شعار قسم ميدان

تعلم الفلسفة.. مساقات أكاديمية تضمن لك فهما جيدا لأم العلوم

قال سقراط ذات مرة إن "حياة لم نتساءل عنها لا تستحق أن تُعاش"، وأضاف في موضع آخر إنه "يجب أن تكون أنت من ينتقد حياتك، لا تنتظر أحدا لينقذك، أنقذ نفسك"، من هنا يمكن أن نفهم ضرورة الفلسفة في حياتنا، فهي بالأساس مصدر هذا التساؤل، وهي ما تعطينا -بالتبعية- فرصة لتكوين شخصيات مستقلة ناقدة لا تستجيب بسهولة للمغريات التي تغازل تحيزاتنا الإدراكية. لهذا السبب كان دائما من الضروري أن تمر بالفلسفة في مرحلة ما، سواء بغرض الدراسة، أو فقط بغرض التعرّف السريع على هذا المجال الغاية في الروعة والتعقيد على حد سواء.

لهذا السبب كنّا، في تقريرين سابقين، قد بدأنا بتقديم مجموعتين من الكتب تفتحان الباب للفلسفة، الأولى تتعلق بتاريخها، والثانية تتعلق بالأفكار الفلسفية نفسها، لكن في هذا التقرير سنقدم جرعة مبسطة من المساقات الفلسفية المجانية، والتي تفتح لك بابا ثالثا للفلسفة. ذلك أن المساقات تحوي مزايا تختلف عن الكتب، فهي -أولا- تعطيك قائمة ممنهجة بالموضوعات الرئيسة التي يشتمل عليها موضوع الدراسة، ربما قد تحتاج إلى وقت طويل للوصول إلى تلك القائمة إن حاولت بنفسك.

كذلك فتلك القائمة صممها متخصصون وظيفتهم هي العمل في تلك المادة العلمية مع الطلبة لعدة سنوات مثلا، مما سوف يجعلهم أكثر خبرة في تقديم المادة العلمية لك بترتيب وتنسيق مهم، إن أحد أشهر الأخطاء في تعلم شيء ما هي القفز المتكرر بين موضوعات متفرقة بشكل غير ممنهج، سوف يُبطئ ذلك من تقدمك، وربما يوقفك تماما عند مرحلة ما. في المساقات تتفاعل مع آخرين، وحتّى إن اجتزت المساق وحدك فهناك أسئلة وإجابات ونقاشات سابقة يمكن أن تتطلع عليها، كذلك تتفاعل خلالها بكل حواسك، ويستخدم المسؤول على المساق صورا وتصاميم تساعدك على تحقيق فهم أفضل. كما أن المساقات في الغالب تُرشّح لك مصادرَ للقراءة، بذلك سوف تدلك على النقاط التي تبدأ منها.

هانك جرين.. مرة أخرى

وبالطبع لن تكون هناك مقدمة للفلسفة أفضل من تلك التي يعرضها هانك جرين على مدى 46 حلقة، مدة الواحدة منها عشر دقائق تقريبا، ضمن المشروع الضخم والرائع واسع الشهرة "كراش كورس" (Crash Courses) والذي يُعنى بتقديم كل مادة معرفية في مساق كامل مناسب بالأساس لمن هم في سن المرحلة الثانوية فما فوق، هانك جرين هو أحد أفضل مقدمي العلوم والمعارف على الإطلاق منذ ظهور يوتيوب وإلى الآن، وربما هو أفضلهم فعلا.

ما يميز جرين، بجانب قدرته البديعة الكوميدية على تقديم المعلومة، وكذلك المحتوى شديد الإتقان والتنظيم والدقة الذي يعمل عليه مع فريق عمل قوي، هو أنه لا يقدم ذلك كله على طريقة الوثائقيات التي غالبا ما تستلزم الكثير من المؤثرات والحكايات التاريخية أو غير التاريخية بحيث تتمكن من تمرير المعارف لأكبر قدر ممكن من الناس دون ملل لكنها في أثناء ذلك تفقد جزءا من القدرة على التعبير عما يعنيه هذا المجال المعرفي، أما هانك وفريق عمله في "Crash Courses" فقادرون دائما على الوقوف عند حد فاصل بين الفصل الدراسي، والفيلم الوثائقي.

المساق دسم بالنسبة لمبتدئ من الصفر، ويعرض للكثير من الموضوعات، لكن ذلك لا يمنعه أن يكون بسيطا، بل وقد لا تواجه أي صعوبات تُذكر في أثناء خوضه، لقد صُمم بحرفية شديدة لينتقل بين المفاهيم الفلسفية المهمة من السهل إلى الأكثر صعوبة، كذلك استخدم مقدمة أسئلة من الحياة اليومية لجذب المشاهد وتحفيز شهيته للتساؤل قبل أن تبدأ الفلسفة في الظهور. أضف إلى ذلك أن هذا المساق، بالكامل، مترجم للغة العربية، وهي فرصة ذهبية لكل مبتدئ في الوطن العربي، في الحقيقة يكمل ذلك دائرة الروعة ليجعل من مساق جرين أفضل بداية ممكنة مع الفلسفة، ربما أفضل كثيرا من الكتب، خاصة وأن المساق -أو أيًّا من المساقات القادمة- يقدم مفاتيح رئيسية يمكن أن تخرج منها للبحث عن كل منها بشكل منفصل، يساعدك ذلك في تنظيم أفكارك فيما بعد، ويسهّل عليك طريق البحث داخل الفلسفة نفسها، لأنك بالفعل على درجة من الدراية بصورة العالم.

ثلاث خطوات للأمام

في مستوى تالٍ لهانك يمكن أن نضع مساقا ممتعا كذلك لكنه يمثل خطوة للأمام في تعلّم الفلسفة، وهو "مقدمة للفلسفة" (Introduction to Philosophy) الذي تقدمه جامعة إدنبرة عبر منصة كورسيرا الشهيرة، يمتد المساق في خمسة أسابيع متتالية، تبدأ بما تعنيه الفلسفة، ثم تنتقل إلى الأبستمولوجيا، ثم تتنوع بعد ذلك بين ديكارت، هيوم، كانط، فلسفة الأخلاق، فلسفة العلم، إلخ. تحتاج في كل أسبوع منها إلى خمس ساعات استذكار، فرغم أن مجمل المحاضرات الأسبوعية هي فقط ساعة واحدة فإن هناك حاجة إلى قراءة المصادر الأخرى المقروءة في المساق والبحث خارج المساق كذلك، وتلك نقطة مهمة.

حيث إن هذا المساق ليس سهلا كفاية، بمعنى أنه -رغم المنهجية المرسومة جيدا- لا يتقدم بسلاسة في مباحث الفلسفة، ويقدم كل جزء منها بطريقة قد تبدو باردة قليلًا على مبتدئ، لكن تلك هي طبيعة الأشياء في المدرسة والجامعة، يجب أن تبدأ أنت بصنع مادتك الخاصة من خلال البحث هنا وهناك في جوانب جوجل ويوتيوب وأي من الكتب التي تمتلكها، والميزة هنا هي أن الفلسفة، بالأساس، هي مجموعة من الاصطلاحات التي يمكن العمل على فهمها شيئا فشيئا، نعم تحتاج إلى بعض الوقت كي تُكوّن فكرة جيدة عن كل منها، لكن النتيجة تستحق. تجد المساق هنا

تتميز مساقات كورسيرا بأنها مصممة فقط لعالم الإنترنت، لذلك فكل شيء على منصتها يعتبرك كيانا إلكترونيا في جامعة إلكترونية ذات أروقة وقاعات دراسة إلكترونية كذلك، بمعنى أوضح فإن وجودك بها لا يختلف كثيرا عن وجودك بالجامعة، هناك دائما نقاشات دائرة حول موضوعات الدراسة، امتحانات متتالية، مصادر خارجية للقراءة، دروس عملية، إلخ، يعيبها فقط أن الكثير من المساقات تُقدّم بصورة قشرية لا تتعمق كثيرا في هذا المجال المعرفي أو غيره.

ميليكان وكوفمان والبداية الحقيقية

من جهة أخرى يمكن القول إن أحد أشهر مساقات الفلسفة بين المبتدئين هو "الفلسفة العامة" (General Philosophy) لبيتر ميليكان، الفيلسوف من جامعة أوكسفورد، ويقع في ثماني محاضرات فقط، مدة الواحدة منها نحو الساعة، تقسّمها صفحة أوكسفورد لأكثر من 30 فيديو منفصل، يعالج كل منها موضوعا بعينه، ما يسهّل عليك تقسيم المنهج. في الحقيقة فإن مساقات الفلسفة العامة لا تهدف بالأساس إلى تعريفك بكل جوانب الفلسفة، لكنها تنتقي بعض أفكارها وجزءا رئيسا من تاريخها، فتُعينك فيما بعد على أن تمارس التفلسف وحدك.

سيكون هذا المساق مفيدا لهؤلاء الذين يشعرون براحة أكبر بعيدا عن منصات التعليم الإلكتروني، فقط في قاعات المحاضرات. لكن هناك ميزة أخرى أكثر أهمية لهذا المساق الصغير، وهي أنه يجمع الكثير من الأفكار الفلسفية المهمة في مساحة قصيرة ببساطة رائعة، ميليكان قادر بالفعل على صياغة منهج سهل ودسم وجيد جدا لطالب في مستوى السنة الأولى الجامعية، أو حتّى المهتمين بالفلسفة ذوي القدرات الأعلى. هذا المساق هو أحد الدرر المنسية في جوانب يوتيوب العربي حقيقة، يتميز كذلك بأنه يمكن لك بسهولة الحصول على الشرائح التي يعرضها ميليكان أمام الطلبة، والتي لا تظهر بوضوح بالنسبة لك كمشاهد يوتيوب، من خلال الرابط الموجود أسفل المحاضرات، كذلك يمكن أن تستمع مجانا لبعض محاضرات ميليكان الأخرى في أوكسفورد.

في تلك النقطة يمكن أن نضع خطوة رابعة مهمة -وغير مشهورة بما فيه الكفاية كذلك بين طلّاب الفلسفة- لرحلتنا، وهي المساق المميز لدانيال كوفمان من جامعة ميسوري، والذي يقدم ثلاثة جوانب أساسية في الفلسفة (المعرفة، الهوية، الأخلاق والفلسفة السياسية) في 31 محاضرة مدة الواحدة منها تتراوح بين 30 – 45 دقيقة، في فيديوهات مصممة خصيصا لطلبة الإنترنت، يبدأ المساق بتعريف بسيط بماهية الفلسفة وموضوعاتها، ثم ينتقل مباشرة إلى عرض الموضوعات الثلاثة، كل منها في نحو 10 محاضرات.

المساق دسم لا شك، نحو 20 ساعة من الفلسفة، لكن على الرغم من ذلك فقد تم تصميمه ليناسب طلّاب السنة الأولى بالفلسفة، والذين لم يتلقوا مساقات سابقة فيها، لذلك فإن كوفمان حريص دائما على شرح ما يعنيه كل اصطلاح تتعرض له في المساق، وينطلق بك بين الأفكار الفلسفية بسهولة تامة لن تقابل معها تعقيدا كبيرا، لكن الفلسفة -في كل الأحوال- صعبة، تحتاج إلى الكثير من التركيز، لأنها بالأساس مبنية على حجج تُبنى كل منها فوق الأخرى ببطء، لذلك يتطلب الأمر بعض الجدية والجاهزية لبذل الكثير من الجهد في سبيلها. مساقا كوفمان وميليكان، في الحقيقة، لافتان للانتباه، ويمثلان بداية حقيقية ذات طابع أكاديمي مع الفلسفة.

الفلسفة باللغة العربية

أما بالنسبة للمحتوى العربي في الفلسفة، فللأسف لا نجد أي مساقات ممكنة منتظمة يمكن أن تتعلّم منها بمنهجية كما ظهر في المساقات السابقة، رغم ذلك يمكن أن نشير إلى ثلاث قنوات يوتيوب لافتة للنظر وتلقى الكثير من الاهتمام من قِبل المبتدئين في الفلسفة:

الأولى هي مركز جامعة القاهرة للتعليم المفتوح، والذي يقدم منهج فلسفة كاملا لطلبة كلية الآداب قسم الفلسفة، طوال 4 سنوات، من المفترض أن يدرس طلاب التعليم المفتوح هذا المنهج دون الحاجة إلى حضور محاضرات بالجامعة، ثم يتقدمون للامتحانات في آخر العام، لذلك سوف تجد مساقات فلسفة كثيرة ضمن مادة المركز (فلسفة حديثة، فلسفة يونانية، فلسفة عقل، فلسفة علم تقدمها الفيلسوفة الكبيرة يمنى طريف الخولي، فلسفة لغة، فلسفة آسيوية، فلسفة الدين، فلسفة أوروبية، فلسفة عامة، إلخ).

هذا منهج كامل لطلبة الفلسفة، يعيبه فقط أنه غير منظم في قوائم محددة لكل مساق منهم، لذلك يجب أن تبحث عنه في القائمة الضخمة لفيديوهات المركز والتي تضم أيضا مواد دراسية لكلّيات أخرى أو أقسام أخرى في كلية الآداب، ويعيبه كذلك أنه مقدم في كثير من الأحيان بصورة باردة، تهتم بالحفظ، ولم يعمل مقدمها على المنهجية وآلية التقديم كي يظهر المساق بشكل جيد ومناسب للطلبة، لكن في النهاية فإن هذا هو أفضل مصدر ممكن لمناهج الفلسفة على يوتيوب العربي، لكنه ليس أفضل شارح لها.

وبالحديث عن أفضل شرّاح الفلسفة، ننتقل إلى المصدر الثاني، وهو قناة الأستاذ أحمد سعد زايد على يوتيوب. زايد هو مثقف مصري يتحدث في جوانب الفلسفة ويقوم بتصوير ندواته ومحاضراته ويرفعها على قناته على يوتيوب، يتنوع إنتاج القناة -وهو أغزر إنتاج يوتيوبي عربي في الفلسفة- بين كل جوانب هذا المجال، ويقدم مادته بصورة طويلة في الأساس (ساعة فأكثر) لكنه رغم ذلك يقدم مواد قصيرة، وهو غير منتظم في منهجية بعينها لتقديم أساسات الفلسفة، إلا قليلا، لكنه رغم ذلك يقدم حلقاته بأسلوب غاية في البساطة يمكن للمبتدئ أن يفهم الكثير منه والانجذاب لمادته، لهذا السبب ربما حصلت القناة إلى الآن على نحو 8.5 مليون مشاهدة وعدد كبير من المشتركين العرب. قبل الخوض في جوانب قناته يمكن أن تبدأ بالنظر إلى سلسلة "أ ب فلسفة" و"عظماء الفلاسفة".

أما المصدر الثالث فهو قناة "كلام فلسفة" على يوتيوب، وهي أقرب ما يكون لـ "بودكاست". ما يميز تلك القناة بجانب سهولة العرض، والجهد المبذول والواضح في تقديم المادة الفلسفية، هو أن حلقاتها تمسك موضوعا بعينه ثم تقوم بتفنيد جوانبه بسهولة ويسر، كذلك فمادتها لا تهتم كثيرا بتاريخ الفلسفة أو حياة الفلاسفة، ولكن بالحجة أو المفارقة الفلسفية نفسها. لا تتنوع مواد تلك القناة كسابقتها، بالأساس تميل إلى الأفكار الأساسية لفلسفة الدين، فلسفة العقل، ونظرية المعرفة، والأخلاق. ولا تقدم إنتاجها بصورة منظمة وغزيرة للأسف، لكنها -لا شك- يجب أن تكون، كسابقتها، أحد مراكز متابعتك على يوتيوب (جرب كبداية أن تتأمل قائمة "دقيقة فلسفة" بالقناة).

حسنا، كانت تلك هي 15 مصدرا لتعلم الفلسفة، 10 كتب في تقريرين سابقين، وخمسة مساقات في هذا التقرير، يمكن لك أن تؤلف فيما بينها لتختار منهجا خاصا بك يمثل البداية التي تريدها، لكن دعنا نوضح نقطتين، الأولى هي أن تلك -كلها- هي مقدمات للفلسفة، أما الخوض الأكثر عمقا بها فيتعلق بخطوات سوف تتخذها بنفسك ولن تحتاج إلى أي مساعدة خلالها، فقد امتلكت الأساس الصلب للمادة المعرفية وبقي أن تتحرك للأمام حسب اهتماماتك. في النهاية فإننا ننصح بأن تُنهي مرحلة المبتدئين سريعا إن استطعت، ونقترح أن تكون نهايتها بالانتهاء بكتاب "تاريخ الفلسفة الحديثة" لويليام كيلي رايت (من تقرير تاريخ الفلسفة)، وكتاب "الفلسفة.. أنواعها ومشكلاتها" لهانتر ميد (من تقرير تعلّم الفلسفة)، ومساقي كوفمان وميليكان هنا.

الفلسفة لا تُدرس على عجل، ومع كل جرعة منها تحتاج إلى بعض الوقت للتأمل فيما يعنيه ذلك الذي تعلّمتَه للتو، كذلك فإن إحدى أكبر المشكلات التي تواجه المبتدئين هي أنه ينخرط في أكثر من مصدر بالوقت نفسه، ما يشتت انتباهه ويدفعه للملل سريعا، لكن القاعدة تقول إن هناك دائما "مهمة واحدة في الوقت نفسه"، كل ما سبق هو اقتراحات تتنوع في السهولة وتقدم لك فرصا مختلفة متنوعة لكن ذلك لا يعني أن تقرأها أو تشاهدها جميعا، فقط اختر ما يناسبك، وابدأ به، ثم استمر في خط سيرك خطوة بخطوة، في الحقيقة فإن أكثر ما نستفيده من دراسة الفلسفة هو أنها -بدورها- تعلّمنا بعض الهدوء.

المصدر : الجزيرة