شعار قسم ميدان

"وقود الشارع".. جذور الصراع بين الحركة الطلابية والنظام المصري

ميدان - الحركة الطلابية

بعد الهزيمة "المخزية" التي تلقاها الجيش المصري في نكسة 5 (يونيو/حزيران) 1967، "وعندما لم يكن أحد يجرؤ على انتقاد الهزيمة، وما سبقها من خداع وتضليل، وما يحيط بالجو العام كله من قمع وإرهاب تحت ظل حكم الحديد والنار الذي انتهجه جمال عبد الناصر" (1)، وتزامنا مع ثورة الطلبة بباريس التي سيحكي عنها المفكرون فيما بعد أنها ستغير وجه أوروبا بل العالم، انفجرت بمصر انتفاضة الطلبة يوم 21 (فبراير/شباط) 1968 حيث كان حراك الطلبة هو أول حراك سياسي مباشر منذ عام 1954.

 
منذ هذا اليوم عام 1968 ستتغير الموازين السياسية، فبرغم أن الحركة الطلابية المصرية كان لها تاريخ عريق منذ ثورة 1919 ثم انتفاضة الطلاب في عام 1935-1936 ثم انتفاضة عام 1946 فإن انتفاضتي الطلبة في (فبراير/شباط) 1968 و(نوفمبر/تشرين الثاني) من نفس العام سيشكّلان وجها جديدا للحركة الطلابية يناسب فترة ما بعد الاستعمار وشكل الوضع السياسي في تلك الفترة.

  
فمنذ انفجار الحركة الطلابية في (فبراير/شباط) 1968 سيشكّل الحراك قلقا دائما وتهديدا مستمرا ومباشرا لكل نظم الحكم في فترة ما بعد الاستعمار، ففي عام 1968 ستخرج دعوة جريئة موجهة للرئيس جمال عبد الناصر بشكل مباشر لأول مرة من جامعة الإسكندرية "لإقالة الليثي عبد الناصر" وهو شقيق جمال عبد الناصر وكان مسؤول الاتحاد الاشتراكي بالإسكندرية (2)، أما في (نوفمبر/تشرين الثاني) من نفس العام فقد كاد اعتصام الطلبة بكلية الهندسة بجامعة الإسكندرية وتفاعل المتظاهرين معه بالشارع أن يتحول إلى ثورة حقيقية تطيح بنظام حكم جمال عبد الناصر (3).
  

undefined    

وفي انتفاضة عام 1977 كادت المظاهرات أن تُسقط حكم محمد أنور السادات والذي أعدّ نفسه يومها لمغادرة البلاد إذا سيطر المتظاهرون على الشارع والمؤسسات بالكامل (3). وفي عصر محمد حسني مبارك ارتبط حراك الطلبة بالأحداث الإقليمية والعالمية مثل انتفاضة فلسطين وغزو العراق حتى إن الشيخ أحمد ياسين رحمه الله أجرى مكالمة تمت إذاعتها علانية خلال تظاهرة طلابية بجامعة الإسكندرية (4)لكن كيف كانت انتفاضات الطلبة القرن المنصرم هي من شكّلت الوضع السياسي المصري؟ وكيف استطاع طلبة في المدارس الثانوية وفي بداية حياتهم الجامعية أن يشكّلوا كل ذلك الخطر ويسبّبوا كل ذلك الرعب للنظم الحاكمة؟ 

 

نبذة تاريخية عن الحركة الطلابية

كان للحركة الطلابية المصرية تاريخ عريق ودور رئيس في النضال الوطني، وهو ما دفع باحثا مرموقا في شؤون مصر والمنطقة هو "والتر لاكير" إلى أن يقول: "التاريخ لا يعرف مجتمعا لعب فيه الطلبة، والمثقفون بصفة عامة، دورا طلائعيا في الحركة الوطنية كما حدث في مصر" (5)وتعود بدايات الحراك الطلابي لثورة 1919 التي شارك فيها جميع أطياف الشعب المصري لكن كان الطلبة وخاصة طلبة المدارس العليا هم رأس رمحها، كما رسم ذلك الأديب نجيب محفوظ في ثلاثيته، حيث كانت شخصية "فهمي" طالب مدرسة الحقوق هي الشخصية المهتمة أكبر اهتمام بين باقي شخصيات الأسرة بالوضع السياسي وعلاقة مصر ببريطانيا، حتى استُشهد بنيران الاحتلال الإنجليزي في أحداث ثورة 1919.

 
حين بادر طلاب الحقوق بالتحرك وتبعهم في ذلك طلاب مدرسة المهند سخانة ومدرسة التجارة التي ألقى فيها الأستاذ أحمد ماهر خطابا قال فيه: "مكان الطلبة اليوم في الشارع لا على مقاعد الدراسة " (6)، وكذلك تحرك طلاب مدرسة الزراعة والطب ودار العلوم وطلبة مدرسة الإلهامية الثانوية والتجارة المتوسطة والقضاء الشرعي، فحاصرت القوات البريطانية الطلبة في ميدان السيدة زينب وقابلوهم بعنف شديد لدرجة جعلت الأهالي يتضامنون مع الطلاب وألحقوا خسائر بالقوة البريطانية التي طلبت تعزيزات أخرى من الجيش فأمكن تشتيت المتظاهرين ونقل الجرحى إلى المستشفيات واعتقل 300 طالب (6).

 

بيد أن بدايات هذا الدور ترجع إلى ما قبل 1919 حيث الفعاليات المهمة التي كان يقوم بها طلاب الأزهر قبل نشأة التعليم الحديث في مصر في القرن التاسع عشر (7)حيث تمتلئ صفحات تاريخ الجبرتي بالكثير من الأمثلة على الدور المهم الذي لعبه طلاب الأزهر (8)، والذين عُرفوا آنذاك باسم "المجاورين" نسبة إلى معيشتهم في جوار الأزهر. وتَركَّز هذا الدور في العصر العثماني في الاعتراض على القرارات الاقتصادية الجائرة لبعض الولاة، أو انتهاكات عسكر المماليك الأحياء والبيوت.

  undefined
 
وكان الطلاب يتجمعون في واحد من أروقة الأزهر المختلفة والخروج في مظاهرات تجوب المدينة، وكان يقودها في بعض الأحيان بعض مشايخ الأزهر الثوريين أمام الحاكم والمحكومين (8). كما امتد هذا الحراك إلى فترة الحملة الفرنسية التي ستندلع خلالها ثورة القاهرة وسيظهر دور الطلاب بوضوح، حيث سيقوم الطالب الجامعي ذو الأصول الشامية "سليمان الحلبي" بقتل كليبر قائد الحملة الفرنسية آنذاك. ومنذ تلك الواقعة لم يتوقف نضال الطلاب في مصر في جميع العصور، بل ستمتد عمليات الاغتيال السياسي التي سيقوم بها الطلبة الشباب فستشمل "يوسف وهبة باشا" الذي سيقوم الطالب "عريان سعد"، طالب مدرسة الطب، بالتطوع لاغتياله "ليُفسِد مخطط الإنجليز بتعمد تنصيب رئيس وزراء قبطي لإحداث فتنة طائفية" (9)، وستشمل الاغتيالات "بطرس غالي، والقاضي الخازندار، والنقراشي باشا".

 
وقد سادت الأوساط الطلابية المتمردة في هذه الفترة كما يرى الأستاذ فاروق القاضي مؤلف كتاب "فرسان الأمل" (10): أيديولوجيتان، أيديولوجية برجوازية ليبرالية نشرها الحزب الوطني وكانت الأكثر شيوعا، مع احتفاظ الحزب الوطني بتوجهه المحافظ الذي يدعو للاستقلال تحت ظل الخلافة العثمانية، وأيديولوجية ماركسية وجدت طريقها إلى الأوساط الطلابية من خلال تحركاتهم في الخارج واحتكاكهم باليسار الأوروبي ومن خلال وعي فكري متقدم بالقضايا الوطنية والاجتماعية في مصر.

 

جاءت كل تلك العوامل والأفكار لترسم صورة سيبقى إطارها لمرحلة ما بعد انقلاب (يوليو/تموز) 52 حيث سيدرك الطلبة والناشطون في الواقع السياسي المصري أهمية الصورة التي خرجت في ثورة 19 حين اتحد الطلبة والعمال فشكّلا سلاحا خطيرا ومدمرا سيشكّل قطبي التغيير في مصر اللذين إن تحققت معادلة اتحادهما لن يقدر أي نظام حكم على مجابهتهما كما حدث فيما بعد، لكن كيف اكتشف الطلاب ذلك؟

 

استقلال الجامعة واستقلال مصر

مع انتصاف ثلاثينيات القرن المنصرم وجد النظام المصري نفسه وجها لوجه أمام الذرية الساخطة التي خلفها بنفسه (11)، حيث وفّر انتشار التعليم الليبرالي قوة عددية للطلاب، بينما أحبط المستوى المنخفض للتنمية الاقتصادية في البلاد طموحاتهم الخاصة بمستقبل حياتهم العملية. وفي أول تقرير أمني يُكتب عن الحركة الطلابية في مصر (11) بواسطة "بشتلي أفندي" من القسم المخصوص بوزارة الداخلية جاء حول أحداث انتفاضة الطلاب ما يلي: "في الثالث عشر من (نوفمبر/تشرين الثاني) سار حوالي 2000 من الطلاب من الجامعة بالجيزة إلى القاهرة مهددين ومتوعّدين، وأبدى الطلاب روح التشدد، والتهور، والعدوانية، وكان التعامل معهم أكثر صعوبة من ذي قبل" (11).
  

انتفض طلاب الجامعة 1936 دفاعا عن استقلال جامعتهم،  توجهوا إلى قصر عابدين، حيث قدموا طلبا إلى الملك بضرورة عودة طه حسين إلى منصب العمادة احتراما لمبدأ استقلال الجامعة
انتفض طلاب الجامعة 1936 دفاعا عن استقلال جامعتهم،  توجهوا إلى قصر عابدين، حيث قدموا طلبا إلى الملك بضرورة عودة طه حسين إلى منصب العمادة احتراما لمبدأ استقلال الجامعة
  

لكن هذه الأحداث التي ستُعرف تاريخيا بانتفاضة الطلبة 1935-1936 قد سبقتها حادثة أخرى ربطت حراك الطلبة الجامعيين بالحراك السياسي في مصر، حيث عانت مصر كلها، والجامعة على وجه الخصوص، من استبداد حكومة إسماعيل صدقي في فترة الثلاثينيات، حين شهدت الجامعة في عام 1932 معركة شهيرة من معارك استقلال الجامعة، حيث عمدت حكومة صدقي إلى الإطاحة بطه حسين من عمادة كلية الآداب (12).

 

وانتفض طلاب الجامعة دفاعا عن استقلال جامعتهم، حيث طافت مظاهراتهم الحرم الجامعي وأضربوا عن الدراسة، وخرجوا من الجامعة في مظاهرة كبيرة توجهت إلى قصر عابدين، حيث قدموا طلبا إلى الملك بضرورة عودة طه حسين إلى منصب العمادة احتراما لمبدأ استقلال الجامعة.

والتقت عزيمة الأساتذة مع الطلاب على ضرورة عودة طه حسين إلى العمادة، وتوقفت الدراسة وعم الاضطراب الجامعة، ولجأ إسماعيل صدقي إلى الحل الأمني. ففي التاسع من (مارس/آذار) عام 1932 أرسل إسماعيل صدقي قوات الشرطة إلى داخل الحرم الجامعي لفض اعتصام الطلاب (12)، فقدّم لطفي السيد رئيس الجامعة آنذاك استقالته احتجاجا على الإجراءات القمعية لحكومة صدقي واعتدائه على استقلال الجامعة، وهكذا أصبح 9 (مارس/آذار) يمّثل في ذاكرة الجامعة عيدا لاستقلالها.

 

ومع مطلع عام 1935 ساد التوتر الساحة السياسية المصرية، فمنذ أن تولّى محمد توفيق نسيم باشا الوزارة (14 (نوفمبر/تشرين الثاني) 1934) بعد سقوط وزارة إسماعيل صدقي وتعلّقت الآمال على استعادة دستور 1923، وخاصة عندما ألغت الوزارة الجديدة دستور 1930 غير أنها لم تتخذ قرارا بعودة دستور 1923 بضغط من القصر والإنجليز (13)، وفي 9 (نوفمبر/تشرين الثاني) 1935 أعلن سير صمويل هور في دار بلدية لندن أنه "برغم اعتراف بريطانيا بأن دستور 1930 قد ثبت عدم شعبيته فإنها تنظر إلى دستور 1923 باعتباره غير صالح للتطبيق" (13).

 

كان تصريح السير هور القشة التي قصمت ظهر البعير وأكّدت أن النفوذ البريطاني ما زال يتدخل في كل شؤون مصر الداخلية، غير أن الأحزاب السياسية التي كان من المفترض أن تقوم بدورها تجاه هذا الأمر انشغلت بصراعاتها وراح كل منها يزاحم الآخر في تصدر الحركة السياسية، وسعى كل منها أيضا لجذب الطلبة إلى جانبه (14).

 undefined

 

وتحول السخط الوطني المتراكم إلى انتفاضة كبرى، وأخذ طلبة الجامعة زمام المبادرة فعقدوا اجتماعا داخل حرم الجامعة بالجيزة في ذكرى عيد الجهاد (13 (نوفمبر/تشرين الثاني)) أدانوا فيه موقف بريطانيا "ثم خرجوا من الجامعة في مظاهرة كبرى سلمية فتصدى لهم البوليس طالبا منهم الانفضاض، وعندما رفضوا ذلك أطلق البوليس النار عليهم فأصيب طالبان إصابة خطيرة وأصيب عدد آخر منهم بإصابات طفيفة، مع ذلك استمروا يهتفون بحياة مصر وحياة الاستقلال وحياة دستور الأمة، وفي اليوم التالي (14 (نوفمبر/تشرين الثاني)) أعاد طلبة الجامعة تنظيم صفوفهم وخرجوا في مظاهرة كبرى صوب القاهرة" (14).
 

غير أن الشرطة كانت قد حشدت قواتها للحيلولة دون زحفهم إلى وسط القاهرة، فحاصرت نحو ثلاثمئة طالب من المتظاهرين فوق كوبري عباس وأطلقت عليهم النار، فقُتل طالب الزراعة محمد عبد المجيد مرسي، وجُرح طالب الآداب محمد عبد الحكم الجراحي جرحا بالغا مات على أثره في اليوم التالي، وأُلقي القبض على عدد من الطلاب، وأصدرت إدارة الجامعة قرارا بتعطيل الدراسة لمدة عشرة أيام تحاشيا لتطور الموقف ولكن دون جدوى، فقد استمر مجلس اتحاد طلاب الجامعة يقود الحركة وينظمها، فأرسل اتحاد الطلبة برقية احتجاج إلى عصبة الأمم على تصريح وزير الخارجية البريطاني وعلى اعتداء الشرطة بقيادة الضباط الإنجليز على الطلبة وأعلنوا عزمهم على متابعة الجهاد حتى يتحقق الاستقلال (14).

  

بيد أن جهود الطلبة لم تقتصر على الاحتجاجات والحشود، بل نظموا حركتهم من خلال تكوين لجنة أطلقوا عليها اسم "اللجنة العليا للطلبة" انبثقت منها لجان أخرى لتوجيه الدعاية الإعلامية لحركة وتعبئة الرأي العام وراءها والاتصال بالسياسيين والأحزاب مع الحرص الشديد على استقلال حركتهم عن الأحزاب السياسية (14)، وراحوا يطوفون على زعماء الأحزاب السياسية يدعونهم إلى تكوين جبهة وطنية متحدة لإنقاذ البلاد، ففي 21 (نوفمبر/تشرين الثاني) أصدرت "اللجنة العليا للطلبة" بيانا ناشدت فيه جميع الهيئات السياسية الوقوف جبهة واحدة في وجه العدو الغاصب للمطالبة بالاستقلال التام لمصر والسودان والتمسك بدستور 1923 (14). حيث يقول المؤرخ الأميركي دونالد مالكوم ريد: "بدأت مظاهرات الاحتجاج في الجامعة المصرية، وأصبح على ساسة الأمة أن يسارعوا للحاق بها، ولم تكن القاهرة قد شهدت ما يشبه هذا منذ ثورة 19" (15).
 

اللجنة الوطنية العليا للطلبة والعمال وانتفاضة عام 46

 
كان صيف عام 1945 على الصعيد السياسي حارا كحرارة الطقس ذاته، فالحرب العالمية الثانية انتهت رسميا، "والحركة الوطنية المصرية تنتظر أن تتجاوب بريطانيا مع مطالبها بعد ما قدمت مصر من خدمات للحلفاء أثناء الحرب" (16)
ومع بداية العام الدراسي الجامعي 1945-1946 وجد الطلبة أنفسهم منخرطين في العمل السياسي بكل أنواعه، فقد دعا الطلاب اليساريون إلى عقد مؤتمر عام في 7 (أكتوبر/تشرين الأول) لمناقشة المواقف الطلابية إزاء المسألة الوطنية، وفي اليوم السابق على المؤتمر عقد الإخوان المسلمون اجتماعا قدموا من خلاله مذكرة إلى الحكومة باسم "أرض مصر الخضراء" طرحوا فيه آراءهم في القضية الوطنية، وأشار الإخوان إلى أن هذا الاجتماع حضره حوالي ستة آلاف طالب (16).

 
بعد ذلك بأسابيع قليلة أعلن عدد من الطلاب الإضراب تضامنا مع عرب فلسطين في ذكرى وعد بلفور (16)، وفي (ديسمبر/كانون الأول) عقد اجتماع ضم ممثلي كل من التكتلات الحركة الطلابية في محاولة لتوحيد الحركة. وعندما جاء يوم التاسع من (فبراير/شباط) 1946 اندفع آلاف الطلاب من المدارس الثانوية بالقاهرة إلى الحرم الجامعي، حيث كان هناك حشد ضخم من الطلاب يستعدون للخروج في مسيرة للمطالبة بإلغاء معاهدة 1936 والمطالبة بالاستقلال التام (16).

 
وخرجت مظاهرة كبرى من الجامعة تطالب بالاستقلال التام عن التاج البريطاني، وحاولت كالمعتاد عبور كوبري عباس تمهيدا للنزول إلى وسط المدينة، وهنا ستحدث حادثة كوبري عباس الشهيرة، حيث سيأمر قائد الشرطة بفتح الكوبري على الطلاب (17)وبعد عدة تظاهرات أخرى سقطت حكومة النقراشي على إثر ذلك الحادث، وفي 15 (فبراير/شباط) تم تعيين وزارة جديدة برئاسة إسماعيل صدقي، وكان صدقي حينها رئيسا لاتحاد الصناعات ومكروها من تجمعات سياسية متعددة وواسعة النطاق بسبب إلغائه الشهير لدستور 1923.

 
في تلك الفترة ستأخذ الحركة الطلابية خطوة في منتهى الخطورة، وحسب عدة مؤرخين (18) ستكون تلك الخطوة وتوابعها أخطر تهديد للنظام الملكي في مصر وبداية سقوطه، حيث شهدت الفترة 17-19 (فبراير/شباط) أول محاولة جادة للتنسيق بين حركة الطلاب وحركة الطبقة العاملة، وتشكّلت في تلك الأثناء جبهة مشتركة بين العمال والطلاب وهي "اللجنة الوطنية للعمال والطلبة" التي أصبحت أبرز اللجان الطلابية قاطبة. وسرعان ما دعت اللجنة الوطنية للعمال والطلبة إلى إعلان الخميس 21 (فبراير/شباط) سنة 1946 يوما للجلاء، كما دعت إلى الإضراب العام (18)، وحسب ما يحكيه الدكتور أحمد عبدالله رزة كانت الاستجابة لتلك الدعوة كبيرة، إذ خرجت مظاهرات ضخمة في العديد من المدن خاصة القاهرة.

 

أحمد عبدالله رزة (1950-2006)  (مواقع التواصل)
أحمد عبدالله رزة (1950-2006)  (مواقع التواصل)

 

وخرجت جموع من المتظاهرين في مظاهرات عارمة تطالب بجلاء الإنجليز وسقوط وزارة صدقي ينشدون:

ياشعب قم خُض بحار الدماء

لا تبك فالآن وقت الفداء

هيا نحطم قيود الخضوع

هيا سويا لنيل الجلاء

ونجحوا في يوم 21 (فبراير/شباط) في عبور كوبري عباس ووصلوا إلى ميدان الإسماعيلية (التحرير حاليا) حيث معسكرات الجيش الإنجليزي التي فتحت النار على الطلاب وأحدثت مجزرة كبرى، حيث عم الغضب بعدها في مصر، وانتشر الخبر في مختلف الجامعات، مما أحدث ضغطا دوليا على بريطانيا فاضطرت الحكومة البريطانية إلى اتخاذ بعض الإجراءات لتهدئة الأمور والحيلولة دون تصاعدها في مصر (19).

 
وكان من أهم هذه الإجراءات استدعاء السفير البريطاني من مصر، كما أصدرت بريطانيا قرارا بسحب قواتها من القاهرة والدلتا إلى منطقة القناة حتى لا تصطدم هذه القوات مع الطلاب، ولأن منظر المعسكرات البريطانية في قلب القاهرة والدلتا كان يستفز مشاعر المصريين (19).

الانتصار الذي سرقه انقلاب الجيش

يا أخي تنعم الكلاب لدى القوم  ***  ونشقى فيا لها من مضحكات

أطلق الثورة التي تسكر الصدر ***  وجفّف دموعك الماضيات

هي حرب الحياة، فإما حياة *** وإما ممات يكن معنى الحياة

(من قصيدة الشاعر كمال عبد الحليم)

 
بعدما انتصر تحالف الطلبة والعمال بانتفاضة 1946 وسحبت بريطانيا قواتها من القاهرة والدلتا إلى منطقة القناة استمر الحراك الطلابي رغم التضييقات والاعتقالات، وشهد (أكتوبر/تشرين الأول) 1951 تصعيدا جديدا في النشاط الطلابي فوقع على الأقل خمسة عشر إضرابا. وفي (ديسمبر/كانون الأول) أُنشئت تسع وثلاثون لجنة وطنية طلابية بالقاهرة، وعُقد اجتماعان موسعان في مقر الإخوان المسلمين وفي الجامعة، وأصدر مؤتمر طلابي ميثاقا وطنيا بـ "دعوة الشعب إلى الكفاح المسلح" (20).

 

سرعان ما انقلب كل شيء رأسا على عقب في عام 1954، حيث تحوّلت آمال الطلاب ومطالبهم إلى كابوس قمعي استبدادي ينفخ في بوقه جمال عبد الناصر، وتم قمع كل حركات الاحتجاج الشعبي والعمالي بالقوة
سرعان ما انقلب كل شيء رأسا على عقب في عام 1954، حيث تحوّلت آمال الطلاب ومطالبهم إلى كابوس قمعي استبدادي ينفخ في بوقه جمال عبد الناصر، وتم قمع كل حركات الاحتجاج الشعبي والعمالي بالقوة
 

وتحولت الجامعة نفسها إلى معسكر تدريب عسكري يتلقى فيه نحو عشرة آلاف طالب تدريباتهم، وقام الإخوان المسلمون حسب الدكتور أحمد عبد الله (20) بتوفير السلاح بالإضافة إلى إرسال الكتيبة الأولى من فدائي الجامعة "التي ذهبت إلى منطقة القناة في 9 (نوفمبر/تشرين الثاني) 1951، وساهم الطلاب من كل التيارات السياسية في الأعمال الفدائية جنبا إلى جنب مع غيرهم من فلاحي منطقة القنال والعمال والمثقفين ومجموعة من صغار الضباط الذين تطوعوا لتدريب الفدائيين على استخدام السلاح" (20).

 
وحينما كانت جبهة القتال مشتعلة في منطقة القناة كانت شتى أرجاء البلاد تعمّها مظاهرات عارمة (20) خاصة في (ديسمبر/كانون الأول) 1951 و(يناير/كانون الثاني) 1952. "وتحولت جنازة الطالب عمر شاهين عضو الإخوان في 14 (يناير/كانون الثاني) إلى مظاهرة حاشدة لم يكن الشهيد فيها رمزا فقط على احتلال أجنبي وحشي وربما أيضا خيانة وطنية مزرية على حد تعبير ريتشارد ميتشل" (20).

 
وبعد حريق القاهرة في 26 (يناير/كانون الثاني) 1952 استقالت حكومة الوفد، ثم جاء موسم الامتحانات الدراسية فأعادت الهدوء لفترة، وفجأة انهار النظام في 23 (يوليو/تموز) 1952 بانقلاب الجيش على الملك فاروق. بيد أن مجموعة الضباط الذين سيطروا على مقاليد الحكم بالقوة والذين عُرفوا بالضباط الأحرار لم يكونوا بعيدين عن الحركة الطلابية، "فالعديد منهم اكتسب وعيه السياسي في فترة دراسته الثانوية، وكانت هناك صلات غير مباشرة بين الضباط والطلبة عبر التنظيمات الناشئة" (20) فجاء برنامجهم السياسي متوافقا مع مطالب الطلبة.

 
لكن سرعان ما انقلب كل شيء رأسا على عقب في عام 1954، حيث تحوّلت آمال الطلاب ومطالبهم إلى كابوس قمعي استبدادي ينفخ في بوقه جمال عبد الناصر، وتم قمع كل حركات الاحتجاج الشعبي والعمالي بالقوة، وسبح الشعب في أحلام القائد الزعيم حتى استيقظ على هزيمة 1967 المخزية، في تلك اللحظة سيعود مارد الحركة الطلابية ويخرج من مصباحه السحري، وستغير انتفاضتا 1968 موازين السياسة في مصر. لكن المعادلة التي تحققت في 1946 باتحاد الطلبة والعمال ستأخذ وقتا لتعود مرة أخرى للساحة السياسية، ففي عام 1977 وبعد انتفاضة 46 بحوالي ثلاثين عاما ستخرج انتفاضة أخرى تُوشك أن تطيح بنظام الحكم في مصر.

المصدر : الجزيرة