شعار قسم ميدان

الوحوش الضارية (1).. الإسلام السياسي والثورة

midan - الإسلام السياسي
(زمن الوحوش الضارية: بحث في صراعات الخطابات في مصر في سنوات الضباب والثورة والدم) دراسة من إعداد الكاتبان محمد مصطفى وبلال علاء، أتت الدراسة في قسمين عُني الأول منهما بالجانب النظري أو المنهج العلمي الذي اعتمدته الدراسة والقسم الثاني تحدث عن الجانب التطبيقي أو الأمثلة الشارحة والدالة على القسم النظري. نقدم في هذا التقرير عرضاً لأهم ما جاء في هذه الدراسة على جزئين الأول منهما عن خطاب الإسلام السياسي والخطاب المعبر عن الثورة، ويأتي الثاني للحديث عن خطاب الدولة وتشكل نظام 30 يونيو، وتأتي أهمية الدراسة من عنايتها بالدرس والتحليل لخريطة الفاعلين السياسيين في الساحة المصرية السياسية من قبل الثورة وحتى 30 يونيو، معتمدةً في تحليلها على نظريات جديدة الاستخدام في تحليلنا السياسي.

 

صراع الهيمنة
 
"السياسة هى امتداد للحرب ولكن بوسائل أخرى."
– فوكو
 
 (رويترز)
 (رويترز)

بحسب الكاتبان فإن مرحلة الوحوش الضارية -المتصارعة- هي المرحلة التي يقرر فيها أحد أطراف المجتمع المدني أن يزيح أحد أطرافه الأخرى الأكثر أصالة فيه، في هذه الحالة يكون العنف الخالص نفسه موجوداً داخل صلب المجتمع المدني -والذي من المفترض أن يعمل على الحد من العنف!- وتكون غاية هذا العنف هو التمكن من بناء مجتمع مدني جديد يتأسس على حالة الاستثناء -العنف المفرط والمبرر- التي تمارس على الطرف الذي خسر مكانه، لأنطونيو جرامشي عبارة موضحة لهذه الحالة من الصراع فيقول: "القديم ينهار والجديد لم يولد بعد وفي هذه الأثناء تكثر الوحوش الضارية".

 

لكل طرف من أطراف الصراع في المجتمع المدني أنصار وقوة وهي رأس مال هذا الطرف، يمارس بها سلطة وهي الهيمنة والتي من مظاهرها انتشار منتجات وأفكار هذا الطرف خارج دوائر أنصاره الأصلية (شعارات، أزياء، فن…) أنصار وقوة طرفٍ ما بداخل المجتمع المدني هو ما أطلق عليه عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، رأس المال الرمزي أي ما يملكه أحد الأطراف من وسائل مادية ومعنوية للترويج للمشروعية؛ التي تمكنه من استخدام العنف الرمزي والهيمنة على خصومه بحيث يجبرهم على استخدام ألفاظ معينة واحترامها -مثل: الشريعة والشهداء.

أما عن معايير قوة وضعف الهيمنة فبحسب الكاتبان يمكن اعتبار انتشار المظاهر الأيدلوجية لطرفٍ ما خارج دوائره الأصلية من أهم معايير قوة وهيمنة هذا الطرف في مجاله أو حقله؛ بالإضافة إلى تجدد إنتاج المظاهر المعبرة عن رأيه، حتى لا تكون هذه الهيمنة هيمنة تاريخية متآكلة، ويضيف الكاتبان أنه يمكن تحديد اللحظة التي يتراجع فيها تيار ما عن هيمنته، حين يكف عن إنتاج أي منتجات خطابية أصيلة مبدعة مؤسسة ليعيش بالكامل على منتجات سابقة، دون أن يلحظ أن تأثير هذه المنتجات يتضاءل تدريجيا.

 

أما عن نوعيات الهيمنة فتم تقسيمها في الدراسة إلى:

1: هيمنة أيدلوجية صاعدة: تتوافر كل مقوماتها بما فيها إمكانية التحقق الفعلي أو السياسي في المجتمع ولكنها تحتاج إلى الوقت لتراكم رأسمالها الرمزي مثل الحركات الشبابية الثورية.

2: هيمنة أيدلوجية متآكلة: لم تعد الظروف والسياقات الخارجية في صالحها لكنها تملك الكثير من رأس المال الرمزي مثل جماعة الإخوان المسلمين من قبل الثورة حتى لحظة الإعلان الدستوري الذي أصدره محمد مرسي.

3: هيمنة أيدلوجية كامنة: تتوافر مقومات وجودها الخارجية ولكن مع انغلاق أفق التعبير السياسي الذي في حال انفتاحه قد تبرز قوى ممثلة لهذه الهيمنة كفرس رهان أتى من خارج الحلبة تماما.

 

ماهو الخطاب؟ أدوات الصراع
 
"الخطاب هو أنماط تأسيس المعرفة والممارسات الاجتماعية، وأشكال الوعي بالذات والمحيط، وعلاقات السلطة؛ بما ينسجم مع الطريقة التي يتم من خلالها تبني أنماط معرفية دون غيرها."
– فوكو
 
undefined

خطاب طرفٍ ما هو كل ما يشكل وعي وتصور هذا الطرف عن نفسه وعن الآخرين، ولا يقتصر مفهوم الخطاب على "الكلام" الذي يعبر به أحد الأطراف عن نفسه، وإنما يمتد مفهوم الخطاب ليشمل كل المنظومة المعرفية التي تحدد الوعي والتصور. نظراً لهذه الطبيعة غير الصلبة لمفهوم الخطاب؛ فإنه يتسم بالتقاطع مع خطابات أخرى، مثل خطاب جماعة الإخوان المسلمين الذي يتقاطع مع الديني والسياسي، وداخل السياسي يتقاطع مع خطاب الثورة ومع خطاب الدولة حينما كانت الجماعة في الحكم، هذا الوضع المرن يجعل من الممكن القول "إن المجتمع المدني ليس فضاء أجوف، تتحرك فيه الخطابات ككيانات متحدة داخليا ومنعزلة عن بعضها البعض، بل هو وسط ديناميكي تؤثر ظروفه وشروطه الخارجية في الخطابات".

 

ويضيف الكاتبان أنه لا وجود لـ"خطاب خالص" على الإطلاق، الخطابات كلها عبارة عن تقاطعات لخطابات أخرى، فالخطاب الإسلامي كما يمثله الإخوان مثلاً هو بالأساس تقاطعات لخطابات جماعات محافظة ذات رأي معين في الشريعة، مع خطابات تجديد الخطاب الديني على يد الأفغاني ومحمد عبده، والتي هى بدورها (خطاب الأفغاني وعبده) تقاطعات لخطابات أخرى سلفية وتحديثية وردوداً على الاحتلال ومفكريه.

 

الخطابات المتصارعة.. الإسلام السياسي: من هيمنة متآكلة إلى ذاكرة تاريخية
(رويترز)
(رويترز)

اتسم خطاب الإخوان المسلمين بالتوافقية! يقف في الوسط من خطابات كلية مختلفة، يقف وسطاً بين خطاب الدين وخطاب الحداثة، ووسطاً بين خطاب الثورة وخطاب الدولة. بحسب الكاتبان أنتج هذا ما اعتبراه ضعفاً في انتشار المنتجات الأيدولوجية لجماعة الإخوان؛ فعلى الرغم من انتشار الحجاب بين الطبقات المتوسطة وتصاعد الخطاب الديني المحافظ إلا أن الحجاب بصورته الإخوانية (العباءة والخمار الطويل) لم ينتشر أو يخترق الطبقة الوسطى؛ بعكس الحجاب بصورته السلفية (النقاب والإسدال الأسود).

 

موقف الإخوان التوافقي هو ما أهلها بحسب الدراسة لشغل الفراغ الذي مُنِيت به الحركة الاسلامية، مع موجة العنف ضد الجماعة الاسلامية في التسعينات، "قدمت الجماعة نفسها كبديل يمكنه أن يحارب عنف الجماعة الإسلامية ويمثل الإسلام بشكل غير تصادمي". وهو الأمر الذي حَتّم على الجماعة، خفض نبرة الديني في خطابها في مقابل الحداثي -يكمل الكاتبان- وهو ما ساهم في زيادة خسارة الإخوان لبعضٍ من رأسمالهم في المجال الديني.

 

هكذا أخذ خطاب الإخوان المسلمين في الضعف والانحسار حتى لحظة الثورة، والتي رآها البعض اكتمالاً لمشهد التمكين للإسلاميين، الذين أثبتوا قوة خطابهم في كل استحقاق انتخابي فيما بعد. إلا أن الإسلاميين عموماً لم يقدموا أىّ منتجٍ أيدلوجي مرتبط بالثورة ومعبرا عنها "لا كتب ولا أغانٍ ولا مقالات ولا رموز سياسية مؤثرة ولا مفاهيم جديدة مرتبطة بالواقع الجديد". برأي الكاتبان يرجع السبب في ذلك إلى أمرين أحدهما أن الثورة وميدان التحرير لم تكن يوتوبيا الإخوان والإسلاميين بشكل عام (خطاب غير إسلامي، اختلاط! و"انفتاح" في المعاملة بين الشباب والبنات) بعكس لحظة الانقلاب مثلا وميدان رابعة (زي النساء االإسلامي، تلاوة القرآن، صلاة التراويح…) والتي كثرت فيها المنتجات الأيدلوجية من شعارات وهتافات وأغانٍ ونقاشات. الأمر الثاني أن المجتمع أصبح يشهد ميلاداً جديداً لم تكن الجماعة -بأيدلوجيتها المتآكلة والتي لم تقدم جديداً- جزءا منه.

 

خطاب الثورة: من الاحتجاج إلى الثورة
ازدادت قوة الحراك الاحتجاجي ضد مبارك ونظامه مع تأسيس حركة 6 إبريل عام 2008، أدرك النظام أخيرا خطر هذه الحركات الاحتجاجية وأراد غلق المجال العام وتأميمه مرة أخرى، وهو ما لم يفلح فيه.
ازدادت قوة الحراك الاحتجاجي ضد مبارك ونظامه مع تأسيس حركة 6 إبريل عام 2008، أدرك النظام أخيرا خطر هذه الحركات الاحتجاجية وأراد غلق المجال العام وتأميمه مرة أخرى، وهو ما لم يفلح فيه.

مع تأسيس الحركة المصرية من أجل التغيير (كفاية) في عام 2004 أعيدت الروح من جديد إلى دوائر المثقفين والسياسيين القدامى، والتي انضم إليها مجموعات محدودة من الشباب الذين كانوا يكونون أفكارهم من النقاش في المنتديات والمدونات على شبكة الإنترنت.

 

تزامن ذلك مع انفراجة سياسية تبنتها الحكومة الجديدة وقتها، ازدادت قوة الحراك الاحتجاجي ضد مبارك ونظامه مع تأسيس حركة 6 إبريل عام 2008، أدرك النظام أخيرا خطر هذه الحركات الاحتجاجية وأراد غلق المجال العام وتأميمه مرة أخرى، وهو ما لم يفلح فيه، خاصة مع تأسيس الجمعية الوطنية للتغيير في فبراير 2010 "حيث التَفّ عدد من الرموز السياسية الناشطة منذ 2004 مع العديد من الحركات الشبابية الأخرى حول شخص محمد البرادعي العائد إلى مصر بعد فوزه بنوبل". كل هذا الزخم والحراك لم يصدر عن خطاب أيدلوجي صلب، هذا الأمر وإضافة إليه (عزوف شعبي عام عن السياسة وإحساس عام بانعدام الثقة بها وبرموزها) ساهما في إنتاج (حلقة الوصل) والتي نعتها الكاتبان بـ(خطاب معلق في الهواء).

 

كلنا خالد سعيد: خطاب معلق في الهواء
 (مواقع التواصل الإجتماعي)
 (مواقع التواصل الإجتماعي)


صفحة على الفيسبوك صدّرت خطاباً احتجاجياً، يندد بحالات القتل والتعذيب المشابهة لتلك التي تعرض لها الشاب السكندري خالد سعيد، حاولت الصفحة دائماً أن تكون غير سياسية -على الرغم من تقاطع خطابها مع السياسة- وغير منحازة لفصيل دون آخر؛ بهدف تجميع المصريين على هدف واحد "التغيير" بغض النظر عن أيدولوجيات المطالبين بهذا المطلب. نجحت الصفحة في ذلك إلى حدٍ بعيد، حتى أنها أوصلت الخطاب إلى دوائر من المعروف بعدها عن أي احتجاج سياسي، وكان كاتب التقرير شاهداً على سؤال من أحد الشباب السلفيين موجهاً إلى القيادي بالدعوة السلفية بالإسكندرية، ياسر برهامي، عن حكم المشاركة في المظاهرات المنددة بقتل خالد سعيد والسلفي سيد بلال.

 

ساهم هذا التعالي عن التصنيف في إضفاء الثقة على خطاب الصفحة "وعدم شخصنة المعركة وهو ما ساهم في انتشار الخطاب". لكن وإن كانت نجحت الصفحة في إطلاق شرارة الثورة إلا أن خطابها توقف عند هذا الحد، حاولت الصفحة أن تنأى بنفسها عن الاستقطاب الذي شهدته مصر بعد الثورة إلا أنها لم تفلح في ذلك لأنه (كان وقتاً كان ينحاز فيه الجميع)! وهو ما جعل البعض ينشأ صفحات شبيهة باسم (كلنا خالد سعيد- النسخة الإسلامية) أو (كلنا خالد سعيد_ صفحة كل المصريين) والتي لم تفلح بالطبع في التعالي عن الاستقطاب السياسي.

 

بشكل عام انسحبت هذه السمة (خطاب معلق في الهواء) على كامل خطاب الثورة، وهو ما ساهم في ضعف الخطاب أمام حالة الاستقطاب السياسي، وأدى فيما بعد إلى تقاطع خطاب الثورة مع الدولة مشكلاً عالم فرانكنشتاين (30 يونيو) كما سنوضح في الجزء الثاني من التقرير.

المصدر : الجزيرة