شعار قسم ميدان

عبد الله العروي: الحداثة بوصفها واقعة حتمية!

midan - عبد الله العروي

يمثل المشروع الفكري الذي أنتجه المفكر المغربي عبد الله العروي، والذي قدمه من خلال مؤلفات عديدة ومتنوعة، يمثل لحظة مميزة في السياق العربي المعاصر، حيث عبر في كتاباته المتنوعة عن إلمام واسع بالتراث الإسلامي من جهة، وعن استيعاب للأسس التي قامت عليها الحداثة الغربية والفلسفات المعاصرة من جهة أخرى.

 

وتمتاز كتابات العروي في كونها تغطي مجالات مختلفة، وحقولاً معرفية متنوعة من فلسفة، وتاريخ واجتماع وصولاً إلى الحقل السياسي، فضلاً عن تميز هذا الإنتاج الغزير والمتصل منذ ما يزيد عن نصف قرن بانسجام مضامينه العلمية وأهدافه البحثية، والتي تمثلت كما يقول العروي في "تحديث الفكر والمجتمع العربيين". [1]

 

من خلال مشروعه الفكري، يسعى المفكر المغربي عبد الله العروي إلى توجيه العقل العربي نحو استيعاب أسس الحداثة الغربية والشروط التاريخية التي أنتجتها، ومن ثم توجيه الفعل باتجاه تحقيق تلك الشروط التاريخية وسلك الأسباب المؤدية إلى استنبات حداثة عربية. [2]

 

الحداثة في فكر عبد الله العروي
undefined

يدور متن العروي كله حول مفهوم الحداثة، وهو ليس مفهوماً نظرياً يمكن مقاربته بصورة فلسفية مجردة، أو شعاراً يجري رفعه واجتراره بصورة سطحية في زمن كثر الحديث فيه عن التحديث والمجتمع الحداثي، إنما هو -كما يشير المفكر محمد نور الدين أفايه في حديثه عن فكر العروي- "جماع منظومة فكرية تحققت تاريخياً في المجتمع الغربي الحديث، ولم تتحقق لا قبله ولا في غيره من التجارب، وقد تحققت موضوعيا في المجتمع الأوروبي الحديث بالتحديد"[3]، بحيث يمثل المجتمع الأوروبي نموذجاً معيارياً وإطاراً مرجعياً لمفهوم الحداثة.

 

يشير العروي إلى أن سلسلة المفاهيم التي قام بإنتاجها والتي مثلت عماد مشروعه الفكري (مفهوم العقل- مفهوم التاريخ- مفهوم الأيديولوجيا- مفهوم الدولة- مفهوم الحرية) إنما هي "فصول من مؤلف واحد حول مفهوم الحداثة"[4]، فهذه المفاهيم هي المقومات والعناصر المكونة للحداثة الغربية، ومن خلالها اشتغل على إيضاح وبيان ما تمثله هذه المفاهيم/المقومات من دلالات في الفكر الغربي الحديث وما مثلته في السياق الإسلامي التراثي، وعبر هذا التفكيك والتركيب يصل العروي إلى استحالة تحقيق حداثة عربية راهنة من داخل المنظومة التراثية الإسلامية.

 

ما فتئ الدكتور عبد الله العروي ينبه إلى أن: "الحداثة (صارت) تكتسح كل المجالات"، وأن "لا أحد (صار) بمكنته أن يوقفها" [5] ومن هنا يدعو العروي بصورة صريحة إلى ضرورة القطيعة مع التراث، وهي قطيعة تتعلق أولاً وقبل كل شيء بمسألة المنهج، وهي ليست مسألة هيّنة أو شكلية بقدر ما تعبر عن وعي معرفي بهذه "القطيعة التاريخية الحاصلة في واقعنا بفعل الاستعمار، والتي كنت أدعو فقط إلى الاعتراف بها والانطلاق منها" [6]، فالاعتراف بالقطيعة على مستوى النظر يعني إعادة تموقع العقل العربي في السياق التاريخي واستئناف لمسيرة التاريخ.

 

يشدد العروي على أن عدم الاعتراف بهذه القطيعة على مستوى النظر قد أدى إلى وقوع العقل العربي في نفق المفارقات التي أعاقت كثيراً إرادة التحديث وأدت إلى التردد والعجز المزمن، فلما كان الواقع العربي الراهن قد تشكل بصورة مغايرة عن النمط التقليدي، فإن عدم فهم الشروط التي أنتجته لا يؤدي -في واقع الحال- إلا إلى حجب الواقع وتكريس التبعية، إذ "أن الاختيار أمامنا هو إما أن نتكلم بهذه اللغة، لغة العقل والمصلحة والقوة، وإما أن نبقى أوفياء للأخلاق والقيم العتيقة ونموت بموتها، ولا سبيل إلى التوفيق بين الماضي والحاضر". [7]

 

المنهج التاريخاني كضرورة لاستداراك التأخر التاريخي
undefined

بناء على ما سبق، لا يكفّ عبد الله العروي في كتاباته عن التأكيد على ضرورة الأخذ بالمنهج التاريخاني في مقاربة الأوضاع العربية الراهنة، فالمنهج التاريخاني -بحسب العروي- سيوفر لنا إمكانية النهوض من واقع متأخر قياساً على تاريخ متحقق[8]، بمعنى أنه يطالب باستيعاب ما يسميه بـ"المتاح للبشرية جمعاء" باعتباره الخطوة الضرورية لتجاوز مختلف مظاهر التخلف التاريخي الذي يعيشه العالم العربي.

 

فلما كان التأخر التاريخي متحقق هنا في بلداننا، وكان النموذج المكتمل متحقق هناك في أوروبا والغرب، فإننا لا نملك حرية قبوله أو رفضه، فواقعة الحداثة الجارفة لا تتوقف عند رغباتنا باستعادة تراثنا لبناء حداثة أصيلة، كما أن استخدام الآليات والمناهج التراثية لا يمكن أن يفيد في تحقيق شيء أكثر مما حققته في الماضي، وبالتالي لا تستطيع هذه المناهج مواجهة الغرب التقني الحديث. [9]

 

في كتابه الأيديولوجيا العربية المعاصرة، يشير العروي إلى هذا الأمر قائلا: "قلت إن أوروبا الغربية انتهجت منذ أربعة قرون منطقاً في الفكر وفي السلوك، ثم فرضته منذ القرن الماضي على العالم كله. ولم يبق للشعوب الأخرى إلا أن تنهجه بدورها فتحيا، أو ترفضه فتفنى. هذا المنطق هو منطق العقل والمصلحة الاقتصادية وتكافؤ القوى، وهو منطق يسيّر العالم كله اليوم، شرقه وغربه، إما عن طريق التبعية، وإما عن طريق التقليد الواعي، وكل منطق آخر يعتمد على الإيمان بالفضيلة والحق المجرد هو منطق إقليمي لا يستسيغه الآخر".

"على الرغم من أن هيمنة المفهوم يعكس هيمنة القوة بشتى مظاهرها، وهذه ظاهرة نشمئز منها تلقائياً، لم أحاول أبداً إخفاءها، غير أني قلت أن لا فائدة من جحدها أو إنكارها."

لا يغفل العروي عن المسلمات التي ينطلق منها، وهي التي تتمثل بانطلاقه من الواقع الغربي باعتباره يمثل تجسيداً كاملاً للمفهوم الذي يدرسه، كما أنه لا يغفل عن أنه يحكم على التراث من مفاهيم غير نابعة من صلبه، مشيراً إلى أنه يقوم بهذا الأمر لعدة اعتبارات:

 

أولاها: "أن كل من يعيش في زماننا هذا، من يعتبر نفسه ابن هذا الزمان، لا يستطيع أن يفعل غير هذا، ومن عكس القضية خرج من زمانه إلى زمان آخر". والثاني: أن "هذا يأتي متسقاً مع أهدافه الإصلاحية". وأخيراً: فإنه يشير إلى أنه على الرغم من "أن هيمنة المفهوم يعكس هيمنة القوة بشتى مظاهرها، وهذه ظاهرة نشمئز منها تلقائياً، ولم أحاول أبداً إخفاءها، غير أني قلت أن لا فائدة من جحدها أو إنكارها". [10]

 

دور النخبة والدولة في العالم العربي
undefined

لما كان العروي قد اهتم في كتاباته بقضية الحداثة والتحديث وعوائقه في العالم العربي، فإنه ركز بصورة خاصة على الدور المنوط بالدولة والنخبة العربية في إنجاز هذا الدور التحديثي، وقد عبر العروي في كتابه الأيديولوجيا العربية المعاصرة عن خيبة أمله في النخب العربية وضعف وعيها التاريخي، حيث يرى أنها لم تهضم الشروط التاريخية التي أنتجت الحداثة الغربية قائلاً: "ما من شخص يتمالك نفسه من إبداء الدهشة إزاء العجز السياسي والعقم الثقافي الذين تبديهما النخبة المغربية"، إلا أنه وبرغم ذلك يشدد على أن "صلاح أمرنا لن يكون إلا بصلاح مفكرينا". [11]

 

كما أن الدولة يناط بها لعب دور تحديثي طليعي، فإذا كانت اللاحداثة تواجهنا -كما يصفها العروي- "في الشارع والمكتب والمصنع يومياً، فإن نفيها يجب أن يكون من الشارع لا من الورقة أو من اللسان"، وهنا تبرز مهمة الدولة بصفتها قادرة على إعادة هندسة المجتمع وفقاً لتنظيمات عقلانية، وخلق فضاءات مدينية، وتنظيم المجتمع والسكان بصورة تؤدي إلى ضمان تحقيق تحديث شمولي يطال كافة مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية.

 

وإذا ما قمنا باستعراض الشروط الكفيلة لانجاز التحديث من داخل نصوص العروي، قإنها تتمثل في استدعاء "العقلانية" في الاجتماعيات والسياسيات، بمعنى أنه يجب أن تشمل العقلنة كافة مناحي الحياة العامة، فالمجتمع الحديث هو الذي "استوعب القوانين العقلية البسيطة التي بُنـي عليها علما الحساب والهندسة، في التنظيمات (الجيش، الإدارة، الاقتصاد، التعليم.. الخ)، ثم في السلوك الفردي، فالفرد الذي يلقن القواعد ذاتها في المدرسة، والمعمل، والجيش، والوظيفة، يتعود عليها إلى حد الاجتياف، فينظم حياته العائلية حسب مقتضياتها… وإذا اصطلحنا على أن المجتمع الذي يتحلى بهذه الصفات هو المجتمع الحديث توافرت لدينا معايير موضوعية نقدر بها حداثة أي مجتمع كان. من هنا أهمية دراسة البيروقراطية- الحكومية والمؤسسية- في البحوث الاجتماعية والسياسية". [12]

 undefined

لا يغفل العروي عن ضرورة أن تحوز الدولة على شرعية كاملة من وجهة نظر مواطنيها، تخولها القيام بمهماتها التاريخية المناطة بها، بحيث تصبح الدولة مرجعاً أخلاقياً وشرعيا مجمعٌ عليه، وهو إذ ينتقد في كتابه "مفهوم الدولة" التوجهات القومية التي أغفلت عن عمد الاهتمام بالدولة العربية القطرية، فذلك لما يؤديه هذا الانفصال بين المجتمع والدولة من تبعات خطيرة تساهم في تشكل دول قمعية سلطوية، فيقول "طوبى الدولة القومية الموحدة المهيمنة على النخب العربية نزعت الشرعية عن الدول القطرية القائمة، يوجد ولاء لكن غير مرتبط بالدولة القطرية، ويوجد إجماع لكنه ليس حولها. في الحالة التي نعيشها انفصلت السلطة عن الشرع، والقوة عن النفوذ الأدبي". [13]

 

لقد أنتج عبد الله العروي نصوصاً من أعمق ما كتب عن الحداثة في الفكر العربي، ولا جدال في أنه يعد واحداً من أهم المفكرين العرب الذين ساهموا بكتاباتهم في راهننا العربي، وقد تميز مشروع العروي بجرأته في الدعوة صراحة إلى تجاوز المنزع التوفيقي الذي استحوذ على الفكر العربي منذ عصر النهضة وحتى يومنا هذا، والذي سبب برأيه تشويش على الزمن المعاصر وشروط الانتماء إليه عربياً.

المصدر : الجزيرة