شعار قسم ميدان

شعب الكومباوند المصري.. مجتمعات راقية أم فصل عنصري؟

ميدان - كومباوند مصر

في (ديسمبر/كانون الأول) عام 2002 افتُتح أول "هايبر ماركت" فرنسي على مشارف القاهرة بجوار منتجع "قطامية هايتس"، وقد أثار افتتاح هذا السوق جدلا واسعا بسبب حجمه الذي يفوق "كارفور" وموقعه الذي يتطلب توافر سيارة خاصة للوصول إلى المكان، وقد اُختير مكان الهايبر ماركت ليكون قريبا من المنتجع ليخدم احتياجات سكانه، إذ يضم السوق العديد من المتاجر العالمية التي تناسب فئات مجتمع "قطامية هايتس".

  

وفي زيارتها لمجتمع القطامية هايتس قامت "أنوك دي كونينغ" أستاذة الأنثروبولوجيا في جامعة رادبود الهولندية بوصف الطريق قائلة: "بعد أن نجحنا في اجتياز التكدس المروري في قلب القاهرة وصلنا إلى أحد أهم المقاصد في القاهرة، انتصب قبالتنا مبنًى مربعا يشبه حظيرة الطائرات في قلب الصحراء، ولأن المنتجع يقع على مسافة من المدينة بجوار تقاطعات الطرق السريعة ولا يمكن الوصول إليه إلا بالسيارة فقد كان موقعه يبشّر بجمهور مُنتقى".(1)

   

 
فمن خلال جغرافيا "الكومباوند" يجد الزائر نفسه بصدد بُنى اقتصادية تستهدف طبقة محددة من الشعب تملك نمط حياة تجعلهم ينضمون إلى عضوية هذا "النادي الاقتصادي"(2) الذي يضم نخبة من رجال الأعمال ورجال الدولة، ويوفر لهم ذلك كل الاحتياجات الأساسية والرفاهية، مشمولا بذلك ميزة الجار الذي ينتمي لذات الطبقة المتوسطة العليا القادرة على تَحمل مبالغ أقساط العيش في الكومباوند.

وقد لعبت عملية التسويق للكومباوند دورا في توضيح الفئات المُنتقاة لنمط هذه الحياة، ويمكن رؤية ذلك بوضوح في إعلانات "الكومباوند المتكامل" الذي يحل الخلاف بين ثلاثة أشقاء يملكون فيلا بحديقة خلفية واحدة ليوفر لهم الكومباوند ثلاث فيلات بثلاث حدائق خلفية، ليتحول هذا الإعلان إلى موضوع لسخرية الطبقة المتوسطة على مواقع التواصل الاجتماعي.

فهل يقتصر "الكومباوند" على شكل عمراني محدد لطبقة منتقاة من المجتمع، أم أن له تفسيرات أخرى تتجاوز كونه مجموعة من المباني اللامعة والنظيفة في مقابل مساكن الفقراء بالقاهرة؟

 

التسويق وعمليات الفرز الاجتماعي

undefined

 

يعتقد زيغمونت باومان أن آليات التسويق الحديثة قد حوّلت اهتمامها من الترويج لسلعة تُلبي احتياجا ما إلى "خلق الطلب"(3) /الرغبة نفسها، عن طريق إنتاج سلع تُثير رغبة الشراء لدى المستهلكين المحاصرين دائما بكمٍّ هائل من الإعلانات عن سلع جديدة، والتي تُشكّل تصوراتهم لنمط الحياة المثالي، وتُعطيهم وعودا بحياة متحضرة نقية خالية من التلوث ومليئة بالمساحات الخضراء.

 

ويذهب "ديفيد ليون"(4) أستاذ الاجتماع في جامعة برادفورد إلى أن عمليات الفرز التي يقوم بها موقع أمازون من خلال اطلاعه على نتائج بحث المستخدمين التي ينشرون فيها اهتماماتهم، حيث لاحظ أن الشركة تقوم بتجميع البيانات وإظهار الإعلانات التي تُناسب اهتمامات كل فرد، ولا تكتفي بذلك بل تعمل على تطوير تلك الرغبات والتنبؤ بما ستهتم به في المستقبل، وذلك لأن عمليات التسويق الإلكترونية يمكن أن تقوم بعمليات فرز وتقسيم المستهلكين إلى شرائح معينة، ليتم استهدافها وتلبية احتياجاتها بتوفير السلع التي تناسب نمط الحياة الطبقية لكل مستخدم.

 

إذ يضيف ديفيد ليون بقوله "إن عمليات الفرز تخدم دعاية ذاتية تلقائية، وتغرس فينا أفكارنا، وتضخم رغبتنا في الأشياء المألوفة، وتجعلنا لا نعبأ بالأخطار التي تحوم في الأرض المظلمة المسكونة بالمجهول".

 

ديفيد ليون يتحدث عن المُراقبة على مواقع التواصل الاجتماعي، مَن يفعل ذلك؟

 

عالم مواز يخاف الآخر

يرى البعض(5) أن العالم يتحرك الآن من تقسيم الحدود بين القارات والدول إلى تقسيم الحدود بين المواطنين بعضهم عن بعض، ويمكن معرفة المكانة الاجتماعية لكل مواطن من خلال المكان الذي يسكن فيه، وتبقى وظيفة بناء الأسوار في تحديد الخارج من تلك الطبقة والمنتمين إليها، حيث تقول نان إلين في كتاب "Architecture of Fear": "إن المدن التي شُيّدت في الأصل لتوفير الأمان لجميع سكانها ترتبط هذه الأيام بالخطر، وقد زاد عامل الخوف في تشييد المدن، ويظهر ذلك في زيادة السيارات المقفلة، وأبواب المنازل المقفلة، والأنظمة الأمنية والشعبية المتزايدة، والمراقبة المتزايدة للفضاءات العامة".

 

فيما يطرح زيغمونت باومان(6) جدلا حول الأسوار والحصون التي كانت تُشيّد لحماية المدينة وأهلها، واعتبارها حيزا لوضع الأسلحة والمعدات القتالية على تلك الأسوار لحمايتها من الغزو المُحتمل، ولكن مع تنوع واختلاف المجتمعات، أصبح الهلع والخوف هاجسين يرتبطان بالاختلاط، حتى تمددا داخليا صوب المنطقة السكنية والجيران ثم إلى الأسرة نفسها، ومع احتمالية التعددية وزيادة عدم الألفة بين أفراد المجتمع تستمر الهواجس في تأجيج الرغبة في الانعزال والتمييز.

 

زيغمونت باومان (مواقع التواصل)
زيغمونت باومان (مواقع التواصل)

 

وبالعودة لكتابات عبد الرحمن بن خلدون فإنه يرى(7) في مقدمته أن عمران العالم يأتي بالعمران البشري، والبشر دائما يتعرضون لأحوال من التأنس والتوحش والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، لكنه لم يفصل في تلك الصفات والتغيرات التي تحدث للبشر عن السياق السياسي والاجتماعي وعلاقات القوة والسلطة التي تُشكّل ظروف الإنسان وتؤثر على رؤيته للقبيح والحَسن، حيث نظر ابن خلدون إلى المدينة على أنها مكان للتجمع البشري والتواصل المستمر فيما بينهم ليمضوا قدما نحو عمارة الأرض.

 

ويتمثّل مفهوم ابن خلدون عن العمران وفقا لـ د.هبة رؤوف(7) في "التحولات السكانية والعمرانية وطبيعة الأعراف والتقاليد التي تنشأ وتؤثر في مسارات السلوك الإنساني والاجتماعي، والوعي بالحقوق والمصالح ونسيج التضامن المجتمعي، الأبعاد المتعلقة بالمكان والمساحات وما ينتج عنها من عادات تجعلنا نحاول مواجهة منظومات العيش في الحضر وغلبة المادية والمنفعة".

 

ومن خلال تلك النظريات يمكننا رؤية الصورة التي يعكسها ساكنو مجتمع الكومباوند بطريقة مختلفة، فعلى سبيل المثال وصفت الفنانة "شيرين رضا" منتجع الجونة بـ "المدينة الفاضلة" معللة ذلك بغياب الضوضاء ووجود بيئة صحية بالمقارنة بالقاهرة المزدحمة، وتلك هي الصورة نفسها التي يصفها إعلان كومباوند "ماونتن فيو" (Mountain View) حيث يصوّر شكل المُقيمين خارج الكومباوند على أنهم همج ويُطلق شعار "أرجع لطبيعتك" عن طريق الإقامة في كومباوند. لكن هل يكتفي الكومباوند برسم عالم مثالي لدى ساكنيه؟

 

  

التربية الطبقية

في فيلم "نوارة" الذي تدور أحداثه بعد "ثورة يناير" مباشرة في كومباوند يقطنه سياسيون من نظام مبارك، وفي مشهد تشتكي طفلة صغيرة في أحد المشاهد من حال الكومباوند الذي أصبح مليئا بالخدامين والبوابين وتصف الأمر بالـ "مقرف"، هذا المشهد هو انعكاس، وإن بصورة مبسطة، للغة الأطفال التي تستخدم لوصف من دون مستواهم الاجتماعي، والتنشئة الطبقية التي تنتج عنها تلك السلوكيات.

 

وهذا ما شرحت عنه "أنوك دي كونينغ" في كتاب "أحلام عولمية"(8) بأن تنشئة الأطفال في مجتمع الطبقة العُليا تكون بطبيعة الحال تنشئة ذات طابع فوقي من حيث التعليم ورفاهية الحياة وأسلوب المعيشة، وعلى الرغم من تنشئتهم في مجتمع عربي فإن لغتهم الأم تصبح الإنجليزية أو الفرنسية أو أي لغة أجنبية بخلاف اللغة العربية التي تنتقل إلى مرتبة اللغة الثانوية.

 

حيث يُشكّل التعليم هاجسًا لآباء الطبقة النخبوية، ولذلك يضع آباء تلك الطبقة أبناءهم في مدارس دولية، حيث تكون اللغة الإنجليزية هي لغتهم الأساسية، لأن إجادتها علامة مميزة لحياة الطبقة العُليا الذين يخلطون العربية بالإنجليزية وتنحصر العربية في عبارات قصيرة كفواصل بين الجُمل، وكلما زادت قدرة الأبناء على التحدث بأكثر من لغة تصبح مكانتهم الاجتماعية أرقى وأكثر تحضرا.(9)

 

وبحسب "أنوك"(10): "فإن امتلاك لغة أجنبية، وخاصة الإنجليزية، قد أصبح إشارة إلى انقسام رئيس في المجتمع، فهو يقسم الطبقة المتعلمة في سوق العمل إلى مَن يملكون لغة ومَن لا يملكون لغة، وهذا التقسيم يجعل الشرائح العُليا في سوق العمل هم المنتمين إلى طبقة المدارس اللغات"، ولذلك يميل الآباء إلى اختيار مُربين أجانب ممن يعرفون الإنجليزية ونمط الحياة المتحضر لأن المُربين المصريين الذين ينتمون إلى الطبقة الدُنيا بالكاد يعرفون اللغة العربية. وفي حلقة من برنامج "تحت المجهر" تتناول فكرة الكومباوند تقول سيدة تسكن في إحدى الكومباوندات: "أنا لما حبيت أجيب مُربية للأولاد كان لازم أجيب واحدة أجنبية بتتكلم زيهم إنجليزي وثقافتها قريبة منهم".

  

تحت المجهر- المستوطنات الجديدة.. الكومباوند

 

المستوطنات والإنسان الجديد

يعتقد د. عبد الوهاب المسيري أن المجتمع اليهودي الاستيطاني الذي هاجر إلى حيفا قد أرّقته أسئلة تتعلق بالهوية القومية والتاريخ، واكتساب الهوية الجديدة التي هي مشكلة أي مجتمع استيطاني رافض للتاريخ والتراث القديم، ويُريد أن يؤسس لنفسه "تُراثا جديدا" ويصنع إنسانا جديدا يحمل تاريخا قوميا ومسؤولية وحُلمًا للدولة التي ينتمي إليها، كانت فكرة اليهودي الخالص الذي يُهاجر إلى أرض الميعاد ليحارب في الجيش اليهودي ويزرع في أرض يهودية وترتبط أحلامه بأحلام الدولة التي تُريد أن تستعيد المجد المفقود.(11)

 

مّن هو اليهودي؟ – د. عبد الوهاب المسيري

 

ويذهب بعض علماء الاجتماع(12) إلى أن هجرة طبقة النخبة من الشعب إلى الكومباوندات يأتي مع التخلي عن العادات والأفكار القديمة التي تنتمي إلى الطبقات الأدنى، تلك الطبقة التي كانت تعيش في مجتمع تختلط فيه الطبقة العُليا والمتوسطة والدُنيا إلى مجتمع يُمثّل فقط "الطبقة الراقية" التي لها ثقافة غربية لا تتماشى مع مَن خارج أسوار الكومباوند ولن يفهم لغتها عامة الشعب، ومجتمع له صلات واتصالات لا تقتصر على المستوى الشعبي (المحلي) بل تمتد إلى بقاع العالم، ومجتمع يُربي أبناءه وهم مُحاطون بطبقة الأثرياء وبنمط حياة استهلاكي.

 

كذلك يمكن تصور أن المستوطنات الجديدة (الكومباوندات) تحتاج دائما إلى وجود المناطق العشوائية، وذلك لأنها تكتسب معناها بوجود المناطق العشوائية التي ترسم حدودها، وتُكسبها معناها الطبقي، إذ تبحث "دعاء قداح"(13) في رسالتها لنيل الماجستير بالجامعة الأميركية حضور "التوك توك" في منطقة المعادي والمفارقات التي يطرحها هذا الحضور الشعبي، فهو يقطع المساحات الراقية مثل وادي دجلة وشارع 9 قادما من مناطق شعبية كـعرب المعادي وحدائق المعادي، وتجادل قداح بأنه لولا هذا الحضور للمنطقة الشعبية وما تمثله لما اكتسبت المناطق الراقية مكانتها.  

  

فشبكة الطرق بمنطقة المعادي ربما لا تسمح ببناء أسوار كأسوار الكومباوند لكي تحمي أصحاب الطبقة العُليا من دُخلاء من الطبقة الدُنيا، ولكن يمكن للقوانين والعقوبات أن تفرض تلك الأسوار وتُمارس الإقصاء الاجتماعي وخلق بيئة اجتماعية تخلو من التلوث والضوضاء والبشر "المتخلفين" الذين يعيشون في مناطق "عشوائية" وهي كلمة اشتقت من الجذر العربي الذي يعني "الصدفة"، والذي ظهر في مصر في أوائل التسعينيات من أجل وصف أحياء الفقراء التي أُعدّت بدون تخطيط سابق بخلاف الأحياء الراقية التي تم إعدادها على تراث وثقافة مُعينة ويتم فيها استغلال المساحات بالقدر الذي يُرضي السُكان المستهلكين.(14)

 

العودة إلى الذات

undefined

 

هكذا، وفي مجتمع كثرت فيه التفاوتات الطبقية وتقسيمات عدة ومتباعدة فقد الإنسان معنى "الانتماء"، وأصبح يبحث عن هوية في مدينة تلتهم الطبقات المهنية التي كانت لها قيمة في وقت ما، وتحيطها أشباح الهبوط إلى الطبقات الفقيرة، وتلك المدينة التي تشهد رغبات الطبقة العُليا في الانتماء إلى نمط غربي يعدهم بالبعد عن الانتماءات الضعيفة غير الذكية وغير النظيفة بالقدر الكافي، وعن الأعراف والتقاليد التي تكاد أن تُمحى في ظل تلك التغيّرات المستمرة التي تطرأ على المجتمع.(15)

 

ويتساءل علي شريعتي في كتابه "العودة إلى الذات" قائلا: "إلى أي ذات نعود؟ هل نغرق في مفهوم وهمي مطلق يسمى الإنسانية؟ أم نغرق في العالمية الكاذبة التي يُراد بها محو الشخصية الثقافية الحقيقية للجميع، حتى تُمحى في إنسانية وهمية لا وجود لها".(16)   

 

ففي تلك الحالة بمصر يُمثّل "الكومباوند" وما يُعبّر عنه من ثقافة وطريقة للعيش اغترابا للإنسان عن نفسه وعن بيئته، كما يُعبّر عن انقسام مجتمعي حاد، حيث تبقى معاني التحضر والثقافة والإنسانية حكرا على أمم معينة، ولا سبيل للوصول إليها إلا من خلال الذوبان داخلها، فتتحول إلى "إنسان عالمي" قادر على استهلاك ما يُنتج من سلع ومعانٍ، ويسكن بمدن بلاستيكية محاطة بالأسوار والمخاوف والمخاطر.

__________________________________________

هامش:

"هايبر ماركت": هو متجر تجاري كبير يضم العديد من المنتجات المختلفة الموجودة في متاجر متفرقة.

المصدر : الجزيرة