شعار قسم ميدان

الترجمة والصراع.. عنف الكَونيّ "حوار مع إتيان باليبار"

midan - Étienne_Balibar

يناقش باليبار مشاكل الهويّة والانتماء في عصرنا الحالي، ويدعو لترجمة اجتماعيّة بين الهويات لتجاوز مشاكل الكونيّة. ويطلّ على أسئلة السلطة والهويّة والانتماء وعلاقتها باليمين واليسار اليوم، مقابلة جان برنباوم مع إتيان بالبيار حول كتابه الجديد.


لقد نشرتَ مؤخراً كتاباً حول مسألة الكونيّ. هذا المفهوم، الذي قد يبدو مألوفاً، يبقى مع ذلك في كثير من الأحيان مبهماً وغير جَليّ إلى حدّ ما. إذا كان ولا بدّ لك أن تقدّم تعريفاً لفئةٍ عمرها 17 عاماً، فماذا يمكن أن تقول؟

سأقولُ إنّه قيمةٌ ترمز إلى إمكانيّة أن نكون متساوين دون أن نكون الشيء نفسه بالضرورة، وبالتالي إلى إمكانيّة كوننا مواطنين دون أن يتوجّب علينا أن نكون متماهين  ثقافيّاً. 


في الواقع، كثيراً ما ترتبطُ الكونيّة في عصرنا بالإجماع، وباليسار الأرثوذكسيّ أولاً، الذي يُفترَض أنّه ضعيفٌ وساذجٌ.. لكنّ الكونيّة، من وجهة نظرك، هي أيّ شيء إلّا المثاليّة.

بادئ ذي بدء، لا يصبو هدفي إلى تدعيم "موقفٍ يساريّ"، وإنّما لمناقشة الكونيّة باعتبارها مسألة فلسفيّة. أنا يساريّ بطبيعة الحال؛ لكنّ اليسار نفسه قد اجتازته كافّة الصراعات المتأصّلة في مسألة الكونيّ. لا يجمع الكونيُّ الناسَ معاً، فهو يقسّمهم. والعنف إمكانيّة ثابتة. لكنّني أسعى قبل كلّ شيء إلى توصيف الصراعات الداخليّة.

 

ما هي هذه التناقضات الرئيسة؟
يناقش باليبار مشاكل الهويّة والانتماء في عصرنا الحالي ويدعو لترجمة اجتماعيّة بين الهويات لتجاوز مشاكل الكونيّة  (مواقع التواصل)
يناقش باليبار مشاكل الهويّة والانتماء في عصرنا الحالي ويدعو لترجمة اجتماعيّة بين الهويات لتجاوز مشاكل الكونيّة  (مواقع التواصل)

أوّل هذه التناقضات هو أنّ الكونيّة دائماً ما تكون مندرجة في الحضارة؛ حتى في حال كانت تسعى إلى "بناء" تشكيلات سرمديّة لنفسها. إنّ لها موقعاً، وشروطَ وجودٍ، ونطاقاً للتعبير. إنّها ترسمُ إرثاً من ابتكاراتٍ فكريّة عظيمة: على سبيل المثال، الأديان التوحيديّة الإبراهيميّة، الفكرة الثوريّة لحقوق الإنسان والمواطن، وهما الأساس لثقافتنا الديمقراطيّة، والتعدّديّة الثقافيّة هي تعميمٌ لكوسموبوليتية بعينها، وهلم جرا. لذلك، فإنّني أؤيد الفكرة القائلة إنّ الكونيّات متنافسة؛ مما يعني أنّه لا معنى للحديث عن كونيّة مطلقة.

 

وهذا هو قانون التاريخ تقريباً: فالكونيّة، بتشكيل نفسها، لا تحلّ محلّ كونيّة أخرى، لأنّه لا تزال هناك صراعات قابلة لأن يُعاد تفعيلها وإحياؤها. وهذا هو السبب أيضاً في أنّني أجدُ هيغل مثيراً للغاية، طالما أنّنا نقرؤه بالمقلوب: إذ اشتغلَ هيغل باستمرار على الصراعات بين الكونيّة، لا سيّما بين المسيحيّة وعصر الأنوار، مؤمّلاً أن "يتعالى" على تناقضاتها.

 

إلّا أنّ ما نراه اليوم هو أنّ الكونيّات الدينيّة مُستغرَقة في أزمةٍ لا نهاية لها، بينما الكونيّة المؤسَّسة على حقوق الإنسان قد أدخلت نفسها أيضاً في أزمةٍ عميقة. وهكذا، تواجه كونيّةٌ بها أزمة لا نهاية لها كونيّة أخرى أزمتها ليست سوى مجرّد بداية. وهذا يشرحُ، من بين أمور أخرى، عنف مواجهتهم.

 

بالنسبة إلى السواد الأعظم، تُعدّ "الكونيّة" مرادفة لتوحيد الناس وتآخيهم؛ لكنّك تقول أيضاً إنّ هناك إقصاءً كامنا في قلب الكونيّة. فماذا يعني ذلك؟
هناك تناقضٌ في النظريّة بين النّموذج الكونيّ والإقصاء. والمشكلة هي واحدة من مشاكل فهم كيف تصبح هذه الأضداد جانبين من العملة نفسها (غريس)
هناك تناقضٌ في النظريّة بين النّموذج الكونيّ والإقصاء. والمشكلة هي واحدة من مشاكل فهم كيف تصبح هذه الأضداد جانبين من العملة نفسها (غريس)

بالطبع، هناك تناقضٌ في النظريّة بين النّموذج الكونيّ والإقصاء. والمشكلة هي واحدة من مشاكل فهم كيف تصبح هذه الأضداد جانبين من العملة نفسها. وأطروحتي هي أنّ الإقصاء يتغلغل في الكونيّ بواسطة كلّ من الجماعة والسَّويّة.

 

الحجّة المُستعمَلَة لتبرير الإقصاء دائماً ما تتكون من القول بأنّ المقصيّين هم أولئك الناس الذين يرفضون الكونيّة، أو هم أولئك الذين ليسوا قادرين على فهمها بصورة صحيحة "لا حريّة لأعداء الحريّة"، أو لهؤلاء الذين يُفترض أنّهم أعداء

فحينما نؤسّس جماعاتٍ تعود علّة وجودها لتعزيز الكونيّة في أشكال محددة "إمبراطوريّات، كنائس، أمم، أسواق" فإنّنا أيضاً نصوغ معايير الانتماء التي يجب على الأفراد أن يتطابقوا معها. وإذا أخذت فكرة المسيحيّة عن الجماعة، فستجد هناك المختارين والملعونين.

 

وإذا نظرت إلى جماعة سياسيّة حديثة مثل الجماعة المرتكزة إلى حقوق الإنسان، والمبنيّة حول فكرة الأمّة؛ فإنّ الأجانب ليسوا وحدهم هم المستبعدين، بالمعنى الدقيق للكلمة، وإنّما أيضاً هؤلاء الذين ليسوا "وطنيين حقيقيين" أو هؤلاء الذين يُعتبرون غير ملائمين لحيازة وطنيّة فاعلة. وبالطبع، فإنّ كلّ ذلك هو محلّ النزاع، والذي يحوّل الحدود ويبدّلها. وفقط في الآونة الأخيرة كانت هناك النسوة الكهربائيّات، ولا يزال العمّال غير قابلين للانتخاب فعليّاً.. لكنّ مسألة العنصريّة تجلب قدراً إضافيّاً من الصراع.

 

من ناحيةٍ أخرى، لقد أصررتُ على أنّ العنصريّة الحديثة تشبه المكبوت الكولونياليّ "بمعنًى تحليل نفسيّ" الذي يجري إدراجه في قلب المواطنة. إنّه الوجه المظلم من الأمّة الجمهورياتيّة، وهو الوجه الذي يلوح بلا انقطاع، وذلك بفضل الصراعات حول العولمة. ولدينا التصوير التراجيديّ لهذا الأمر في فرنسا حتى يومنا هذا، مع استعمالٍ محدّد من اللائكيّة "علمانيّة الدّولة الفرنسيّة". فمع الأمّة المتردّدة بازديادٍ بالنسبة لما تكونه قيمها وأهدافها، تبدو اللائكيّة بصورة أقلّ فأقلّ باعتبارها ضمانة للحريّة والمساواة بين المواطنين؛ بل وعوضاً عن ذلك، عملت باعتبارها خطاباً إقصائيّاً.

 

علاوةً على ذلك، ما هو مشترك، في كلّ ذلك، مع الكونيّة الدينيّة هو أنّ الحجّة المُستعمَلَة لتبرير الإقصاء دائماً ما تتكون من القول بأنّ المقصيّين هم أولئك الناس الذين يرفضون الكونيّة، أو هم أولئك الذين ليسوا قادرين على فهمها بصورة صحيحة "لا حريّة لأعداء الحريّة"، أو لهؤلاء الذين يُفترض أنّهم أعداء. والحال أنّ هناك ثابتاً عظيماً في الغرب بهذا المنحى، وهو أيضاً في الشرق، ألا وهو: ليست الكونيّة بحدّ ذاتها هي العنيفة والإقصائيّة، وإنّما الدمج بين الكونيّة والجماعة. ولأنّنا، بالأساس، لا يمكننا تجنّب هذه الأخيرة -الجماعة-، فيجب علينا أن نوجد الوسيلة لتحضيرها. وهذه مهمّة سياسيّة رئيسة برأيي.

 

تَمضي إلى حدّ بعيد بهذه الفكرة، مثلاً عندما تقول إنّ الكونيّة والعنصريّة لهما "مصدرٌ واحدٌ".
يتمثّل المصدر الواحد لهذين المتعارضيْن -أعني الكونيّة والعنصريّة- في فكرة النّوع البشريّ الذي اختلقته الحداثةُ البرجوازيّة
يتمثّل المصدر الواحد لهذين المتعارضيْن -أعني الكونيّة والعنصريّة- في فكرة النّوع البشريّ الذي اختلقته الحداثةُ البرجوازيّة

أنا لا أقول إنّ الكونيّة بحدّ ذاتها عنصريّة، أو إنّ العنصريّة هي شكلٌ من أشكال الكونيّة نحيا بداخله. وإنّما الأمر ببساطة أنّني لا أريد من الناس أن يؤمنوا بأنّ هذين الشيئين -الكونيّة والعنصريّة- لا علاقة لهما ببعضٍ. وهذا هو السبب في أنّنا يجب علينا أن نتعلّم التفكير فلسفيّاً في قذارة المؤسّسات التي نحيا بداخلها.

 

ويتمثّل المصدر الواحد لهذين المتعارضيْن -أعني الكونيّة والعنصريّة- في فكرة النّوع البشريّ الذي اختلقته الحداثةُ البرجوازيّة، والتي كان كانط ممثّلاً لها بامتياز. كيف لكانط أن يكون منظِّراً للاحترام غير المشروط للنوع البشريّ، ومنظراً، على حدّ سواء، لللامساواة فيما بين الأعراق؟ هنا يكمن التناقض الأعمق -بل تكمن الأحجية حتّى-. لكنّ هذا يتعلّق، أولاً وقبل كلّ شيء، بالطريقة التي نُعرّف بها التقدّم. ولا يقتصرُ الأمر ببساطة على صناعة أفق للإنسانيّة بعامّة، وإنّما أيضاً بوضع سماتٍ مُحدّدة للجنوسة والجنسيّة والتعليم كمعايير للإنسانيّة نفسها.

 

وفي حين أنّ له أشكالاً مختلفة، إلّا أنّ هذا هو الخطاب المشترك بين كلّ من الحركات الثوريّة الأمريكيّة والفرنسيّة في القرن الثامن عشر وحركات التحرّر الاجتماعيّ في القرن التاسع عشر. لقد قدّمت هذه الحركات الأساس لحياتنا اليوم. لكنّ الأساسيّ، برأيي، هو أنّ كونيّةً كهذه تسمح بالمقاومة. ففي القرن الثامن عشر، أسست الفرنسيّة أولمبي دو غوج والبريطانية ماري وليستونكرافت النسويّة السياسيّة بإعلانهنّ أنّ تحديد الكونيّ بمعيار ذكوريّ يتناقضُ مع مسلّمته بالحريّة المتساوية والوصول إلى الحقوق بالنسبة إلى الجميع.

 

لذلك، يمكننا أن نتحدّى الكونيّة باسم مبادئها الخاصّة، كما فعلَ قسمٌ بأكلمه من الخطاب المعادي للكولونياليّة. انظر إلى توسان لوفرتور وفرانز فانون وإيميه سيزير. فهذا هو الجانب الآخر من التوتّر الذي يعملُ بدأبٍ في كلّ كونيّة: فقد تبرّر التمييز، لكنّها تجعلُ الثورة والتمرّد أيضاً أمراً ممكناً.

 

في مقالتكَ التي تحملُ عنوان العالم والثقافة والدين والأيديولوجيا (2012)، تلاحظ أنّ معظم المعارضات العنيفة ليست هي المعارضات التي تعارضُ الكونيّة بالخصوصيّة، وإنّما بالأحرى تلك التي تعارض الكونيّات المتنافسة. من وجهة النّظر هذه، فإنّ الجهاديّة هي نفسها كونيّة عدوانيّة للغاية. حاولت المضيّ في مناقشة الكونيّة الديمقراطيّة وتناقضاتها في الرّقة!
يمكننا أن نرى المنابع الأيديولوجيّة التي تستمد الديكتاتوريّات الإحالة منها إلى المُطلق؛ سوى أنّ الإسلامَ هو الكونيّ لا الدّولة الإسلاميّة. والدّولة الإسلاميّة هي البربريّة، لا الإسلام.
يمكننا أن نرى المنابع الأيديولوجيّة التي تستمد الديكتاتوريّات الإحالة منها إلى المُطلق؛ سوى أنّ الإسلامَ هو الكونيّ لا الدّولة الإسلاميّة. والدّولة الإسلاميّة هي البربريّة، لا الإسلام.

هذا صحيح، فكلّ فضاءات الحريّة أُغلِقت.. وفي كلّ هذه البلدان التي تقع تحت حكم الديكتاتوريّة، فإنّه من المستحيل أن نفكّر ونتناقش دونما المجازفة بحياة الفرد، أو بحريّته. ورسائل الإيميل التي أتلقّاها من تركيا تجعلني في تلك اللحظة غير قادر على النوم. لكن أعتقد أنّه علينا أن نفرّق بين بعض الفوارق: فالدّولة الإسلاميّة هي بديلٌ محلّيّ للجهاديّة، والتي هي بحدّ ذاتها مختلفة عن الأصوليّة الإسلاميّة بعامّةٍ. وحتى ينبغي أن لا يتمّ خلط الأصوليّة بالإسلام نفسه؛ لأنّ الإسلام منقسمٌ بعمق بين تقاليد مختلفة وتشكيلة من الحداثات.

 

وكما في أوقاتٍ مختلفة، يمكننا أن نرى المنابع الأيديولوجيّة التي يمكن للديكتاتوريّة أن تستمدّها من الإحالة إلى المُطلق؛ سوى أنّ الإسلامَ هو الكونيّ لا الدّولة الإسلاميّة. والدّولة الإسلاميّة هي البربريّة، لا الإسلام. لكنّ الدّولة الإسلاميّة مشكلة فعليّة بالنسبة إلى الإسلام. والنّاس مقيمون على الحافّة، ويشعرون جداً بهذا السؤال؛ حيث من العسير للغاية أن تجعل الذات مفهومة. بعد هجمات يناير 2015، كتبتُ عاموداً لمجلة ليبراسيون (Libération)، والذي حصلت على كثيرٍ من النّقد بسببه. فقد اشتمل على هذه العبارة "مصيرُنا في أيدي المسلمين".

 

برأيي، لا يعني هذا القول بأنّ "يا أيّها المسلمون عليكم بالتحديث حالاً، وإلا سينتهي أمركم وأمرنا، أيضاً!". والحال أن العبارة تعني أنّه إذا لم تأتِ المقاومة من الإسلام نفسه، فإنّ الأمور ستزداد سوءاً، وبطريقةٍ يتعذّر إلغاؤها. ولم تكن وسيلة لإلقاء المسئوليّة على عاتق الآخر، الذي هو، بالإضافة إلى ذلك، جزءٌ من أنفسنا نحن. ولكن يبقى من الصحيح أنّ كلّ امرؤ يحتلّ مكاناً معيّناً، وبالتالي يجد نفسه مكرهاً على الحديث بلغةٍ معيّنة.  

 

شخصيّاً، بطبيعة الحال، لديّ ميلٌ لمنح امتيازٍ معيّن للدنيويّ، واعترضَ البعضُ على ذلك. ولكن كيف لي أن أفعل خلاف ذلك؟ فأنا لستُ ماضياً للتحوّل إلى مسلمٍ أو كاثوليكيّ؛ فقد كنتُ شيوعيّاً، كما تعلم، وهذه تجربة دينيّة تعليميّة للغاية.. وهذا هو السبب في أنّني كتبت بأنّنا ينبغي علينا أن نخترعَ نوعاً من الهرطقة المُعمَّمَة، مما يجعل كلاً من الخطاب الدينيّ والخطاب الدنيويّ قادرين على تجاوز محظوراتهما الخاصّة.

 

لقد كتبتَ الكثير حول أوروبّا، ولا تتردّد من الحديث عن "نحن الأوروبيين". فما هو ردّ فعلك عندما تسمعُ جان لوك ميلينتشون يعلنُ أنّ فرنسا "أمّة كونيّة"؟
 كتاب
 كتاب "نحن الأوروبيون"  (أمازون)

إذا كان لي أن أتحدّاه، فسأخبره بأنّني قد أقبل بالفعل بهذا الخطاب شريطة أن يكون مكافئاً لمقتضيات النبالة؛ أي بنبالة الجمهوريّة. إذ تقتضي النّزعة الجمهوريّة كونيّة محدّدة، والتي لم تعد قادرة على تماهي الأمّة مع الجمهوريّة. ولكي تبقى جمهوريّة، فعلى فرنسا أن تتعالى بنفسها، وأن تطرح فكرةً لتوسيع المواطنة تتجاوز حدودها. وهكذا، هذه هي القضيّة "أيّها الشعب الفرنسيّ، ابذلوا مزيداً من الجهد..".

 

أمّا بالنسبة إلى أوروبّا، فإنّ السؤال هو ما إذا كان في مقدورنا فعلاً أن نحلّ مشاكل الشعب الفرنسيّ في غيابٍ طاقمٍ قارّيّ. إنّني مقتنعٌ بأنّ هذه ليست هي القضية، رغم أنّ أوروبا تقوم بأسوأ الأشياء، كما هو حادث في اليونان. إذ إن أي برنامج قائم على الاستقلال عن المشروع الأوروبي محكوم عليه بالوقوع في الشوفينية، إن لم يكن ترامبية صريحة.

 

عندما أقول ذلك، فإنّ أناساً مثل صديقتي شانتل موف تصرخ بي وتسألني "أيّ كوكب تعيش عليه؟ الهويّة الوطنيّة هي الإطار الوحيد الذي يسمح بالدفاع عن الطبقات الشعبيّة ضدّ الرأسماليّة التي لا مثيل لها!". وأعتقدُ أنّهم مخطئون في ذلك؛ لكنّنا بالطبع بحاجة إلى إثبات ذلك. هذه هي نقطتي: فأنا لا أريد استرجاع لا النقد الاجتماعي ولا الدولانية.
 

 الفيلسوفة الفرنسية شانتال موف (مواقع التواصل) 
 الفيلسوفة الفرنسية شانتال موف (مواقع التواصل) 


الشيء الأصليّ -بالنسبة إلى شخص يساري ما بعد ماركسيّ مثلك- هو أنّك ترفض بقوّة وبالمناصفة كلاً من الهوياتيّة المتصلبة وما تسميه أنت بـ"الهجنة دون حدود". بالنسبة إليك، ليس هناك كونيّة ممكنة دون وعي بالهويّة؛ فكلّ كونيّة لها جذورها بطريقة أو بأخرى.
 
إنّ الترجمة والصراع هما قطبان ديالكتيكيان لأعمالي المتعلّقة بعنف الكونيّ. فأنا أعتقد أنّ كون لا شيء محدداً يعني اللاحياة، وأدرك أنّه ليس يسيراً أن تكون هناك أشياء متعددة في آن واحد؛ لكنه ليس بالمستحيل

طبعاً، فنحن بشرٌ بنهاية المطاف، ولا نستطيع العيش دون سؤال "من أنا؟". ولا يمكن لامرئٍ أن يحيا دون هوية، أو أن يغيّرها عشوائياً. لكن فرض هوية أحادية لم يعد ممكناً دون عنف. ومن وجهة نظري، فإنّ المنظرة الأمريكيّة جوديث بتلر محقّة في هذه النقطة، وذلك إذا كنا لا نخلط بين ما تقوله هي بالأشكال التقليديّة لخطاب الشذوذ أو الخطاب المابعد حداثيّ الذي يقول بأننا يمكننا أن نغير الهويّة باستمرار، بعشوائيّة. وهذا تناقض متعذر حله بالأساس. فنحن يمكننا فقط محاولة إعادة ترتيبها.

 

وقد أوضح الفيلسوف فنسنت ديسكومبس أنّ فكرة الهويّة هي فكرة قائمة على المفارقة؛ لأنّنا بينما نعزو الهويّة إلى الأفراد، فإنّ الهويّة نفسها تبحثُ عن انتماء. لكنّني سأضيف: يتحدّث المرء عن هويته الخاصّة، أو ما يميّزه عن الآخرين، إمّا للتأكيد على ما لدينا من مشترك، أو لتمييز نفسه، أو حتى لسحبها عن المشترك. لكنّه لا يفعل ذلك إلّا بوجود الآخر.

 

وتتمثّل الصعوبة الراهنة اليوم في أنّنا نتشارك في جماعاتٍ متعددة، وهي الجماعات التي لا يمكن استبدال معايير الاعتراف الخاصّة بها. وهذا هو السبب في أنني أقوم باستكشاف مسار نحو تعددية الكونيّ، دون  التلطيف منه أو رفعه إلى مجرد مجموعة من الخصوصيات. ويتكون هذا من وضع استراتيجيات عامة للترجمة بين اللغات والثقافات والهويات؛ وهي ترجمة ذات مغزى اجتماعيّ، وليست ترجمة فيلولوجيّة أو أدبيّة.

 

إنّ الترجمة والصراع هما قطبان ديالكتيكيان لأعمالي المتعلّقة بعنف الكونيّ. فأنا أعتقد أنّ كون لا شيء محدداً يعني اللاحياة، وأدرك أنّه ليس يسيراً أن تكون هناك أشياء متعددة في آن واحد؛ لكنّه ليس بالمستحيل. ونحن بحاجة إلى أكبر عدد منا لإنجاز ذلك، وليس كتجربة لسلب الذات. فالكوسموبوليتية التي نحتاجها تتطلب شكلاً محدداً من التوعك الهوياتيّ، والذي سأغامر بالقول إنّه توعك نشط ومؤثر.

=========================================

المقال مترجم من: الرابط التالي

المصدر : الجزيرة