شعار قسم ميدان

الشذوذ وملكية الجسد.. هل للإنسان سلطة مطلقة على جسده؟

ميدان - مثليين

في حفلٍ صاخب تسطع به الأضواء، وعلى نغمات "ليلية" لا تنقطع، يرتقي شاب كتفي صاحبه بيدين تحملان ستة ألوان على علم "الرينبو" الشهير[*]؛ ليعلن عن دعمه المعنوي لحقوق المثليين، ومطالبته الكاملة باحترام ما يعتنقوه، بل والسماح لهم بممارسته كحق طبيعي وحرية شخصية، بادعاء أن الإنسان يمتلك جسده وقراره بشكل مطلق ولا حق لغيره في تقرير مصيره وما سيفعله به إلا هو[1].
 

ولإيضاح أثر الإطلاق التام للحرية على الإنسان، قامت فنانة الأداء الصربية "مارينا إبراموفيتش" عام 1974م بتجربة مسرحية لقياس أثر الحرية المطلقة على أفعال الإنسان، وما سيكون عليه -بالتبعية- حال المجتمع آنذاك.فوقفت "مارينا"على المسرح لست ساعات متواصلة بلا حراك، متيحة للجمهور أن يفعل بها ما يشاء، بعدما وفَّرت لهم سكاكين ومسدسًا ووردًا وأشياء أخرى. تمضي فترة البداية في سلام اكتفى خلاله المشاهدون بالنظر إليها،حتى تأكدوا من كونها لن تصدر أي فعل أو رد فعل فابتدأ الحفل بلا هوادة: تمزّقت ملابسها، ضربوها، وتحرَّشوا بها بكل الأشكال؛ حتى إن أحدهم لم يتردد بتوجيه المسدس لقتلها.

  

انتهت الساعات الست فتحرَّكت مارينا من مكانها، وبلا أي رد فعل عدواني، يهرب من أمامها الجميع، لتُصرّح هي بعد ذاك بأن البشر الذين نتعامل معهم، على اختلاف العرق والسن والخلفيات، قادرون على ارتكاب أفعال شنيعة، إن اتيحت لهم الفرصة لفعل ذاك[2]ووقوفًا على تجربة "مارينا" وعلى دعاوي التحرر التام وإطلاق الجسد والفكر والممارسة بلا أي قيد، يبرز السؤال حول الحرية في اختصار شديد: هل من المنطقي فعلًا أن يتحرر الإنسان من كل شيء؟
 

 رفع علم المثليين في إحدى الحفلات بالقاهرة  (الجزيرة)
 رفع علم المثليين في إحدى الحفلات بالقاهرة  (الجزيرة)

  

في البدء كان الإنسان

"إن الإشكالية الكبرى للحرية تبرز من خلال ارتباطها بسابقاتها، وهي صراعها الدائم ما بين بعديها الفردي والاجتماعي، فإذا كان الفرد هو محور الحرية الأساسي، فإنه لا يستطيع العيش إلا في مجتمع، والحرية الفردية لا تكون كذلك إلا في إطار الجماعة"[3].

 

كجسدٍ اصطناعي من ابتكار الإنسان، يرى "أرسطو" حقيقة المجتمع الإنساني، كطارئٍ أحدثته البشرية بتكتّلها، لا كتكوينٍ كامن في طبيعته[4]، وهو ما يُفضي بالضرورة إلى التقاء ما، يحدث بين الفرد ومحيطه، يتمثل في المصلحة المشتركة بين حق الفرد الشخصي واستمرارية المجتمع دون انحلال، فكون الإنسان حرًا لا يعني إطلاق هذه الميزة بالصورة التي تهدم البناء المجتمعي القائم بالأساس على احترام حدود هذه الحرية بين الآخرين.

 

أي أن الحرية الفردية الخارجة عن التنظيم الاجتماعي ستكون "حربًا بين كل إنسان وكل إنسان آخر"[5] يحكمها في النهاية من ينتصر دون النظر إلى أخلاقية أفعاله من عدمها، ما دامت تأتي له في النهاية بالبقاء فوق الآخر دون التوقف عند حدود بعينها[6]. ففي الحرية الفردية الخالصة تتمحور وظيفة المرء في الحفاظ على بقائه [فقط] لأنها، كما يرى "جون لوك"، تعني عدم خضوع الإنسان لأية قوة على وجه الأرض إلا لقانون الطبيعة وما يمليه عليه من أحكام"[7].

 

غير أن "اسبينورزا" يرى الفرد -بهذا التصور الطبيعي للحرية- حرًا بشكل منقوص؛ لأنه لا يملك تصنيف الأشياء وفق ميزان (الخير/الشر)، ومن ثم فإن الإدراك الحقيقي لهذه المعاني يتلاشى خلف الصراع الفردي اللاأخلاقي للحفاظ على البقاء[8]، وهو ما انتقده المفكر السوداني "محمد أبو القاسم حاج" في كتابه "حرية الإنسان في الإسلام"، حيث رأى أن الإنسان يمتاز عن الطبيعة بالبُعد الرابع -الذي يسميه اسيبنوزا الإدراك/العقل- وهو بُعد الروح الذي يتجاوز المرء من خلاله الصراع الطبيعي للحرية إلى المعنى الإنساني بإحكام السيطرة عليها وجعلها مسخرة له، لا حاكمة له في أصل التدافع على الأرض.

 undefined

 
فالحرية الطبيعية ملكة إنسانية يحوزها الإنسان بمجرد كونه إنسانًا، سواءً كان ذا طبيعة خيّرة أو شريرة، فالإنسان فيها ملك ذاته وسيد لأفعاله[9]، ولكن يبقى الجدل دائرًا حول إطلاق هذه الحرية والحدود التي تحتويها،فالمرء لا يحيا وحيدًا على الدوام كما قال أرسطو، لذا فإن ممارسته قد تنعكس على غيره كما تنعكس عليه. ولأنه كذلك لم يخلق نفسه بنفسه، فإن الإطلاق العام للحرية سيتصادم -بشكل أو بآخر- مع حق الإله في التشريع لمن خلقهم.

 

المطلق والمقيد.. بين الفردية والمجتمع

في بناءٍ متناغم، يصرح"هوبز" بأن الحرية هي "الغياب التام لكل العراقيل التي تعترض أي حركة. فالماء المحبوس في الإناء ليس حرًا ما دام الإناء يمنعه من الانسكاب، لكنه ما أن ينكسر الإناء حتى يستعيد الماء حريته، وبهذا المعنى يمكننا القول إن المرء يتمتع بقدره من الحرية بحسب الفسحة التي نمنحها له"[10].

 

ثم يكمل "أندري سبونفيل"الصرح، قائلًا بأن الإنسان، كي يكون حرًا، فإنه بحاجة لإطلاق التعامل وفق إرادته، أو بما نعبر عنه بحرية التصرف في الأمور، فنحن أحرار في تصرفاتنا كلما انعدم ما كان من شأنه أن يمنعنا من ذلك، شخصًا كان أو شيئًا، ولكن هذه الحرية لا يمكن أن تكون مطلقة أبدًا[11]. لأن ثمة عراقيل من شأنها أن تحكم جريان هذا السائل في إناء ما.

 

فإذا كان المجتمع مجموعة من الحريات الفردية المتنقلة، فإن العقد الاجتماعي -كمنظومة اجتماعية حاكمة- كان المحاولة الإنسانية/الوضعية لتطبيق نظرية هوبز حول الإناء والسائل، وهو ما يمكن الاستدلال عليه بفكرة "جون جاك روسو" القائلة بأن "الامتثال للقانون الذي التزمنا به هو الحرية نفسها"[12].

 

لا توجد حرية مطلقة من كل قيد، فهذا النوع من الحرية مستحيل الوقوع، بل إن عدم وقوعه من البدهيات، ولا يكاد يقول به أحد من العقلاء
لا توجد حرية مطلقة من كل قيد، فهذا النوع من الحرية مستحيل الوقوع، بل إن عدم وقوعه من البدهيات، ولا يكاد يقول به أحد من العقلاء
 

وحسب الباحث المغربي "العياشي أدراوي"، فإن الحرية لا تتحقق بالانعتاق من القمع السياسي أو الاجتماعي أو غيرهما فحسب، وإنما بالانعتاق أيضًا من "الأنا العبثية" التي تخفي الشعور بقيمة الذات[13]، وهو ما يتحقق إذا احتوت حرية الإنسان نُظم مطلقة ثابتة أكبر من كيانه الفردي، فهي كما يقول "علي حرب" ليست انفلاتًا من القوالب والآليات والشبكات العقائدية أو السلطوية أو الاجتماعية أو الإعلامية، بقدر ما هي قيادة الذات وصناعة الحياة[14].

 

وهو ما يؤكّد عليه "الطيّب بو عزة" في "نقد الليبرالية" حين يقول أنه لا توجد حرية مطلقة من كل قيد، فهذا النوع من الحرية مستحيل الوقوع، بل إن عدم وقوعه من البدهيات، ولا يكاد يقول به أحد من العقلاء؛ لأنه لا وجود لكائن إنساني غير خاضع لحتميات بيولوجية ومجتمعية أبدًا، "ولأن القول بالحرية المطلقة يستلزم ألا يكون لها معنى؛ لأنها إذا كانت مطلقة فمن أي يكون التحرر إذن؟! ولأن المقولة الآخذة بالحرية المطلقة لا بد أن تقع في التناقض بالضرورة، إذ إن التسليم لها يتنافى مع كونها مطلقة من الأساس"[15].


الإسلام كمطلق حاكم

في بحث مطول عن فضاءات الحرية، يتتبع "سلطان العميري" مسارات الحرية داخل المنظومات الفكرية المُقيّدة لإطلاقها؛ ليضع محور التباين بين النموذجين الغربي والإسلامي، فيقول أن ظاهرة نقد الدين التابعة للحداثة الغربية بعد الثورة الفرنسية قد تجسّدت في نظرتها للحرية عبر طريقين: "الأول هو التيار الربوبي، وهو ما يُدعى تيار الدين الطبيعي، وتقوم فكرته على أن الإنسان مستقل بعقله في علاقته بالله، ولا يحتاج في ذلك إلى الإيمان بالوحي والنبوة والكتب المقدسة، والثاني هو التيار الإلحادي، وتقوم فكرته إما مع الجزم بعدم وجوده أو بالاكتفاء بالشك في ذلك"[16].

 

نظرية الحرية الإسلامية تمتاز عن غيرها بأن حرية الإنسان فيها مردودة إلى نفسه، أي أن في الوقت الذي تتناول فيه الفلسفات البشرية الحرية من زاوية علاقة الإنسان بغيره (مواقع التواصل)
نظرية الحرية الإسلامية تمتاز عن غيرها بأن حرية الإنسان فيها مردودة إلى نفسه، أي أن في الوقت الذي تتناول فيه الفلسفات البشرية الحرية من زاوية علاقة الإنسان بغيره (مواقع التواصل)

هذا العداء مع المقدس بتمظهراته المعرفية قد أدى -وفقًا للعميري- للتعامل مع مفهوم الحرية بتحييد تام للدين، وتغليب الحرية الفردية في مواطن لا يرتضيها الدين، وهو ما يختلف عن الرؤية الإسلامية التي يرى الباحث "عزيز العرباوي" من خلالها الحرية في النظرية الإسلامية كمفهوم إلهي، بمعنى أن رغبة الإنسان في الحرية تطلّب أن يكون العبد على الصورة التي أرادها الله في حكمته، "فالإيمان هو التحرر التام المطلق، والرفض هو الاسترقاق والخضوع للنفس وللغير"[17].

 

فهو يرى أن الإسلام أنهى التعارض الواضح بين حاجتي الفرد والجماعة، مُنسِقًا إياهما في رؤية واحدة تكون فيها حاجة الفرد إلى حريته امتدادًا لحاجة الجماعة إلى العدالة الاجتماعية الشاملة، فجعل الإسلام من الجماعة وسيلة لتنظيم الحرية بفضل التوحيد الإلهي الذي يقوم شرعه على تنظيم المجال والحقوق بين الفرد وجماعته.

 

فالتوحيد يعني أن الوجود كله صادر عن إله واحد، وكذا فمصيره مردود إليه، وهو ما يتطلب العودة الفردية من الإنسان إلى الله، حسب "محمود طه"، عن طريق التقارب في الصفات بين المحدود/الإنسان والمطلق/الله، "ووسيلته في ذلك الإسلام والقرآن والجماعة، والجماعة لها حرية، وهي بمثابة قاعدة الهرم حين تكون الحرية الفردية هي قمته"[18].
 

 undefined

 
وقد أوضح "محمد أبو القاسم حاج" أن نظرية الحرية الإسلامية تمتاز عن غيرها بأن حرية الإنسان فيها مردودة إلى نفسه، أي أن في الوقت الذي تتناول فيه الفلسفات البشرية الحرية من زاوية علاقة الإنسان بغيره، يتناول الإسلام الأمر برد مفهوم الحرية إلى الإنسان نفسه باعتباره الكائن المركب على مقومات الحرية وفقًا للآيتين:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَاتَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَۙلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[النحل: 78]،{وَلَاتَقْفُ مَالَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌۚإِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}[الإسراء: 36].

 

ثم يقول تعليقًا عن ذلك أن "الله يحذر الإنسان المزود بقوى الوعي والإدراك هذه من أن يعطلها ويهب نفسه لعقول غيره وإدراك غيره يتحكم فيه… فهنا بالذات يرد الإسلام قيمة الحرية إلى قيمة الإنسان، ويجعل منهما شيئين متعادلين؛ فالإنسان الذي لا يقوده وعيه وإدراكه , بعيد في الحقيقة عن معنى الإنسانية وعن الغاية التي خلق من أجلها"[19].

 

فالإسلام، وفقًا لمحمد حاج، يتعامل مع الحرية بكونها خاصية إنسانية تابعة لتمايزه عن باقي الخلق -من الجمادات والنبات والحيوان-بالروح التي تجعله يحكم السيطرة عليها ويوجهها، وهي تبعًا لذلك -وكما رأى بيجوفيتش[20]– مسؤولية إنسانية أخلاقية، يعلو بها المرء عن كونه جسدًا وحواسًا مصمتة، لحقيقة أنه إنسان حر الإرادة، مُحاسبٌ عليها ومُجازٍ بها. فهي "التعبّد للخالق باختياره الإنساني،فلا يستعبده الخلق في ظاهره أو باطنه"[21].

 

الحرية والإسلام.. المفهوم والدلالة في الميزان الإلهي

"الحرية خاطر عزيز في النفوس البشرية، فبها نماء القوى الإنسانية، من تفكير وقول وعمل، وبها تنطلق المواهب العقلية متسابقة في ميادين الابتكار والتدقيق، فلا يصح أن تُسام بقيد إلا قيدًا يدفع عن صاحبه ضر ثابت أو يجلب به نفعه"[22].

 

بذلك النظم المختصر، يرى الإمام "الطاهر بن عاشور" الحرية في ميدانها الإسلامي، كقيد حكيم/إلهي يحفظ به المرء نفسه، إذا هو امتثل إليه، من الإضرار بها أو بغيرها، وكذا يكسبه الفائدة على المستويين الفردي والجماعي. ولحتمية التفاوت بين الدلالات، يحاول "سلطان العميري" في كتابه "فضاءات الحرية" فض الإشكاليات القائمة بين مفهوم الحرية في الإسلام ودلالته عند كل من نظّر فيها أو نطق عنها.

 undefined

 
فيقول أن الخلط الحادث بين المكونات المختلفة للحرية يسبب اضطرابًا عنيفًا في بيان المفهوم ودلالته، فيُخلط الحديث عن الحرية السياسية بالجسدية بالفكرية، ويُستدل -مثلًا- بمقولة عمر بن الخطاب "متى استعبدتم  الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا" في سياق الحديث عن الحرية الفكرية أو التقييد للحرية الجنسية، في حين أنها قيلت في سياق سياسي ينبذ الطغيان السلطوي على الآخرين، فيُحدث ذلك الارتباك الاستدلالي بالنصوص، والانتقائي لها، هذا الخلل الظاهر في دلالة الحرية في بوتقة الإسلام.

 
ثم يضع لها الأساسات المنهجية المتباينة مع منهجيات التحرر خارج الإسلام، قائلًا أن الأساس الأول للحرية الإسلامية يظهر في القاعدة المرجعية التي تتحاكم إليها، فالمرجعية في حالة الإسلام سماوية تتحاكم إلى التنزيل الإلهي، أي أن الحرية في الإسلام، وفقًا لمحمد باقر الصدر، "ترتبط ارتباطًا أساسيًا بالعبودية لله، فلا يسمح الإسلام للإنسان أن يستذل أو يستكين أو يتنازل عن حريته"[23]، فهي ليست حقًا ممنوحًا بالعقد الاجتماعي أو بأي اتفاق بشري، وإنما هي خاصية إنسانية ملازمة للخلق.

 
وهي على هذا تتمايز أيضًا في الهدف المركزي الذي تسعى إليه، ومجموعة الدوائر التي يشملها المفهوم داخل الإسلام، فعلى خلاف الغاية الأحادية في الفكر الغربي، الهادفة لتحقيق الاستقلال الذاتي للإنسان من استغلال الآخر له أو السيطرة عليه، يرى "العميري" أن الإسلام قد وظّف الحرية في تحقيق الهدف الأساسي من الخلق، وهو العبودية لله، عن طريق تحرير الإنسان.

 

كما أن خضوع الإنسان لأخيه الإنسان واستعباده له يعد نقصًا في حريته، ومن ثم عبوديته لله، كذلك فإن خضوع القلب لشيء من أمور الدنيا واستعباده له يعد نقصًا في حريته، ومن ثم في عبوديته لله
كما أن خضوع الإنسان لأخيه الإنسان واستعباده له يعد نقصًا في حريته، ومن ثم عبوديته لله، كذلك فإن خضوع القلب لشيء من أمور الدنيا واستعباده له يعد نقصًا في حريته، ومن ثم في عبوديته لله

 
فيقول: "إن تجذّر الهدف العبادي في تصرفات الإنسان وأخلاقه -ومنها الحرية- يحرره من جميع أنواع العبوديات، سواء كان منها العبودية للبشر والخضوع لهم ولإرادتهم، أو العبودية للشهوة واللذة، أو العبودية للمال والسلعة، فالإسلام حين أكد على أهمية هدف العبودية لله وبوّأه رأس الهرم القيمي أراد أن يخلص الإنسان من جميع ما يزاحم العبودية لله أو يضايقها؛ حتى لا يكون أسيرًا ولا خاضعًا ولا عابدًا إلا لله وحده"[24].

 

كذلك يرى أن الشمول الكياني للحرية في الإسلام يحيط بجانبي الجسد والروح على حد سواء، فإن كان التقنين الوضعي/المادي لقضية الحرية يكفل للإنسان حريته الجسدية من الممارسة السلبية ضدها، فإن دوائر الحرية في الإسلام تشمل جانبي الجسد والروح بصورة متزامنة، "فالمسلم يجب أن يكون سالمًا من كل أنواع الرق والخضوع والاستعباد.. فكما أن خضوع الإنسان لأخيه الإنسان واستعباده له يعد نقصًا في حريته، ومن ثم عبوديته لله، كذلك فإن خضوع القلب لشيء من أمور الدنيا واستعباده له يعد نقصًا في حريته، ومن ثم في عبوديته لله"[25].

 

فالمعيار الوازن هنا هو إقامة العدل، بإعطاء الإنسان حقه -المادي والمعنوي- دون الطغيان على الجماعة أو الانحراف عن حدود الخالق، وهو ما يفترق مع فكرة المساواة المطلقة التي قد تتيح للكل ممارسة كل شيء[26]، فالشذوذ الجنسي هنا مسألة تساوي في الحقوق مع الأسوياء من الجنسين، ولكنه أمر غير عادل -حسب تفسير العميري لمعيار الحرية- لأنه يخرج عن الحدّ الإلهي المُشرِّع، فالعدل في الإسلام مطلق، والمساواة قيمة تابعة لهذا المطلق، ومتى خرجت عنه فلا اعتبار لها.

 undefined

والحرية الفردية، بأنواعها السياسية والجسدية والمالية، داخل بوتقة الإسلام تحتكم في النهاية إلى ضابطين يُقيّدان إطلاقها ويختصران مدلولها[27]، أولهما هو البُعد التعبّدي للمرء مع الله، فلا يكون في ممارسته لحريته ضررًا بتدين الناس وعلاقتهم بربّهم، ويسبق ذاك تدينه هو وعلاقته بربه بطبيعة الحال، وضابط آخر دنيوي خاص بعلاقته مع الخلق، فلا يمارسها بما يضرّ حياة غيره ولا علاقته بالكون وباقي البشر.

 

الجسد في ممتحن الحريات

من العام إلى الخاص، وبردّ الأمر لقضية الجسد ومدى الحرية الممنوحة له في مساحات الحرية المتباينة، فهل يبقى الشذوذ الجنسي اختيارًا يتيح لصاحبه أشرعنته بلا إشكال؟ فمع التدرج في ميزان الحريات، فإن الشذوذ يصنع اضطرابًا في الحرية الطبيعية التي عبّر عنها "لوك" بحرية الإنسان في الدفاع عن بقائه؛ لأنه يعارض مبدأها بقتل الإنسان نفسه بأمراض جسدية على شاكلة "الإيدز" و"الزهري" و"متلازمة أمعاء الشواذ"، وأمراض عصبية ونفسية من نوعية "القلق" و"الاكتئاب" و"الشعور وبالنقص والسادية"، وما إلى ذلك من اضطربات نفسية قد تودي بأصحابها إلى الانتحار أو  القتل[28].

 

وهو الحال ذاته على المجتمع الذي تتفكك روابطه الأسرية بتأثير المثلية، فحسب الباحثة الاجتماعية "هند عقيل"[29] فإن شبكة العلاقات الاجتماعية لا تتماشى بصورة طبيعية مع انتشار الشذوذ الجنسي الذي يُبدّل نمط الأسرة الطبيعية، ويتركها محطمة على أنقاض العنوسة والطلاق والخيانة الزوجية والعجز الجنسي.

  undefined

 
وتضيف "هند" بأنه على الرغم من قلة التناول الفكري لأثر الظاهرة، إلا أن أكبر الضرر على المجتمع يتبدّى فعليًا من هذا الجانب بما يتبعه من فقدان للهوية الاجتماعية والثقافية، وما لذلك من الأثر البعيد على عقيدة المجتمع وأفكاره، الأمر الذي يتلاقى مع البُعد الإسلامي للأمر وتجريمه لظاهرة الشذوذ على لسان النبي "لوط"{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ ۚ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} [الأعراف 80-81]. وهو الضابط التعبدي لمسألة الحرية -وفق العميري- الذي يتلاقى مع  الضرر الدنيوي على جانبيه: الشخصي والمجتمعي، في حصار تام لإطلاق حرية الشذوذ.

 

فلو كان موقع الظاهرة من مستويات الحرية المتباينة لا يدعم حقها في الإطلاق، وكذا مع الأخذ في الاعتبار بحاكمية الفوقي/الديني على التحتي/الفردي، كما يقول المسيري[30] فهل يبقى سؤال الحرية حول الإطلاق والتقييد قائمًا بلا أي مراعاة لذاك؟

المصدر : الجزيرة