لهذا الإنسان وتطوير وتحسين ملكات عقله وإحساسه وذوقه، وتلطيف أساليب معاملته للآخرين، واكتسابه الطباع الحضارية والثقافية التي يتميز بها الانسان، يكون إنساناً بدائياً لم يصل إلى مرحلة الإنسانية المكتملة، فالتنشئة الاجتماعية إذن هي "حركة ارتقاء من الطبيعة إلى المدنية وخروج من كهوف الحيوانية والتوحش والغريزة "الوجود الطبيعي" وولوج إلى الوجود الإنسي المدني"![1]

          

وبناء على هذا التصور، برزت العديد من الأعمال الأدبية والرسوم المتحركة التي تناولت شخصيات إنسانية نشأت وترعرعت في مجاهل الغابات المنقطعة عن كل أثر إنساني، كـ"ماوكلي" و"طرزان"، والتي ارتكست إلى الطور الحيواني، ليس في تفكيرها وسلوكها وحسب، بل كذلك في قوامها الجسماني، إذ باتت تمشي على أربع وتتنقل بين الأشجار، تماماً كما تفعل القرود!

          

على النقيض من هذا التصور تماماً، يقدم لنا الفيلسوف الأندلسي المسلم ابن طفيل شخصية بطل عمله الفلسفي حي بن يقظان، الخالي من أي إرث حضاري أو ثقافي سابق على وجوده، الذي نشأ وترعرع في جزيرة معزولة تماماً عن أي اتصال انساني، إلا أنه سيتمكن من تمييز ذاته عن الوجود الحيواني الطبيعي المحيط به، وسيرتقي في درجات الوعي والإدراك، من الإدراك الحسي عبر الاتصال بالأشياء والتعاطي معها،  إلى الإدراك العقلي من خلال النظر العقلي، ومنه إلى تجربة الكشف الصوفية، والتي تمثل أعلى درجات الإدراك الإنساني!

            

         

فكانت معركة ابن طفيل الأساسية التي أراد الانتصار لها في قصته هذه هي تأكيد "القيمة المعرفية لموضوع العزلة وانتصار العقل على نمط الحياة الثقافي المؤدلج وتقديم إجابة لسؤال جوهري: إلى أي مدى يمكن أن تؤثر الاكتشافات الجديدة في علاقتنا بأنفسنا ووعينا بذاتنا؟ أملاً في لفت انتباه القارئ إلى أهمية التقارب بين الإنسان وذاته من خلال العزلة".[2]

              

وبالإضافة إلى موضوع العزلة وقيمته المعرفية، أراد ابن طفيل عبر هذه القصة تأكيد مسألة درء التناقض بين المعارف العقلية التي تتأتى عبر النظر العقلي والمعارف الشرعية المستقاة من الوحي، "فالمعرفة الإنسانية وأسباب الحصول عليها وطرائق استيعابها وآليات تأملها وإعادة إنتاجها"[2] تعد جميعها مواضيع رئيسية أراد ابن طفيل الكشف عنها بأسلوب سردي متدرج يراعي التسلسل المنطقي في الحصول على المعرفة. وهنا سيتبين لنا أن هذه المعرفة المتحصلة من خلال التجربة والنظر العقلي لم تباين في شيء المعرفة المستقاة من الوحي!

        

"ولقد حرَّك مني سؤالُك خاطرًا شريفًا، أفضى بي -والحمد لله- إلى مشاهدة حال لم أشهدها قبلُ، وانتهى بي إلى مبلغ هو من الغرابة بحيث لا يصفه لسان ولا يقوم به بيان؛ لأنه من طَوْر غير طَوْرهما وعالَم غير عالَمهما"…

(من مقدمة "حي بن يقظان")

               

            

في واقع الحال، لم تكن فكرة قصة حي بن يقظان من ابتداع ابن طفيل، إذ نجدها عند ابن سينا والسهروردي بالعنوان ذاته "حي بن يقظان". كما نجدها عند ابن باجة ولكنْ بعنوان آخر وهو "تدبير المتوحد". لكن الفرق الذي تميزت فيه قصة ابن طفيل عن غيره تمثل في جذرية عزلة شخصيته عن المجتمع وابتعاده التام عن أي تأثير مجتمعي، ما ينسجم مع موقف ابن طفيل اليائس من إمكان تعليم العامة أو إعادة تشكيل ثقافتهم ومعارفهم، ما جعل العزلة لديه فضاءً صالحاً يتيح للعقل التأمل وإنتاج المعرفة واكتشاف الحقيقة.[3] كما أراد ابن طفيل أن يعرض فلسفته عن طريق إعادة سرد قصة "حي بن يقظان"!

            

في بداية القصة، نجد أن ابن طفيل لم يحسم الجدل في شأن أصل حي بن يقظان، إذ يضع أمامنا روايتين مختلفتين دون أن يُرجّح إحداهما: تذهب الأولى إلى القول إن حيّاً تخلّق بصورة طبيعية في جزيرة من جزر الهند وهي سيلان. وقد جاء تخلقه بدون أم ولا أب لكون تلك المنطقة ذات خصوصية مناخية: "تشهد بصحة ما ذُكر من تجويز تولّد إنسان في تلك البقعة من غير أم ولا أب".[4] بينما تذهب الرواية الأخرى إلى أن حياً وُلد نتيجة علاقة غير شرعية بين رجل وامرأة. ولما خافت عليه أمه من أخيها، الذي كان ملكاً، قامت بوضعه سراً في تابوت وألقته في اليمّ، فجرى به الماء حتى قذفه إلى تلك الجزيرة المهجورة.

              

هكذا رتب ابن طفيل الفضاء الذي سينشأ فيه بطله، إنه فضاء "لامدني ولاسياسي، ما يعني أنه غير قادر على تأهيل بطل القصة لاكتساب هويته المدنية عبر آليات اللغة والعقيدة والتلقين".[5]  فهو "لم يعاشر أحداً ولم يخالط أهل ملة، ولم يأنس بمسموع، ولم يتأدب باستصلاح، ولم يهذب بتعليم أستاذ أو مرشد[4]. إننا هنا أمام حالة يبدو أنها سابقة حتى على "حالة الطبيعة" ما قبل التعاقدية التي وصفها فلاسفة العقد الاجتماعي، من هوبز حتى جان جاك روسو، ما يشير إلى أن ابن طفيل قد حرص تماماً على أن يشدد على أن "الإنسان انطلاقاً من موارده الطبيعية الذاتية يستطيع اكتساب الصفات المدنية، فيتحول من كائن طبيعي إلى كائن إنساني، دون الحاجة إلى دولة ولا شريعة ولا قانون ولا تاريخ![5]"

          

كان التساؤل المركزي الذي ستدور حوله قصة حي بن يقظان هو سؤال "من أنا"؟ إذ لا غاية له سوى البحث عن الذات بكل حرية. وقد كان الفراغ الذي نشأ فيه وانعدام " التأطير والتوجيه الاجتماعي والتربوي والعقَدي والمعرفي هو محرك بطل القصة للبحث عن الذات، ما يحملنا على القول إن الإسم الحقيقي لهذه القصة هو "البحث عن الذات".[5] لقد قدم ابن طفيل رؤاه الفلسفية للوجود والذات من خلال سردٍ قصصي بديع يحكي قصة إنسان نشأ وترعرع وترقّت معارفه في عزلة تامة بعيداً عن أي مؤثر إنساني أو ثقافي!

          

الإدراك الحسي.. الذات بوصفها جسدا
على الرغم من أن حي ابن يقظان كان قد شعر بتفوق جسده حين أدرك مميزاته وفرادته، فإنه أحس بضيق جرّاء تعدد أجزائه وتنوع وظائفه الحركية والإدراكية
على الرغم من أن حي ابن يقظان كان قد شعر بتفوق جسده حين أدرك مميزاته وفرادته، فإنه أحس بضيق جرّاء تعدد أجزائه وتنوع وظائفه الحركية والإدراكية
       
ما إن وصل حيّ إلى الجزيرة حتى تلقفته ظبية وأخذت تتعهده بالرعاية إلى بلوغه سن السابعة من عمره، فأخذ يتعلم محاكاة أصوات الحيوانات، ثم قام بستر عورته واستخدام العصا دفاعاً عن نفسه. في المجمل ترمز هذه الأحداث إلى فرادة حيّ عن سائر المخلوقات الطبيعية، وذلك من خلال رغبته في التواصل عبر فعل المحاكاة، وكذلك استشعاره خصوصيةَ جسده، إذ وجبت تغطيته. كما لاحظ أنه يفتقر إلى وسائل الحماية الذاتية كباقي الحيوانات التي تمتلك مخالب على سبيل المثال، ما حمله على اصطحاب عصا يدافع بها عن نفسه!

           

فأولى مراحل الوعي بالذات ستتمثل في وعيه بفرادة جسده واختلافه عن باقي الحيوانات، "وبقي على ذلك برهة من الزمان يتصفح أنواع الحيوان والنباتات، ويطوف بساحة تلك الجزيرة، ويتطلب هل يرى أو يجد لنفسه شبها بحسب ما يرى لكل واد من أشخاص الحيوان والنبات أشباهاً كثيرة، فلا يجد من ذلك شيئاً". وعند مقارنته بين جسمه وباقي الحيوانات سيجد أن جسمه يفتقر إلى أبسط المقومات التي من شأنها أن تقيه حرارة الشمس وقرس البرد "فكان يفكر في ذلك ولا يدري سببه!"[4]

            

في بادئ الأمر جاء وعيه بجسده من خلال شعوره بالنقص إزاء الحيوانات الأخرى، فكان يرى "ما به من العري وعدم السلاح؛ وضعف العدو؛ وقلة البطش عندما كانت تنازعه الوحوش أكل الثمرات وتستبد بها دونه وتغلبه عليها فلا يستطيع المدافعه عن نفسه، ولا الفرار عن شيء منها… فكان يفكر في ذلك ولا يدري سببه"![4]

             

ثم شيئاً فشيئاً، سيكتشف ما لأعضاء جسده من وظائف، وسيرى كيف أن يده تتميز بخصائص عجيبه مقارنة بغيره، فيبدل رأيه فيما يخص شعوره بالنقص، ويرى بذلك " نبل قدره عند نفسه بعض نبالة، ورأى أن ليده فضلاً كثيراً على أيدي تلك الحيوانات"[4]. وهكذا من خلال الاختلافات يكتشف حي خصائص جسده، فنشاط العقل -كما ذهب ميشيل فوكو- "لا يقوم على مقاربة الأشياء في ما بينها، والانطلاق بحثاً عن كل ما يكشف قرابة أو طبيعة مشتركة بكيفية سرية، بل على العكس: يقوم على التمييز والاختلاف"[6].

       

وعلى الرغم من أن حي بن يقظان كان قد شعر بتفوق جسده حين أدرك مميزاته وفرادته، غير أنه أحس بضيق جرّاء تعدد أجزائه وتنوع وظائفه الحركية والإدراكية، "ما حمله على البحث عن "مبدأ" قادر على أن يضمن الوحدة لهذا التعدد، وعلى أن يكون هو ذاته الحقيقة"[5]. قاده ذلك إلى إجراء تجربة تشريحية لجسد الظبية (الأم) بعد وفاتها، تلك الوفاة التي كانت حدثاً فارقاً في مسيرة حي بن يقظان، إذ ستحفزه أكثر في اتجاه استكمال اكتشاف ذاته ومعاينة وجوده وفهم ما حلّ بالظبية علّه يستطيع إبراؤها وإعادتها إلى ماكانت عليه.

           

حي بن يقظان وهو يقوم بشق صدر الظبية
حي بن يقظان وهو يقوم بشق صدر الظبية
           

عزم حي بن يقظان على "شق صدرها وتفتيش ما فيه، فاتخذ من كسور الأحجار الصلدة وشقوق القصاب اليابسة أشباه السكاكين وشق بها بين أضلاعها حتى قطع اللحم الذي بين الأضلاع، وأفضى إلى الحجاب المستبطن للأضلاع فرآه قوياً، فقوي ظنه بأن مثل ذلك الحجاب لا يكون إلا لمثل ذلك العضو… فما زال يفتش في وسط الصدر حتى ألفى القلب وهو مجلل بغشاه في غاية القوة مربوط بعلائق في غاية الوثاقة[4].

    

قادته هذه العملية التشريحية إلى ما يشبه الوقوف على هذا المبدأ الذي يرد إليه تعدد أعضاء الجسد ألا وهو "الروح الحيواني"، وهكذا اعتبر الجسم "وإن كان كثيراً بأعضائه وتفنن حواسه وحركاته، فإنه واحد بذلك الروح الذي مبدؤه من قرار واحد وانقسامه في الأعضاء منبعث منه، وأن جميع الأعضاء إنما هي خادمة له أو مؤدية عنه".[4]

    

وبهذا فإن "الروح الحيواني" يكون المحرك الأول للكائن الحي، وأنه "متى ما انفصل عن الحيوان مات"، فهو "الذات" التي تصدر عنه الإدراكات، وباكتشافه "لفاعلية الروح الحيواني في مقابل عطالة الجسم، صار عنده الجسد كله خسيساً لا قدر له، إضافة إلى ذلك الشيء الذي اعتقد في نفسه أنه يسكنه مدة ويرحل عنه بعد ذلك… وسلا عن ذلك الجسد وطرحه، وعلم أن أمه التي عطفت عليه وأرضعته إنما كانت ذلك الشيء المرتحل، وعنه كانت تصدر تلك الأفعال كلها لا هذا الجسد العاطل… فانتقلت علاقته من الجسد إلى صاحب الجسد ومحركه ولم يبق له شوق إلا إليه"![5]

    

فسيقوم حي بن يقظان بتعميم هذه النظرة للتعدد والوحدة في جسده على سائر الوجود. وبهذا يكون الوجود كله، بتعدده وتنوعه، روحاً عاماً فائضاً عن الله، إذ يقول "وكذلك الروح، الذي هو من أمر الله تعالى*، فياض أبداً على جميع الموجودات، فمنها ما لا يظهر أثره فيه لعدم الاستعداد وهو الجمادات التي لا حياة فيها… ومنها ما يظهر أثره فيه، وهي أنواع النباتات بحسب استعداداتها.. ومنها ما يظهر أثره فيه ظهوراً كثيراً وهي أنواع الحيوان"[4].

    

وقد أدى اكتشافه الروح الفاعلة إلى نبذه للجسم، وذلك لكونه يتسم بالتعدد والتحول والفساد، "لكنه أكثر من ذلك يتسم في حد ذاته بالعطالة، لأن ما يحركه هو الساكن فيه، أي "الروح الحي"[5]. ومن أجل ذلك كله "هان عليه الجسم جملة واحدة"، وأخذ يتطلع نحو تزكية روحه وتهذيبها.   

           

من الحسي إلى العقلي.. الذات بوصفها عقلا
أخذ ابن يقظان يتأمل في الكون والموجودات حوله حتى أيقن أنه لا بد لهذا الكون من صانع، إذ أن كل شيء لا بد له من صانع،
أخذ ابن يقظان يتأمل في الكون والموجودات حوله حتى أيقن أنه لا بد لهذا الكون من صانع، إذ أن كل شيء لا بد له من صانع، "فعَلِمَ بالضرورة أن كل حادث لا بد له من مُحدِث
            
مع بلوغه سن الثامنة والعشرين، قاده تراكم تجاربه وخبراته واغتناء أفكاره نحو الانتقال من المنزع الحسي إلى التجريد الفلسفي، "فأخذ يتصفح أشخاص الموجودات المحسوسة ويقتنص منها المعنى الكلي[4] وبدأ يتساءل حول القضايا المجردة من قبيل أصل العالم: قدمه وحدوثه، وما إذا كان لا بد لكل حدث من مُحدث فمن هو محدث هذا الكون؟ وهل كان ثمة زمان قبل العالم؟… إلخ. وهكذا صاغ حي بن يقظان الأسئلة الفلسفية الكبرى حول الوجود وإشكالاته الفلسفية بصورة عقلية.

                     

وبأسلوب سردي بديع، أخذ ابن يقظان يتأمل في الكون والموجودات حوله، حتى أيقن أنه لا بد لهذا الكون من صانع، إذ أن كل شيء لا بد له من صانع، "فعَلِمَ بالضرورة أن كل حادث لا بد له من مُحدِث، فارتسم في نفسه بهذا الاعتبار فاعلٌ للصورة ارتسامًا على العموم دون تفصيل… فلما لاح له من أمر هذا الفاعل ما لاح على الإجمال دون تفصيل، حدث له شوق حثيث إلى معرفته على التفصيل… فتصفَّح جميع الأجسام التي لديه، التي كانت فكرته فيها، فرآها كلها تتكون تارة وتَفسُد أخرى… ولم يرَ منها شيئًا بريئًا عن الحدوث والافتقار إلى الفاعل المختار، فاطَّرَحَها كلَّها، وانتقلت فكرتُه إلى الأجسام السماوية". وهنا يحدث تحول هام في منحى القصة، إذ ينتقل حي بين يقظان بفكره وتأمله من محيطه الأرضي إلى النظر في السماء والكون أملاً في التعرف على خالق هذا الكون ومبدعه ومُحدثه.[7] 

        

فانطلق حي ابن يقظان في نظره إلى العالم العلوي من المبدأ الفلسفي القائل بـ"التلاؤم في الشرف والطبيعة بين المدرِك والمدرَك"، "فإذا كان موضوع الإدراك هو الموجود الشريف والرفيع "واجب الوجود"، أي الموجود المفارق للجسم ولقوى الجسم، وجب أن تكون القوة التي تدركه شريفة ومفارقة للمادة أيضاً"، وهكذا لا بد من التناسب بين الموضوع والذات المدرِكة، "فحين كان موضوع الإدراك هو العالم الطبيعي كانت قوى الإدراك حسية جسمانية، وإن كان موضوعها هو الحق المطلق البريء من الجسم، كان النظر العقلي هو فعل إدراكها".[5]

         

وعلى الرغم من إطناب حي بن يقظان على العقل واعتباره الوسيلة الاستثنائية والمضمونة والمضبوطة في إدراك الوجود واجب الوجود إدراكاً نظرياً، فإن المعرفة المتحصلة من خلال "النظر العقلي" لا تتأتى إلا عبر انفصال الذات العاقلة عن الموضوع، "فالذات في النظر العقلي عنيدة أمام الغياب لا تقبل الفناء في الموضوع"[5] وهو ما كان "يسوؤه ويعلم أنه شوب في المشاهدة المحضة، وشِركة في الملاحظة"، من هنا سيعزم أمره على التماس طريق غير طريق العقل وآليات الحد والمنطق يمكنه من الفناء في الموجود الحق واجب الوجود!

                  

من العقلي إلى التجربة الكشفية
في أهم وأخطر المراحل في حياة حي بن يقظان، إذ يبلغ النضج الكامل بمعرفة الله عبر "المشاهدة الكشفية"، وهي المنزلة التي لا يبلغها سوى أهل الولاية والكشف. أراد حي الفناء في الموجود الحق واجب الوجود، فاختار نبذ طريق العقل القائم على الحدّ والماهية، وما يقتضيه من  انفصال بين  الذات المدرِكة والموضوع المدرَك، ذلك الانفصال الذي ظل يغبش استغراقه في المطلق ويفسد عليه حضوره.
    

         undefined

               

إن هذا التغير في طريق الإدراك يقتضي "تغيراً في القوة المدرِكة"، فإذا كان الإدراك الحسي يتأتى عن طريق الحواس واتصالها بالأشياء الخارجية وكان الإدراك العقلي يتأتى عن طريق التعقل والنظر، فإن المشاهدة الكشفية "تتم بأمر يستعصي على التسمية والتحديد، ويسمى قوة على سبيل المجاز، لأنه لا يملكه كل الناس، أي ليس ذاتياً للإنسان بما هو إنسان"! وهذه "القوة" التي لا اسم لها تمتاز عن باقي قوى النفس "بأنها تمكن المشاهِد من المشاهدة الصرف والاستغراق المحض، فتغيب ذاته وتتلاشى بمعيتها الذوات الأخرى كلها إلا ذات واجب الوجود، وهذا منتهى السعاد والبهاء!"[5]

            

يشير ابن طفيل في هذه اللحظة من القصة إلى أن اللغة تقصر عن وصف هذه التجربة الكشفية فيقول "ومن رام التعبير عن تلك الحال، فقد رام مستحيلاً وهو بمنزله من يريد أن يذوق الألوان من حيث هي الألوان، ويطلب أن يكون السواد مثلاً حلواً أو حامضاً". ورغم ذلك يجود علينا بإشارات تقرب المعنى، فيقول" لا نخيلك عن إشارات نومئ بها إلى ما شاهده من عجائب ذلك المقام، على سبيل ضرب المثال لا على سبيل قرع باب الحقيقة!"[4]

        

إنه إذن "مجرد تمثيل بوسائط لسانية، وهو ضرب من التقريب فقط لذلك المقام الكريم، فلا تلتمس الزيادة عليه من جهة الألفاظ فإن ذلك كالمتعذر"[3] إن قرع باب الحقيقية يتطلب مسلكاً صوفياً، أي إلى معاناة التجربة ذاتها لا الحديث عنها ونقلها باللغة والبيان. ومع هذا، يشرع ابن طفيل في الإشارة إلى الحال التي عاشها حي بن يقظان فيقول "عندما أفاق من حالِهِ تلك التي هي شبيهة بالسُّكْر، خطر بباله أنه لا ذات له يغاير بها ذات الحق تعالى، وأن حقيقة ذاته هي ذات الحق، وأن الشيء الذي كان يظن أولًا أنه ذاته المغايرة لذات الحق ليس شيئًا في الحقيقة، بل ليس شيءٌ إلا ذات الحق".[4]

               

يبدو للقارئ أن ابن طفيل يقع هنا في شبهة "الحلول والاتحاد" والتي قد تجر الويلات عليه، لذا فإنه سرعان ما سيقوم بإزالة اللبس ودرء الشبهة عن نفسه فيستطرد قائلاً "وكادت هذه الشبهة ترسخ في نفسه لولا أن تداركه الله برحمته، وتلقّاه بهدايته… فإن الكثير والقليل، والواحد والوحدة والجمع، والاجتماع والافتراق -هي كلُّها من صفات الأجسام، وتلك الذوات المُفارِقة العارفة بذات الحق عز وجل، لبراءتها عن المادة- لا يجب أن يقال إنها كثيرة ولا واحدة… غير أن العبارة في هذا الموضع قد تضيق جدًّا؛ لأنك إن عبَّرتَ عن تلك الذوات المفارقة بصيغة الجمع حسب لفظنا هذا، أوهَمَ ذلك معنى الكثرة فيها، وهي بريئة عن الكثرة، وإن أنت عبَّرت بصيغة الإفراد، أوهَمَ ذلك معنى الاتحاد، وهو مستحيل عليها… وبقي في ذلك مُتردِّدًا ولم يمكنه أن يقطع عليه بأحد الوصفين دون الآخر".[4]

             

 من الواضح أن الرهان من وراء هذا العمل الفلسفي المغلف بلغة سردية قصصية كان تأكيد إمكان النفس الإنسانية من إدراك قيمتها ووعيها باختلافها وتميزها، وتعد العزلة ذلك الفضاء الضروري واللازم لممارسة هذا الوعي، وبهذا يطيح ابن طفيل بالتعريف الفلسفي القائل إن "الإنسان حيوان اجتماعي ومدني بطبعه"، فالإنسان قادر على اكتساب جميع الفضائل الإنسانية والهبات الإلهية دون أن يكون بالضرورة جزءا ًمن الاجتماع المدني!

 _________________________________________________________


*نظرية الفيض الإلهي هي نظرية تذهب إلى القول إن الوجود كله صدر أو فاض عن "واجب الوجود"، وهو الله جل في علاه، وإن هذه الموجودات قد فاضت عن الله وفقا لتراتبية تبدأ من واجب الوجود الأول وهو الله جل في علاه، وتنتهي عند أدنى مستويات الوجود. وقد كان الفيلسوف اليوناني افلاطون أول من قال بهذه النظرية، ونقلها عنه للحضارة الإسلامية عدد من الفلاسفة كابن سينا والفارابي.

المصدر : الجزيرة