شعار قسم ميدان

الحداثة السياسية بالديار الإسلامية.. قراءة في التجربتين الإيرانية والمصرية

midan - سياسة

ما إن بدأت "الحداثة المنتصرة" -بحسب تعبير السوسيولوجي الفرنسي آلان تورين- بالتمدد والتوسع خارج نطاقها الجغرافي الأوروبي في القرن الثامن عشر، حتى أخذت بإعادة تشكيل المجتمعات والنظم السياسية في المناطق التي استعمرتها وفقا للنماذج الأوروبية الحديثة، وسرعان ما أنتجت تلك المجتمعات المحلية ردود أفعال خاصة بها حيال هذا الغزو الأوروبي. وقد أخذت ردود الأفعال هذه صيغتين/شكلين رئيسين هما: المقاومة من جهة، والتكيف من خلال استيراد أفكار الحداثة نفسها وتحديث النظم السياسية من جهة أخرى، وقد أسهمت كلا الصيغتين بصورة مباشرة في بلورة وخلق النموذج الحداثي لكل دولة على حدة[1].
 

في العالم الإسلامي، ومنذ مطالع القرن التاسع عشر، بذل المسلمون جهودا هائلة في مجال التصدي للغزو الأوروبي، وفي سبيل الحفاظ على وحدتهم ودولتهم، وكذلك بغية استحداث البدائل التي "تعينهم على تجاوز المشكلات والصعوبات التي أثارها الغزو النابليوني للعالم الإسلامي. وأول وأقدم ما يمكن ذكره في هذا الصدد المحاولة التحديثية الضخمة للحاق بأوروبا من النواحي التكنولوجية، ثم التنظيمية والإدارية التي قادها محمد علي باشا في مصر"[2]، وكذلك التجربة التحديثية الإيرانية التي تجاوز عمرها الآن قرابة القرن ونصف من الزمن.

  

إن تتبع مسارات التحديث السياسي في العالم الإسلامي، ورصد ردود أفعال النخب الدينية والسياسية على تلكم المسارات، يعيننا على فهم المآلات التي آلت إليها هذه التجربة أو تلك، ومن هنا تأتي أهمية الدراسة التي تناولها الدكتور رضوان السيد في كتابه "العرب والإيرانيون والعلاقات العربية-الإيرانية في الزمن الحاضر" والتي قدم فيها عرضا مقارنا لمسار التحديث السياسي في كل من إيران ومصر خلال مئة عام، راصدا ردود أفعال النخب الدينية والسياسية على تلكم المسارات والمآلات التي أفضت إليها كل تجربة.

  

في دوافع الإصلاح السياسي: بين الإمبراطورية العثمانية وإيران
الجيش الفرنسي إبان اقتحامه القاهرة (مواقع التواصل )
الجيش الفرنسي إبان اقتحامه القاهرة (مواقع التواصل )

 
من المسلّم به تاريخيا أن التجربة التحديثية العثمانية بدأت في مستهل القرن التاسع عشر، وقد حفزت هذه التجربة الهزائم التي مُني بها الجيش العثماني أمام القوى الغربية، وتفاقم أوضاع الجيش، وضعف الإمبراطورية العثمانية وترهلها، الأمر الذي استدعى القيام بإصلاحات جذرية في جسد الدولة، بدءا من مؤسسة الجيش التي جرى إعادة بنائها على النمط العسكري الحديث ذي البنية الهرمية التراتبية، ووصولا إلى النظم السياسية والتنظيمات الإدارية، وانتهاء بالمنظومات الفكرية والقيمية[2]!
 

بطبيعة الحال، فقد أدت هذه الإصلاحات إلى "ظهور بيروقراطية جديدة، ونخب جديدة من الضباط والموظفين، والتجار والأعيان والمثقفين، من سائر شعوب الإمبراطورية المترامية الأطراف. وقد بدأت تلك النخب تطالب بالمشاركة بالسلطة أو تدعو إلى لامركزية قوية ضمن الإمبراطورية أو تطالب بالاستقلال"[3]، الأمر الذي اضطر الإمبراطورية العثمانية إلى الاستجابة لتلك المطالب عبر إنشاء مجلس المبعوثان (البرلمان العثماني) والذي يتيح لتلك النخب المحلية المشاركة في السلطة مع السلطة المركزية العثمانية.
  

وهكذا إذًا فقد جاء الإصلاح السياسي ممثلا بإقامة نظام دستوري برلماني في السياق العثماني نتيجة لعدة متطلبات، أبرزها: "الحفاظ على وحدة الإمبراطورية المترامية الأطراف عن طريق تساوي الجميع أمام قانون واحد، وإشراك سائر الشعوب والجماعات المكوّنة للإمبراطورية في الإدارة والبرلمان، وإعطاء الولايات والنواحي سلطات تنفيذية تحقق لها فعالية وذاتية مرضية ضمن الإطار الواسع للكيان التاريخي العثماني"[3].
 

بينما، وعلى النقيض من ذلك، كانت إيران أقرب إلى الكيان القومي منه إلى الإمبراطورية كحال الدولة العثمانية، وذلك على الرغم من وجود أقليات عديدة فيها كالتركمان والعرب وغيرهم، لكن المكون الفارسي ظل يمثل الأكثرية المطلقة هناك، ما جعلها تواجه إشكالات مختلفة تماما عن تلك التي واجهها رجالات الدولة العثمانية!
  

مجلس المبعوثان العثماني 1908 (مواقع التواصل )
مجلس المبعوثان العثماني 1908 (مواقع التواصل )

 
في مطلع القرن التاسع عشر وقعت إيران تحت نفوذ قوتين استعماريتين عظميين، هما: الإمبراطورية الروسية والبريطانية، وقد امتلكت هاتان القوتان سلطات واسعة على مقدرات البلد وقرارها السياسي، الأمر الذي أغضب النخب السياسية وعمّق لديها حسها الوطني القومي، ومن هنا أخذت هذه النخب بالمطالبة بتقوية الدولة الوطنية، واستقلال قرارها السياسي، والحد من النفوذ الأجنبي الذي ساهم فيه فساد الأسرة القاجارية الحاكمة[4].
 

وهكذا فقد تبين للنخب السياسية الإيرانية أن الوصول إلى الاستقلال السياسي والتخلص من النفوذ الأجنبي لا يمكن تحقيقهما إلا بالحكم الدستوري والنظام البرلماني، ومن هنا فقد كانت المطالبة بالحكم الدستوري البرلماني شأنا قوميا خالصا للتخلص من النفوذ الأجنبي في إيران، بينما كانت ضرورة للحفاظ على وحدة الكيان التاريخي العثماني مع منح الشعوب والجماعات الإثنية المكونة لجسد الإمبراطورية حقها في المشاركة والتمثيل السياسي[3].
 

في التجربة البرلمانية في كل من إيران ومصر

ما إن تغلغل الاستعمار الأوروبي باقتصادياته وعسكره في قلب العالم الإسلامي في مطلع القرن التاسع عشر حتى ظهرت حركة تجدد شاملة في شتى مناحي الحياة، وقد جاءت التجربة البرلمانية الدستورية وتحديث النظام السياسي على رأس مظاهر التجدد هذه، وعليها عوّل الإصلاحيون الكبار -كرفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي من الجانب العثماني، والسيد محمد الطبطبائي من الجانب الإيراني- في مواجهة التحديات التي أفرزها التفوق الغربي.

إن القراءة التاريخية لصيرورة تشكّل النظام السياسي في السياقين الإيراني والمصري -والتي كانت جزءا من السياق العثماني الأوسع- يعيننا على فهم أوجه التقاطع والافتراق بين التجربتين، والمآلات التي انتهت إليها كل منهما، كما أنه يعيننا على فهم الظروف الاجتماعية والسياسية التي أحاطت بكل تجربة.

أولا: في التجربة البرلمانية الإيرانية

تعود جذور التجربة الدستورية في إيران إلى الربع الأخير من القرن التاسع عشر، الذي شهد حراكا اجتماعيا وسياسيا ذا طابع سري، وذلك على خلفية "اختراق الغرب التدريجي للبلاد، فقد أدى هذا الاختراق إلى إضعاف الروابط الضعيفة أصلا بين قصر القاجار والمجتمع الأوسع"[4]. وقد أدى هذا الاختراق إلى تلك النتيجة عبر إحلال الروابط الاقتصادية مع القوى الاستعمارية محل الروابط الاقتصادية مع القوى المحلية، الأمر الذي نتج عنه تضرر شرائح واسعة من المجتمع الإيراني على رأسها النخب التجارية.
  

سرعان ما شكّلت تلك النخب المتضررة من التغلغل الأجنبي جمعيات سرية شأنهم في ذلك شأن أقرانهم في إسطنبول والقاهرة، وقد كانت هذه النخب "شديدة التذمر من الإدارة الأجنبية للضرائب والرسوم، وفوضى الجيش، وإسراف الشاه في رحلاته وديونه، ومظالم وإجراءات حاكم طهران"[3]. وقد أدركت هذه النخب مدى فاعليتها وقدرتها على التغيير خاصة بعد ثورة التنباك والتي استطاعت إسقاط الامتياز الذي منحه الشاه ناصر الدين لشركة بريطانية في بيع وشراء التبغ الإيراني!
 

الشاه ناصر الدين قاجار (مواقع التواصل)
الشاه ناصر الدين قاجار (مواقع التواصل)

 
أخذت هذه الجمعيات بالتنسيق فيما بينها، وشكّلت بذلك حراكا واسعا في مطلع القرن العشرين، وقد جاءت مطالبها: بعزل مدير الضرائب البلجيكي جوزيف ناوس، إضافة إلى عزل حاكم طهران. لكن الشاه واجه هذه المطالب بالرفض والتعنت، ما أدى إلى تصاعد الحراك السياسي ورفع سقف المطالب من المحتجين، حيث أضافوا إلى مطالبهم الأولى إنشاء مجلس للعدل.
 

مهدت هذه الاحتجاجات الطريق أمام "احتجاجين رئيسين أديا بدورهما إلى تمهيد الطريق أمام وضع أول مسودة لدستور مكتوب، ففي (يونيو/حزيران) 1906، قاد كل من السيد عبد الله بهبهائي والسيد محمد الطبطبائي -وهما اثنان من الثلاثة المجتهدين الأكثر احتراما في طهران- موكبا من نحو ألف من طلاب الحوزة للالتجاء إلى قم. وهناك انضم إليهما السيد فضل الله نوري ثالث المجتهدين الكبار، وقد هدد الثلاثة بالتحرك بالجميع إلى كربلاء والنجف، وبذلك يحرمون البلاد من الخدمات الدينية إلا إذا استجاب الشاه لمطالب المحتجين، وباختصار فقد كان العلماء يهددون بالإضراب، وقد تندرت مظاهرات النساء بأنه إذا استمرت الأزمة فسيتعين على السيد ناوس أن يعقد عقود الزواج!"[4].
 

وبمرور الوقت، أضيف إلى المطالب مطلب إنشاء دستور مكتوب يقوم بصياغته مجلس وطني منتخب "مجلس ملي"، وتحت الضغط والاحتجاج المتواصل استجاب الشاه أخيرا لتلك المطالب خاصة بعد التلويح والتهديد بحدوث انشقاق في سلاح الفرسان، "وفي الخامس من (أغسطس/آب) 1906 وقّع الشاه الإعلان الملكي بإجراء انتخابات عامة على المستوى الوطني لمجلس تأسيسي، وقد استمر الاحتفال في الخامس من (أغسطس/آب) بوصفه يوم الدستور"[4].
 

عمل المجلس بنشاط بين عامي 1906 و1913، فقد قام بإصدار وثيقة الدستور والذي سمي بالمشروطية وذلك لكونه قد حدّ كثيرا من سلطات الشاه عبر إقامة نظام ملكي دستوري يقوم على الفصل التقليدي بين السلطات الثلاث، كما أنه قام "بإعادة تنظيم الجيش، وإصلاح الشأن المالي، وإصدار قوانين تنظم الملكية الزراعية، واستطاع بالدعم الشعبي الذي أحاط به أن يفشل محاولتين للشاه محمد علي من استعادة الملك المطلق، إلى أن تمكن أخيرا من هزيمته عسكريا وإرغامه على مغادرة البلاد إلى روسيا"[3].
  

في الوسط الشاه محمد على قاجار (مواقع التواصل)
في الوسط الشاه محمد على قاجار (مواقع التواصل)

 
بيد أن الإنجاز الأهم الذي حققه المجلس كان بإطلاقه الحياة السياسية وتشجيعه لقيام الأحزاب، وفي عام 1907 -نفس العام الذي شهد ميلاد أول حزب سياسي في مصر- ظهر أول حزبين سياسيين في إيران، وهما الاعتداليون والديمقراطيون بحسب د. رضوان السيد، أو المعتدلون والليبراليون بحسب أروند إبراهيميان في كتابه "تاريخ إيران الحديث"، وقد ضم الحزب المعتدل القوى المحافظة من رجال الدين وكبار الملاك، بينما ضم الحزب الديمقراطي/الليبرالي الانتلجنسيا الحديثة من كتّاب وصحفيين وبعض عناصر الطبقة الوسطى الحديثة.
 

 لكن ما إن اندلعت الحرب الكبرى عام 1914 حتى دخلت البلاد في فوضى عارمة أفقدت المجلس قدرته على تسيير شؤون البلاد، "وذلك على الرغم من إعلان طهران وقوفها على الحياد في الحرب العالمية الأولى، إلا أنها سرعان ما أصبحت ساحة معارك للقوى الكبرى"[4]، ومع نهاية الحرب التي حملت انتصار بريطانيا، وظهور الاتحاد السوفييتي، غدت إيران بؤرة للصراع البريطاني/السوفييتي، وبحلول عام 1920 باتت إيران دولة فاشلة بالمفهوم الكلاسيكي، حيث كانت مقطعة الأوصال بين النفوذين البريطاني والسوفييتي، وهو ما سيفتح المجال أمام ظهور الجنرال القوي رضا خان الذي سيقضي على هذه الفوضى وينهي التجربة النيابية في إيران في نفس الوقت!
 

صعود الشاه رضا بهلوي ونهاية التجربة البرلمانية في إيران

"هناك مكان لشاه واحد في إيران، وأنا سأكون هذا الشاه"

(الشاه رضا بهلوي) 


undefined

 
في الساعات الأولى من يوم 21 (فبراير/شباط) 1921 استولى الجنرال رضا خان بهلوي، قائد محمية لواء القوزاق في قزوين، على العاصمة طهران بثلاثة آلاف رجل و18 مدفع رشاش فقط، وخلال الساعات الأولى من انقلابه، "أعلن الجنرال رضا خان الأحكام العرفية، وانتصر على الجندرمة المحلية، وأكد للشاه أحمد أنه قد أتى لإنقاذه من البلاشفة"[4]، ولكن بعد أقل من 4 سنوات سيقوم بعزله وتنصيب نفسه شاها لإيران في عام 1925!
 

مثّل صعود الجنرال القوي رضا بهلوي إلى سدة العرش ضربة قاصمة للحياة البرلمانية في إيران، ففي ظل الفوضى التي سادت في إيران آنذاك، أخذ الشاه بمراكمة السلطة لإعادة بناء دولة مركزية، وقد "قاد الشاه رضا البلاد مندفعا بقوة نحو هذا الهدف ساحقا في طريقه كل معارضة سواء من اليمين أو اليسار، من المركز أو من الأطراف، من الأعيان الأرستقراطيين أو من النخب ونقابات العمال حديثة النشأة"[4]. وطوال فترة حكمه كان الشاه ممسكا بتلابيب السلطة بصورة محكمة جعلت من استعادة التجربة البرلمانية بفاعليتها القديمة أمرا بعيد المنال.
 

في منتصف الستينيات بات النشاط المعارض سريا برمته، وغلب عليه الطابع الراديكالي وبرزت شخصية الإمام الخميني الذي ستجتمع حوله المعارضة بشقيها القومي والديني وسيقود الثورة الإيرانية عام 1978

وبعزل الشاه رضا من قِبل بريطانيا عام 1941، بسبب اتهامه بالانحياز إلى ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، وخلافة ابنه محمد رضا له، والذي كان ضعيفا وعديم الخبرة آنذاك، استعادت الحياة السياسية والتجربة البرلمانية فاعليتها، فبرز حزب توده الشيوعي، والجبهة الوطنية التي تجمعت حول الزعيم البرلماني محمد مصدق، والذي حظي كذلك بتأييد عدد من رجال الدين أبرزهم آية الله السيد أبو القاسم كاشاني. قاد مصدق معركتين مهمتين ضد الشاه وهما: المطالبة بملكية دستورية، وتأميم النفط، وقد استطاع مصدق الظفر بالمعركتين معا، لكن مخاوف الجيش من البرامج الإصلاحية الجذرية لمصدق، أدى -بالإضافة إلى اشتراك المخابرات الأميركية- إلى الانقلاب على الرجل عام 1953، وإعادة الأمور إلى ما كانت عليه في عهد الشاه رضا بهلوي[3].
 

انتهت الحياة الحزبية في إيران وتجربتها البرلمانية بنفس العام الذي انتهت فيه بمصر تقريبا 1953، ولم يبدُ أن ثمة إمكانية لاستعادتها في أي من البلدين، ويرجع ذلك إلى عاملين اثنين: الأول خارجي متمثل في أجواء الحرب الباردة بين السوفييت والغرب، والتي ساهمت في تصعيد قوى عسكرية موالية لأي من المعسكرين كما جرى في إيران، والثاني داخلي متمثل في "ضعف القوى البرجوازية الحاملة للتجربة الدستورية في كلا البلدين"[3].
 

لكن عودة الشاه إلى السلطة بهذه الطريقة مستعينا بالمخابرات الأميركية والجيش سيفتح الطريق أمام محاولات المعارضة لتنظيم نفسها من جديد أواخر الخمسينيات لكنها ووجهت بقمع وبطش شديدين، وفي منتصف الستينيات بات النشاط المعارض سريا برمته، وغلب عليه الطابع الراديكالي: كنشاط حزب توده واليسار الجديد، والأهم من ذلك بروز شخصية الإمام الخميني الذي ستجتمع حوله المعارضة بشقيها القومي والديني وسيقود الثورة الإيرانية عام 1978
 

في التجربة البرلمانية المصرية

تعود التجربة البرلمانية المصرية إلى عصر الخديوي إسماعيل الذي شهد عصره إنفاقا ماليا ضخما وهدرا في الخزينة العامة، ما جعله يواجه ضغوطات محلية وخارجية من قِبل الإنجليز، فقام في الثاني والعشرين من (أكتوبر/تشرين الأول) عام 1866 بإنشاء أول مجلس نيابي تمثيلي في مصر، وهو مجلس "شورى النواب"، آملا أن تساهم هذه الخطوة في تخفيف الضغوطات الخارجية عليه بحيث يبدو وكأنه يقوم ببناء دولة عصرية على النمط الغربي من جهة، وكذلك بتخفيف الضغوطات الداخلية عليه القادمة من الأعيان، فقام بحصر عضوية المجلس على طبقة كبار ملاك الأراضي[5].

 

الخديوي إسماعيل (مواقع التواصل)
الخديوي إسماعيل (مواقع التواصل)

 
وعلى الرغم من أن المجلس ظهر في بداياته مثيرا للسخرية، حيث كان ظهوره "مرتبطا بأبهة الخديوي من جهة، وبرغبته في إشراك الأعيان في مشاكله المالية من جهة ثانية، ومن ناحية ثالثة فإن المجلس أُنشِئ لذر الرماد في عيون أوروبا وإيهامها بأن مصر تحكم حكما نيابيا، إلا أن ظهوره مثّل خطوة هامة على طريق بناء التجربة البرلمانية، كما أنه يُعد من أهم المتغيرات التي ساعدت على تجديد دماء الحركة الوطنية المصرية في القرنين التاسع عشر والعشرين"[6].
  

سرعان ما سيحوز المجلس على صلاحيات أوسع وذلك في خضم صراع الخديوي إسماعيل مع المستشارين الأجانب، "رجاء أن تدعمه هذه الخطوة أمام القوى الأوروبية الدائنة والمتنفذة في مصر"[6]، لكن خطواته تلك لم تسعفه في حفظ منصبه، حيث "قام الإنجليز بالتعاون مع العثمانيين -أصحاب السيادة الاسمية على مصر- بعزل الخديوي إسماعيل عام 1879 والإتيان بابنه توفيق مكانه".
 

وفي تلك المرحلة التي استفحل فيها النفوذ الأجنبي أخذت القوى المعارضة تنتظم في جمعيات سرية، حيث ظهرت جمعية مصر الفتاة عام 1879 والتي كان لجمال الدين الأفغاني دور في تأسيسها، كما ظهرت الجمعية الخيرية الإسلامية، بالإضافة إلى ظهور قوى معارضة من طبقة موظفي الدولة وضباط الجيش ذوي الأصول الفلاحية، وقد كان على رأسهم أحمد عرابي الذي سيقود ثورة 1882 فيما بعد[7].
 

في هذه الأثناء التي كانت البلاد تشهد مرحلة حراك اجتماعي وسياسي، اقتنص المجلس الفرصة فقام بتوسيع صلاحياته ومساءلة الحكومة، وأصر على مسؤوليتها أمامه، حتى أسفرت جهوده عن استقالة الوزارة، كما أصرّ المجلس على "إبعاد ما يختص بالدين والضرائب من أيدي الأجانب، وتكليف النواب ببحثها، واتخاذ ما يرونه متفقا وَمصلحة مصر لا الأجانب"[7]. وقد واصل المجلس عمله الجاد حتى توصل في عام 1882 إلى فرض ما يشبه أن يكون دستورا على الخديوي توفيق!
 

أحمد عرابي قائد ثورة 1882 (مواقع التواصل)
أحمد عرابي قائد ثورة 1882 (مواقع التواصل)

 
لكن التدخل الإنجليزي الذي أخمد الثورة العرابية قضى على الحياة النيابية وقام بتعطيل الدستور، منشئا مجالس وهيئات صورية تحت السلطة الاستعمارية ما كان لها من الأمر شيء، وقد استمر الحال على هذا المنوال حتى اشتد الصراع بين الخديوي عباس الثاني والمندوب السامي البريطاني مطلع القرن العشرين، وهو ما أتاح للحركة الوطنية مساحة للتحرك استغلها مصطفى كامل في الخروج من إطار العمل السري إلى إعلان إنشاء الحزب الوطني عام 1907[3].
 

ترافق ذلك مع الإعلان عن إنشاء حزبين آخرين هما: حزب الأمة وحزب الإصلاح على المبادئ الدستورية في العام نفسه، وكما في إيران، "فقد اعتُبِر حزب الأمة حزب كبار الملاك والموظفين الموالين للإنجليز، بينما كان الحزب الوطني الحزب الذي انضوت تحته الانتلجنسيا الحديثة والطبقات الوسطى وصغار موظفي الدولة"[3]، لكن فعالية العمل الحزبي سرعان ما تقلصت بعد تفاهم الخديوي مع المندوب السامي الجديد.
 

وكما حدث في إيران، فقد جلبت الحرب الكبرى معها الفوضى وقانون الطوارئ وإعلان الأحكام العرفية، والسيطرة البريطانية على كامل الرقعة الجغرافية المصرية، حيث أصبحت السلطة بأيدي الجنرال ماكسويل القائد العام للقوات البريطانية في مصر، وتبع إعلان هذه القرارات "مجموعة من التدابير القمعية، بإلقاء بضعة آلاف من رجال الحركة الوطنية في السجون، أو إلقائهم في معسكرات التجميع، أو نفيهم إلى الواحات النائية أو مالطا"[7].
  

ما بعد الحرب الأولى: المرحلة الليبرالية المصرية

على النقيض مما جرى في إيران والتي شهدت صعود الرجل القوي رضا بهلوي إلى السلطة عقب الحرب العالمية الأولى، فقد أعقبت الحرب الكبرى في مصر مرحلة عُرفت تاريخيا باسم المرحلة الليبرالية، والتي تعود جذورها إلى ثورة 1919 وامتدت حتى منتصف القرن العشرين، وقد اندلعت ثورة 1919 على خلفية منع الوفد المصري برئاسة سعد زغلول من المشاركة في مؤتمر الصلح الذي أعقب الحرب الكبرى لتنظيم عالم ما بعد الحرب، وقد كان من المزمع أن يمثل الوفد الشعب المصري ويقدم مطالبه بالاستقلال وتقرير المصير عملا بمبدأ الحق في تقرير المصير الذي أُقِر دوليا عقب الحرب العالمية الأولى[9].
 

وفي عام 1922 اضطر الإنجليز إلى إنهاء حمايتهم على مصر، والاعتراف بمصر دولة مستقلة ذات سيادة، وبعد عام من هذا الاعتراف صدر دستور عام 1923 والذي كان تدشينا حقيقيا لما عرف بعد ذلك بالحقبة الليبرالية والتي امتدت حتى منتصف القرن العشرين. "فعلى الرغم من ضغوط المحتلين البريطانيين، وتدخلات القصر، وتعطيل الدستور مرارا، واختراع أحزاب موالية للقصر والبريطانيين، استمرت التجربة الدستورية والبرلمانية في مصر حتى العام 1953 حين ألغاه انقلاب (يوليو/تموز) 1952"[3]، وهو ذات العام الذي أُلغيت فيه التجربة الدستورية الإيرانية بانقلاب الشاه المدعوم أميركيا على مصدق.
 

 

على أن الفروق بين التجربتين لا تنحصر بطول عهد التجربة المصرية نسبيا عن التجربة الإيرانية، بل إنها تمتد لتشمل -كما يشير رضوان السيد- عدة فروقات مهمة:

أولا: أن النخب الجديدة في مصر من مثقفين ومحامين وصحفيين وأصحاب رؤوس الأموال كانت "أكثر عددا وأوسع تأثيرا من إيران في مطلع القرن العشرين. وقد لعبت تلك النخب دورا أكبر من الذي لعبته نظيرتها في التجربة الدستورية والبرلمانية الإيرانية"[3].
 

ثانيا: أن النخبة الدينية المصرية "لم تلعب دورا أساسيا في الحركة الوطنية المصرية كالذي لعبته النخبة الدينية الإيرانية. هناك طبعا التأثير غير المباشر لإصلاحية جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وتلامذتهما، لكن ذلك لا يمكن مقارنته بدور المجتهدين والمراجع في الحركة الوطنية الإيرانية، منذ ثورة التنباك 1891 إلى المشاركة الفعالة في حراك 1905"[3]، وبروز دور السيدين البهبهاني والطبطبائي، وصولا إلى الخميني أخيرا".
 

ثالثا: نلحظ في إيران أن الاتجاهين القومي والديني قد توحدا في إطار مشروع معارض للتغلغل الأجنبي من جهة، واستبداد الشاه من جهة أخرى، بينما نجد أن الاتجاهين القومي والإسلامي قد افترقا في مصر على الأقل منذ سقوط الخلافة عام 1924.
 

وأخيرا: قيام "حركات شعبية مؤطرة حزبيا في مصر، وهو أمر لم تعرفه الحياة الحزبية في إيران. فليس هناك حزب إيراني يشبه حزب الوفد، كما أنه ليس هناك حزب إيراني إسلامي يشبه حركة الإخوان المسلمين، من حيث الانضواء الشعبي والاستمرارية"[3].
 

كانت هذه قراءة في الحراك الاجتماعي عند العرب والإيرانيين في العصر الحديث، وقد توخت القراءة التي غلب عليها العرض التاريخي المقارن فهم وجوه التشابه والافتراق بين التجربتين، خاصة وأن ردود الفعل على التدخلات الأجنبية هنا وهناك كانت متشابهة إلى حد كبير، ونتج عنها مطالب إصلاحية متقاربة، وفائدة هذا العرض التاريخي المقارن -كما يقول رضوان السيد- "إظهار أن الصعوبات التي واجهتها التعددية السياسية، والتدخلات الأجنبية، أثّرت سلبا في الهيئات الأهلية التاريخية، وساهمت في خلق دول ذات طابع مركزي جمعي"!