شعار قسم ميدان

الحداثة العربية.. أزمة البحث عن الشرعية الشعبية

midan - Tahrir Square
في عمله الضخم والموسوعي لتأريخ قصة عبور المجتمعات المشرقية إلى الحداثة؛ تناول المؤرخ والأكاديمي والباحث في العلوم الاجتماعية عصام خفاجي (1) -بالتاريخ والدراسة- مساحة واسعة جغرافيا وتاريخيًا داخل العالم الإسلامي؛ لمحاولة الوصول إلى إجابة سؤال مهم، وهو "إن كانت عمليات العبور إلى الحداثة متشابهة في مُجملها، وإن كان المشرق عرف التحولات التي عرفتها أوروبا في فترات انتقالها إلى الحداثة؛ فلماذا انتهت كُلٌّ من المنطقتين إلى نهايات شديدة الاختلاف"؟
 

حيث  يرى أن عمليات التحديث في أوروبا انتهت، على الرغم من كل ما تخللها من عُنف وحروب وإبادة، ومع كل تحفظاتنا (كعرب ومشارقة) على ممارساتها تجاهنا؛ إلا أنها انتهت إلى قيام مُؤسسات عقلانية وأنظمة تمثيلية وديمُقراطية ومُجتمع فعال ومُنتج واقتصاديات قوية ومرجعية راسخة لحقوق الإنسان إلى حد كبير على عكس العالم المشرقي، الذي انتهت تجربة التحديث فيه إلى أنظمة سُلطوية وعنف سياسي وطائفي وتشظٍّ مؤسسي، وانهيار واسع لبُنى الدولة والمجتمع بشكل كبير.

undefined

ويوُضح عصام  خفاجي(2) أن التاريخ لا تحكمه قوانين جبرية ولا يُمكن استنساخه، وهو لا يسير تجاه غاية معيّنة، فوجهة النظر -التي سادت طوال القرن التاسع وحتى أوائل القرن العشرين- بأن التاريخ يتحرك بشكل خطي مُتصاعد إلى الأمام، وأن العمليات التاريخية المتشابهة تقود -بالضرورة- إلى نتائج متشابهة، حجبت عن غالبية رواد التحديث والإصلاحيين والثوريين طيلة القرنين الماضييْن الأسباب الفعلية والحقيقية لتعثُر عبور المشرق العربي والإسلامي إلى الحداثة.
 

وعليه يكون من المناسب هنا العودة للتاريخ ودراسة تجارب التحديث في المشرق كيف تمت وما هي طبيعة القوى التي وقفت وراءها، وكيف بررتها، وكيف رآها المعاصرون لها، والأهم؛ كيف ساهم ذلك فيما آلت إليه الأوضاع في راهننا العربي والإسلامي؟
 

الحداثة المشرقية المُجهضة
 يذكر الدكتور برهان غليون(3) أن الخوف والإحساس بالتهديد الذي ساد العالم الإسلامي وأنظمته السياسية التقليدية، وما تضمنه من مصالح وغايات خاصة  في أغلب الأحيان، كان الدافع الرئيس في سبيل تبني أولى موجات التحديث في المشرق.
 

إلا أنه برأيه أنّ عملية التحديث هذه تمتاز بأمرين: الأمر الأول أنها هنا كانت "عملية تحديث تقني وأداتي وتنظيمي فقط بغرض مدّ السُلطة التقليدية القائمة بتقنيات السيّطرة والتنظيم والتحكم"(4). الأمر الثاني -وهو ما ترتب على الأول- أن التحديث لم يكن جزءا من مشروع اجتماعي وسياسي وثقافي تاريخي لدخول الحداثة؛ بل مجرد "حركة إجرائية لخدمة مشاريع سُلطانية تقليدية وسُلطوية، كما في حالة مشروع محمد علي، أو في تجارب التحديث العُثماني"(5).
 

أدى هذا إلى أنه حين أخذ الحكام السلاطين بأدوات الحداثة كان لابد لهم عند أخذهم بها، من "تجريدها من مضمونها، ووضع النُظم الجديدة كلها في خدمة مشاريع لا علاقة لها بروح وأفكار الحداثة(6)؛ حيث كان التحديث التقني في جوهره مُمثلا في إقامة جهاز بيروقراطي خاضع للسُلطان، وجيش حديث له نفس آليات التعبئة والتنظيم والقتال الموجودة في أوروبا، وفي إقامة بنية تحتية صناعية وزراعية؛ لتخدم تسليح الجيش وإمداده بالمُؤن، وأخيرا في إقامة تعليم نظامي ليُخرج أفرادا مدربين ومؤهلين للعمل في تلك البنية المؤسسية الحديثة (7).
 

برهان غليون مفكر عربي سوري مقيم في فرنسا (رويترز)
برهان غليون مفكر عربي سوري مقيم في فرنسا (رويترز)

يضيف غليون(7) أن تلك المؤسسات التقنية والتنظيمية أنتجت في الأخير  قوى حداثية تكنوقراطية (كالعسكر الحديث،الموظفين في الجهاز البيروقراطي، والطبقة البرجوازية المرتبطة بالدولة) كانت -للمُفارقة- هي التهديد الأكثر جذرية على المشاريع السُلطانية والإصلاحية الحداثية على السواء.
 

حيث وصف غليون(8) القوى الاجتماعية التي أنتجها التحديث التقني بأنها باتت أشبه بقطاع الطريق، فلا هي دمجت الجماهير المشرقية العريضة في مشروع ثوري كبير للتحول إلى الحداثة، كالبرجوازية الأوروبية التي قادت الشعوب الغربية إلى ثورات جماهيرية عارمة للقضاء على القوى التقليدية مُمثلة في الفئات الأرستقراطية والإقطاعيين وأنظمة الحكم الملكي المطلق، ولا هي سعت -في المُقابل- إلى التفاوض مع النخب الحاكمة التقليدية للوصول إلى حلول وسط، أو حلول إصلاحية؛ بل سَعت إلى تقويض السُلطة التقليدية والانقلاب عليها.
 

ديمقراطيون بلا ديمقراطية
 كانت الحقبة الأخيرة من عمر السَلطنة العُثمانية هي أهم وأول فترات التدافع والصراع بين التقليد والحداثة في المجال الإسلامي والعربي، وكانت العاصمة العُثمانية هي الساحة الأبرز لذلك الصراع.
 

حيث بدأت الفئات الاجتماعية التي أنتجها التحديث التقني والمؤسسي العثماني ترى الحكم السُلطاني حُكما استبداديا(10)، كانت تلك الفئات بحُكم النشأة والاحتكاك على اطلاع بنُظم الحكم والإدارة الغربية، وبدأت تعمل على الحد من السُلطات المُطلقة المَملوكة للسُلطان، والصدر الأعظم، وعدد من المناصب التنفيذية، والسعي في المقابل لتشكيل عقد اجتماعي يتم من خلاله تحديد صلاحيات الحاكم وواجباته وحقوق الرعية وواجباتها (11)، واعتبرت هذه أول حركة للإصلاح الدستوري في التاريخ الإسلامي الحديث.

تزعّم هذه الحركة النضالية الدستورية أحمد مدحت باشا(12) وهو ابن البيروقراطية العثمانية الوليدة، وداعية من دعاة الإصلاح والتحديث، ناضل من أجل الدستور وضد الحكم الاستبدادي، نضالا استحق به على لسان المؤرخين لقب "أبي الإصلاح وأبي الدستور" (13).

وفي سنة (14)1867 جرى انقلاب دبره قادة حركة الإصلاح الدستوري، ونجحت الحركة في البداية، وتم خلع السُلطان العُثماني الذي وُجد منتحرا بعد أيام من الانقلاب، ثم تولى أحمد مدحت باشا الصدارة العُظمى، وأعلن الدستور المدني الحديث الذي يقيّد سُلطات الحاكم، ويعترف بحقوق الأقليات.
  

مع غياب الحاضنة الشعبية الفاعلة أرسل أحمد مدحت باشا أحد رجاله إلى لندن لإبلاغ بريطانيا أن الدولة العُثمانية في ظل النظام الدستوري مستعدة لرعاية مصالح بريطانيا وحلفائها في الأراضي الخاضعة للسّلطنة
مع غياب الحاضنة الشعبية الفاعلة أرسل أحمد مدحت باشا أحد رجاله إلى لندن لإبلاغ بريطانيا أن الدولة العُثمانية في ظل النظام الدستوري مستعدة لرعاية مصالح بريطانيا وحلفائها في الأراضي الخاضعة للسّلطنة
  
لتبدأ أول حركة دستورية فى العالم الإسلامي بانقلاب عسكري تزعمه أحمد مدحت باشا نفسه بالتعاون مع وزير الحربية وقتها حسين نوري باشا، وكان قد أيد الحركة شيخ الإسلام حسن خير الله أفندي وعلى إثر ذلك خرجت بعض التظاهرات تؤيد الحركة وتنادي بالتغيير(15) .
 

يُعلق المفكر السياسي والمؤرخ طارق البشري (16) على هذه المفارقة "أن الجماهير التي خرجت لتأييد حركة الإصلاح الدستوري لم تكن على اتصال برموزها، ولم تكن تملك الوعي الكافي، ولم تنظم تنظيمًا دقيقًا، فضلا عن أن الخلفية الاجتماعية لغالبية المتظاهرين تنتمي للمجتمع الإقطاعي ما جعل رموز الحركة وقواعدها وكأنهم من عالمين مختلفين".
 

مضيفًا أن الفجوة الضخمة بين الفئات الاجتماعية التي تنادي بالإصلاح الدستوري والديمقراطية، الجماهير العريضة التي تعيش في ظل نظام إقطاعي ولا تعرف كيف تستفيد من الإصلاحات الدستورية أو تنظم نفسها تنظيمًا سياسيًا من أجل الضغط على السُلطة، عاملا مهمًا في تشكيل طبيعة الحركة الدستورية واتجاهها إلى القيام بالانقلاب ضد السُلطان وليس القيام بثورة شعبية ضد الاستبداد السياسي.
 

مع غياب الحاضنة الشعبية الفاعلة واشتداد الصراع بين الحركة والسُلطان، أرسل مدحت(17) أحد رجاله إلى لندن لإبلاغ بريطانيا أن الدستور القائم يضمن صون الأقليات المسيحية، وأن الدولة العُثمانية في ظل النظام الدستوري مستعدة لرعاية مصالح بريطانيا وحلفائها في الأراضي الخاضعة للسّلطنة.

ويضيف طارق البشري(18) أنه يُمكن النظر لهذا الصراع اليوم، على أنه بين مؤيدي الديمقراطية وحفظة الاستبداد كصراع محدد المعالم واضح الأطراف، "فالديمقراطية وحقوق الأقليات والإصلاح الدستوري هي اليوم من أنبل غايات النضال السياسي التي تقضي على الاستبداد، وتمكن الجماهير من حكم نفسها بنفسها؛ لكن وجه الملاحظة أن تلك الغايات أتت في شكل حركة انقلابية في أعلى هرم السُلطة ذات تأييد شعبي مشكوك في نوعيته وحجمه، قادها مجموعة من موظفي الدولة الذين وجهوا جهودهم للحصول على السُلطة السياسية  من أجل تطبيق الدستور والديمقراطية دون توعية الجماهير وتنظيمها داخل مشروع سياسي ثوري أو إصلاحي"، ثم بعد ذلك ومع غياب القاعدة الاجتماعية أصبح ضمان استمرار النظام الجديد من خلال توقيعه على معاهدات دولية مع الدول الاستعمارية ذات المصالح المُتعارضة مع استقلال الدولة وسيادتها.

ليصبح الإصلاح والتحديث السياسي والحكم الديمقراطي الدستوري معتمدا على تأييد القوى الخارجية والاستعمارية في كسب شرعيته وضمان بقائه، وليس على تأييد ودعم الناس.
 

قادة جُدد بلا قواعد
برأي غليون، فإن القوى الشعبية باتت بحُكم الأيديولوجيا والممارسة طليعة سُلطوية وغير ديمقراطية ولا تمثيلية، فهي افترضت وحدة المصالح  مُسبقا، وتؤمن بأنها تجسدها بنفسها، حيث أنها في سبيل ذلك تقود المجتمع في معركة تاريخية تحت شعارات التحديث
برأي غليون، فإن القوى الشعبية باتت بحُكم الأيديولوجيا والممارسة طليعة سُلطوية وغير ديمقراطية ولا تمثيلية، فهي افترضت وحدة المصالح  مُسبقا، وتؤمن بأنها تجسدها بنفسها، حيث أنها في سبيل ذلك تقود المجتمع في معركة تاريخية تحت شعارات التحديث"(21)
 

يردد برهان غليون دائما (19) أن القوى الحداثية المشرقية والعربية، لم تكن مجرد حالة تمرد على السُلطة التقليدية المستبدة فحسب؛ بل كانت في جوهرها ثائرة على المجتمع التقليدي المشرقي بنفس القدر.

 

موضحًا أن هناك تصورا عاما جمع غالب القوى الاجتماعية التي أفرزتها تجارب الإصلاح على الطريقة الأوروبية في مصر والدولة العثمانية وإيران -وهي في مجملها قوى عسكرية وبيروقراطية أو في أفضل الأحوال قانونية- أن مهمة التحديث الواقعة على عاتقها كأنها عبارة عن "تحقيق انقلاب جذري -قد يتسم بالعُنف- في مجتمع يُوصَف بالانحطاط والعجز السياسي والاجتماعي، ولا يُمكن إصلاحه من داخله، ولا يُمكن تحديثه إلا عن طريق بناء سُلطة خارجية؛ أي خارجة عنه ولا تعكس حقيقته وثقافته الفعلية والقائمة".(20)

حينما احتاج المؤرخ والباحث عصام خفاجي عنوانا لوصف التحديثيين المشارقة والعرب على تعاقب أجيالهم خلال التاريخ الحديث، سواء كان التحديثيون نخبا أو أشخاصا أو قوى اجتماعية؛ وصفهم بأنهم خلال كل محاولاتهم التحديثية كانوا دائمًا أشبه بـ"قادة جدد يبحثون عن قواعد"

وعلى هذا التصور الذي جمع غالبية تلك النُخب والقوى، أخذوا ينظرون لأنفسهم بشكل دائم كطليعة اجتماعية وسُلطة مُستقبلية تجسد جميع فضائل العصر الجديد، طليعة عقلانية في مجتمع غير عقلاني، وتقدمية في مجتمع رجعي، وبهذه الطريقة تصدرت تلك القوى الحياة السياسية والمجتمعية باعتبارها المصدر الوحيد للتقدم والعقل والحداثة.
 

ويضيف غليون في موضع آخر أن تلك الطليعة باتت بحكم الأيديولوجيا والممارسة طليعة سُلطوية وغير ديمقراطية ولا تمثيلية، فلم "يكن هدفها تمثيل مصالح الشعب أو المُجتمع، أو الفصل في الصراع بين المصالح المتباينة داخله وتحقيق التوازن بينها بطرق قانونية حديثة مثلا، فهي افترضت وحدة المصالح  مُسبقا، وتؤمن بأنها تجسدها بنفسها، حيث أنها في سبيل ذلك تقود المجتمع في معركة تاريخية تحت شعارات التحديث"(21)
 

وفي إطار مثل هذا التصور ظهرت جميع بذور الانحراف الذي شهدته الدول العربية المعاصرة؛ حيث صارت الأنظمة التي أسستها القوى التحديثية المشرقية أنظمة سُلطوية ذات طابع أبوي، مُستقلة كليًا عن المُجتمع، مُكتفية بذاتها، تعسفية ومُطلقة، والأهم أنها رغم كل الثورات ومحاولات الإصلاح غير قابلة لتمثيل المجتمع ومصالحه، وترى كل معارضة لسُلطتها مؤامرة ضد التقدم والتحديث والوطنية.

حينما احتاج المؤرخ والباحث عصام خفاجي عنوانا لوصف التحديثيين المشارقة والعرب على تعاقب أجيالهم خلال التاريخ الحديث، سواء كان التحديثيون نخبا أو أشخاصا أو قوى اجتماعية؛ وصفهم بأنهم خلال كل محاولاتهم التحديثية كانوا دائمًا أشبه بـ"قادة جدد يبحثون عن قواعد"(22).

المصدر : الجزيرة