شعار قسم ميدان

الاغتراب والسيولة.. هل أثر الربيع العربي على مشاعر الانتماء؟

midan - egypt police
لا يعتبر الاضطراب المعاصر في حالة الانتماء مشكلةً خاصةً بالمُنتمِي -فاعل الانتماء- فقط، بما في ذلك من آثارٍ نفسيةٍ عليه؛ ولكنّها -في الواقع- أزمة مجتمعية تصيب المجتمع المُنتمَى إليه بالاضطراب والتفكك. فالنزعة الفردية عند الشخص فيما يخص قضايا مجتمعه وواقعه تأتي -بجانب الأثر الفردي على صاحبها- بالسلب على المجتمع ككل وعلى حساب الاهتمام بمشاكله وقضاياه. فنجد أن مجموعة من الشباب العرب -كمثال- الذين كانوا فاعلين مؤثّـرين في مجتمعاتهم، أثناء فترات الربيع العربي، ومُتشبّثين بصناعة الأمل الجماعي له، انتقل بعضهم الآن إلى البحث عن صناعة أملهم الذاتي ومجدهم الشخصـي خارج دائرة هذا المجتمع. الأمر الذي يستدعي نوعًا من البحث خلف هذه الظاهرة لفهم أبعادها أو السؤال عن حل إشكاليتها.

 

الانتماء والحداثة

يُعرِّف مجدي أبو زيد الانتماء على أنّه محورٌ مفصليّ يكشف الكثير عن الآلية النفسية المُتحكّمة في علاقة المجتمع بأفراده[1]. أو بعبارة أخرى: فالانتماء هو الحالة المعنوية التي يعبّر بها الفرد عمّا يربطه بالمجتمع. هذه الحالة المعنوية يعرّفها عالم الاجتماع البولندي زيغمونت باومان بأنّها المرجعية الصلبة التي تحفظ للإنسان تماسكه الداخلي[2]. والانتماء -بوصفه قضية معنوية- فإنه يدخل بطبيعة الحال في دائرة هذه المرجعيات الصلبة التي تحفظ توازن الإنسان بين المادي والمعنوي، وهي الحالة التي فكّكتها الحداثة. 

 

فالحداثة وفق تعريف المسيري هي حالة التحديث المتتالي التي انتزعت من الإنسان كل قوام داخلي صلب -دين، تقاليد، مفاهيم- واستبدلته بمرجعية صلبة من صنعها وهي العقل والمادة فقط[3]. وأنها أداة نسف التاريخ التي جرّدت الإنسان من انتمائه وولائه لهذا التاريخ وقضاياه وهمومه وعَزلته عنه[4].

 

زيغمونت باومان بروفيسور علم الاجتماع البولندي(1925- يناير 2017)
زيغمونت باومان بروفيسور علم الاجتماع البولندي(1925- يناير 2017)
 

هذا الإبدال في المرجعيات -من قِبل الحداثة- لدى الإنسان أتى بدورِه على معنى الانتماء، كقيمة صلبة، بما في ذلك قيمة التضحية التابعة لما ينتمي إليه الإنسان. فوفقًا لباومان فإننا "إذا استخدمنا المصطلحات البراغماتية العملية التي تُحبذها عقلانيتنا الحديثة، لقُلنا إن موت الشهداء عديم القيمة؛ بل ويأتي بنتائج عكسية؛ فكلما زاد عدد المؤمنين الذين يستشهدون في سبيل قضيتهم، قلَّ عدد المؤمنين الباقين الذين يجاهدون في سبيل تلك القضية"[5]. فأصبح الانتماء في زمن الحداثة قيمة ثانوية لا تتحكم في ذاتها وإنما تتحكم بها المنفعة المادية من ورائها.

 

ما بعد الحداثة.. السيولة والاستهلاك وإذابة المفاهيم

في إيضاحِه للفرق بين الحداثة وما بعدها، يقول الطيّب بو عزّة إن التأليه الذي خُلِعَ على العقل في فلسفة الحداثة نجده حاضرًا في فلسفة ما بعد الحداثة؛ لكنه يلفّ أبعادًا أُخرى غير العقل[6]. فمرحلة ما بعد الحداثة، كما ذهب المسيري، هي مرحلة استبدال الصلب بالسائل والإنتاج بالاستهلاك، "فالهدف النهائي من الوجود في الكون هو الاستهلاك، فلو كان الإنسان العقلاني هو مركز الحداثة الصلبة؛ فإن الإنسان الاستهلاكي هو جوهر ما بعد الحداثة السائلة[7].

 

هذا الاستهلاك أتى بدوره على الانتماء، فطغت النسبيات على المُطلقات، واختفى الإيمان بأي قيمة ثابتة "وهو ما يعني اختفاء النزعة النضالية"[8] في سبيل أي ولاء. وهو ما أسماه باومان بالسيولة وعصر اللايقين وغياب المرجعيات[9].

 

عبدالوهاب المسيري مفكر إسلامي وعالم اجتماع مصري(1938-2008)
عبدالوهاب المسيري مفكر إسلامي وعالم اجتماع مصري(1938-2008)

 

فبالنظر لمصطلح "دوائر الانتماء" -البادئة بالدين والمنتهية بالأسرة-[10] سنجد أن هذه الدوائر تأثّرت بتلك الحالة السائلة واحدة تلو الأخرى، فلو كانت الحداثة قد بدأت بدائرة الدين وقضايا الاستقلال ذات النزعة الدينية، مُبخسةً من قيمة النضال والشهادة -بتعليق باومان- فإن ما بعد الحداثة السائلة قد فكّكت كل هذه الدوائر، حتى وصلت للدائرة الأخيرة بتآكل الأسرة واختفاء تماسكها تمامًا كما أوضح المسيري[11]. فلو أنّ الحداثة استبدلت صلابة الانتماء المعنوية بصلابة المنفعة المادية؛ فإن ما بعد الحداثة السائلة استبدلت كل هذا بالسعي المتواصل خلف الاستهلاك والتحديث وعدم الثبات الذي يتعارض مع الانتماء والاستقرار، بدايةً من الانتماءات الصغيرة كالانتماء للمدرسة والعمل وانتهاءً بالانتماءات الكبرى للوطن والقضايا الوجودية كما أوضحت د.هبة رؤوف في مناقشتها لكتاب الحداثة السائلة[12].

 

أو كما قال رالف والدو إمرسون باختصارٍ شديد، إن "التزلّج على جليدٍ عائم يعني أن سلامتنا في سرعتنا"[13].

 

الإحياء الصلب للانتماء.. الربيع العربي كنموذج

"تثير قضية الانتماء لدى الشباب جدلًا واسعًا بين المفكرين والباحثين، فالأغنيات الوطنية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي كانت تُلهب حماس الجماهير لاجتماعهم حول قضية واحدة، وهي ضرورة تخطّي الهزيمة وتوحّد الجميع لتحقيق هذا الهدف، وبالتالي تحقق الانتصار في حرب السادس من أكتوبر 1973"[14].

 

"عندما يقبل ضحايا غضب الغوغاء بالاستشهاد، فإنهم يضعون الولاء للحقيقة فوق كل حسابات المنافع والمكاسب الحقيقية والمفروضة، الفردية والجمعية والدنيوية، وهذا ما يُميّز الشهيد عن البطل الحديث" (رويترز)

 

قد نجد علاقةً واضحة بين المقولة أعلاه وبين ما ذكره المُعالِج النفسـي، الدكتور حمدي زيد، في مقالِه عن الانتماء والاغتراب النفسـي لدى الشباب من أن الانتماء يرتبط بقضية حقيقية تجتذب حولها أفراد المجتمع باختلاف توجّهاتهم[15]، وأن هذا ما أحدثه الربيع العربي، فأخرج الإنسان القادر على الدفاع عن قضيتِه من ثوب الإنسان العاجز عن أي شيء سوى الاستهلاك.

 

لقد كانت ثورات الربيع العربي النقطة المُفاجئة داخل مسيرة الحداثة السائلة التي انتشلت الإنسان العربي، والشباب بشكل خاص، من حالة الركض المستمرة في عالم السوق إلى الاستقرار النسبي عند القيمة الواضحة والرغبة الجوّانية الخالصة في الانتماء وإظهار تجلّياته على الواقع. فقد كانت كل المعطيات تقضي بأن ما يحدث عبارة عن انتحار مادي لا فائدة منه، ولكن صلابة الفكرة، أو تعطّش الإنسان السائل للقيمة الصلبة التي تحفظ قوامه الفردي الهشّ داخل قالبٍ جماعي مُتماسِك، هو ما دفعه إلى تجاوز برّانية الحياة السائلة إلى جوّانية الحقائق المعنوية، أو كما قال باومان "عندما يقبل ضحايا غضب الغوغاء بالاستشهاد، فإنهم يضعون الولاء للحقيقة فوق كل حسابات المنافع والمكاسب الحقيقية والمفروضة، الفردية والجمعية والدنيوية -المادية، والعينية، والعقلانية، والبراغماتية-، وهذا ما يُميّز الشهيد عن البطل الحديث"[16].

 

لكن، وكما ذكر إصدار مركز الحضارة الخامس "دوائر الانتماء وتأصيل الهوية"، فثمّة جناحان للانتماء، أولهما جوّاني ينطلق من الهوية وتحقيق الذات، وآخر برّاني يتعلّق بالمصالح المُتبادلة والمنافع المُحصَّلة بين الإنسان المُنتمي ودائرة انتمائه[17]، فلو تحقق الأول بعطاء الفرد فإن الثاني لا يتحقق إلا بردّ دائرة انتمائه لهذا العطاء، وهو الأمر الذي لم يتحقق بعد.

 

الاغتراب: الانتماء إلى "اللّا انتماء"

في معرض حديثِه عن السيولة يقول زيغمونت باومان "وهكذا فإن المجتمع الحديث السائل أعلن نهاية فكرة المجتمع الفاضل"[18]. أو بمعنى أدق، ووفق تعبيره نفسه في موضعٍ آخر، فإن النموذج الصلب أو التراحمي القديم كان يؤمن بفكرة الجماعة المتلاحمة بدل المجتمع الفردي الحالي، ذلك المجتمع الذي يتكون من مجموعة الأفراد المنعزلين بشكل تعاقدي مادي لا يحمل أي رؤى مجتمعة مُوحّدة.

 

هذا النموذج السائل للمجتمع الفرداني قد أعاق تيّار الانتماء المجتمعي من حمل أفراده في داخلِه لجفاف هذا التيار نفسه تحت عوامل المجتمع الاستهلاكي المُتسارِع في تفكيك كل شيء بما في ذلك الإنسان نفسه
هذا النموذج السائل للمجتمع الفرداني قد أعاق تيّار الانتماء المجتمعي من حمل أفراده في داخلِه لجفاف هذا التيار نفسه تحت عوامل المجتمع الاستهلاكي المُتسارِع في تفكيك كل شيء بما في ذلك الإنسان نفسه
 

ثم يُكمل عالم الاجتماع البولندي مُشيرًا إلى أن الجماعة الإنسانية الأولى كانت أشبه بالتيّار الذي يحمل الفرد داخله كطوّافٍ يقوده الموج نحو غاية تصنع دائرة انتمائه الكُبرى، بينما المجتمع السائل الاستهلاكي الحالي، الفاقد لمعايير الانتماءات الجماعية والمرجعيات الصلبة، فالفرد فيه أقرب للبحّار الذي لا تسعفه غير بوصلته الشخصية، ولا يهتم سوى برغبته في إشباعه الفردي لقضاياه هو، "فالأول يترك نفسه لتيار النهر، ويساعد في عمله الجريان من حين إلى آخر.. وأمّا البحّار فيتيه في البحر إذا انساق وراء التيارات المتغيّرة والرياح المتقلّبة.. ولا بد له من بوصلة تدلّه على الطريق وزمن الوصول"[19].

 

هذا النموذج السائل للمجتمع الفرداني قد أعاق، كما سبق تناوله، تيّار الانتماء المجتمعي من حمل أفراده في داخلِه لجفاف هذا التيار نفسه تحت عوامل المجتمع الاستهلاكي المُتسارِع في تفكيك كل شيء بما في ذلك الإنسان نفسه، حتى أتى الربيع على مجتمعاتنا العربية ليُجدد التدفّق الانتمائي الحامل للأفراد بداخله من جديد، لكن، وبسبب البناء الهشّ على الحالة اللحظية للانتماء بدلًا من التأسيس للمفهوم نفسه، ارتدّ المرء إلى حالةٍ حادةٍ من الانتماء تدفع ذلك الشاب، الذي لم يبرح الميادين والطُرقات من بضعة سنين في سبيل قضية انتمائية تربطه بمجتمعه، للاستماتة في طلبات الهجرة واللجوء الخارجي لمجتمعات أُخرى، قد تبدو من الجانب الفلسفي أكثر تفكيكًا لما هو إنساني، ولكنّها -على الأقل- تحفظ له ما تبقى من إمكانية الانتماء لذاته والبحث عن بوصلته الفردية لتحقيق رحلة بحرية ناجحة تُحقق له المجد المادي -الشخصي- والثروة بصرف النظر عن أي قضية موضوعية أخرى.

 

وكما يرى إميل دوركايم، "فإن المجتمعات الحديثة عانت أثناء تطورها السريع من غياب المعايير وفقدت حياتها التي كانت تتسم بنظام معين يقوم على التكافل، تخضع فيه مصالح الأفراد لمصلحة المجموع، ما قاد إلى شيوع بعض مظاهر الاغتراب كاليأس والوحدة والقلق والخوف والاكتئاب، فضلًا عن بروز النزعة الفردية والتي ساهم في تكريسها التصنيع والعلمانية والديمقراطية"[20]. هذا الاغتراب يتناسب طرديًا مع معدّل الإحباط الناتج عن خيبة الأمل، وهو ما حدث مع فشل الربيع العربي، فحسب آلان دو بوتون: "فالبنية الأساسية في قلب كل إحباط هي تعارض أمنية مع واقعٍ قاسٍ"[21].

 

ثقافة الاستهلاك والتسويق، وهي ثقافة اغترابية بالضرورة، لأنها تتعمد تغييب الجوانب الوجدانية الإنسانية في الإنسان وتستحضر الجانب النزوي، حيث تجعل من الإنسان نفسه مادة وشيئا مُستهلكًا ومستَهلكًا
ثقافة الاستهلاك والتسويق، وهي ثقافة اغترابية بالضرورة، لأنها تتعمد تغييب الجوانب الوجدانية الإنسانية في الإنسان وتستحضر الجانب النزوي، حيث تجعل من الإنسان نفسه مادة وشيئا مُستهلكًا ومستَهلكًا
 

وفي هذه الحال سنفهم منطقية ارتداد الإنسان لحالة الحياة الفردية الاستهلاكية السائلة، مُنسَحِبًا من السعي وراء الغايات المعنوية، إلى الرغبة في إشباع حاجته الذاتية في التحصيل والاستهلاك وتمضية أيام الحياة في تقدّم مادي، أو السعي خلف طموحات الهجرة والثراء وتحقيق الرفاه، "فهناك ثقافة الأنسنة أو الثقافة الغائية وفقا لمفهوم "إيمانويل كانت"، وهناك ثقافة العولمة أي ثقافة الاستهلاك والتسويق، وهي ثقافة اغترابية بالضرورة، لأنها ثقافة يتم فيها تغييب الجوانب الوجدانية الإنسانية في الإنسان واستحضار الجانب النزوي، حيث تجعل من الإنسان نفسه مادة وشيئا مُستهلكًا ومستَهلكًا في دورة النزوة للتسويق الرأسمالي المدمر"[22].

 

خاتمة

إن حالة الاغتراب التي يعاني منها الواقع الشبابي اليوم يمكن دراستها من جوانب سيكولوجية واجتماعية متعمّقة، كما أشارت مجموعة من الدراسات إلى زيادة نسبة الأمراض النفسية في مصـر بنسب ملفتة عما كانت عليه قبل الثورات[23]، ولكن في كل الأحوال، فإن تناول قضية الاغتراب كنتيجة سيقود، بطبيعة الحال، لتتبع أسبابه وأساسه الذي يُعتبر الاغتراب نقيضًا له، بدايةً من تحليل مفهوم الانتماء كمرجعية صلبة -قيمة معنوية- تم تغييبها بالعقل الحداثي الذي يستند على إعلاء العقلانية المادية والمصلحة البرّانية فوق القيم المعنوية والسمو الوجداني الداخلي، ثم بالخروج بعد ذلك إلى حالة ما بعد الحداثة السائلة التي أذابت حتى عقلانية الحداثة داخل الاستهلاكية ومتتالية الركض المستمر نحو الاستهلاك وثقافة السوق، حينها تم الانتباه إلى تلك الثقافة وهي تتلاشى بشكل ملحوظ أمام صحوة الانتماء الصلبة التي أنشأها الربيع العربي ونجاحه الوقتي كنموذج لإمكانية إحياء القيمة والتضحية وعقلية الشهيد في سبيل قضيةٍ معنوية متجاوزة للمادة في عصـر المادة الأول والسيولة المنفصلة عن المضمون.

 

فهل يمكن اعتبار حالة الربيع العربي نموذجًا حقيقيًا لاسترداد القيم؟ وأن إمكانية تحقيق التحرر الإنساني، عن طريق الدفاع عن قضايا الانتماء والولاء، لا تزال قائمة في خِضم عالم الانفصال عن الوجدان والإنسان؟

 

ربما يحمل هذا الموضوع إجابةً في داخلِه، أو ربما ينير طريقًا نحو الإجابة عن طريق الفهم، لكن -وفي كل الأحوال- "فإن تغييب الجانب الذاتي الحر في الإنسان -عقله وحريته ووجدانه- يدفع بالإنسان إلى دائرة الاغتراب والتشيّؤ، وعلى خلاف ذلك، فكلما تقدم الجانب الحر الذاتي في الإنسان تقدمت الثقافة وازدهر الإنسان"[24]. وهذا هو فصل الخِطاب، وما يستدعي الوعي بخطورة الانزلاق فيه، وأهمية الخروج منه إلى رحابة الإنسان.

المصدر : الجزيرة