شعار قسم ميدان

التعليم دون قيود.. هل يمكن التفكير بمجتمع بلا مدارس؟

midan - مدارس

استعرضنا في الجزء الأول من هذا التقرير الحجج والأفكار التي ساقها إيفان إليش لتبرير دعواه بضرورة تصفية المدرسة كمؤسسة تربوية مارست تاريخيا احتكار قيمة التعليم، وسنتوقف في الجزء الثاني من هذا التقرير على محورين أساسيّين من مجمل أطروحة إيفان إليش:

 

1- ما الخطوات العملية والحلول الواقعية التي يقترحها إيفان إليش بديلا يُستعاض به عن مؤسسة المدرسة؟
2- ما أبرز النقود التي وُجّهت لإيفان إليش ومجمل أطروحته "مجتمع بلا مدارس"؟

 

المدرسة والبدائل التعليمية المقترحة
خروجا من النقد المُوجّه لإيفان إليش باعتبار أفكاره محض نظريات وفلسفات لا يمكن مطاوعتها وإنزالها على أرض الواقع(1) صاغ  إليش فكرة تعليميّة كبديل عن مؤسسة المدرسة اصطلح عليها بـ "الشبكات التعليمية"(2) ويبدو في فكرته هذه متأثرا بسلفه الفيلسوف اللاسلطوي باكونين، إذ يقول في تعليق له على إثر سماعه كلمة من أحدهم "المدرسة ستكون موردا أبديا لنا جميعا": "لن تكون مدارس بعد الآن، ستكون أكاديميات عامة، لن يُعرف فيها لا التلامذة ولا الأساتذة، حيث سيأتي الناس بحريتهم ليحصلوا -إذا احتاجوا- على تعليم مجاني، وهؤلاء الناس -بفضل ثراء تجربتهم الخاص- سيُعلِّمون بدورهم العديد من الأشياء للأساتذة الذين سيُكسِبونهم المعرفة التي يفتقرون إليها، سيكون هذا عندئذ تعليما متبادلا، أو فعلا أخويا تثقيفيا"(3).
 
يجب ألا يبدأ التخطيط للمؤسسات التعليمية المقترحة التي يسميها إليش
يجب ألا يبدأ التخطيط للمؤسسات التعليمية المقترحة التي يسميها إليش "شبكات التعلم" بالسؤال التقليدي الشهير: لماذا يتعلم الإنسان؟ بل يجب أن يبدأ بالسؤال: أي نوع من الأشياء أو الناس يجب أن يتصل بهم المتعلمون خلال عملية التعلم؟

 
ويرى إليش أنّ الفكرة الجوهرية من "شبكة التعليم" تكمن في "إتاحة فرص التعلم أمام المتعلم أينما كان ووقتما يشاء"، وذلك عبر فتح الآفاق للمتعلم من خلال خلق مساحة تتيح له ثلاثة أمور أساسية(4):

أ  .يمنح جميع الذين يرغبون في التعلم فرصة لاستخدام المصادر المتاحة في أية فترة من فترات حياتهم.

ب.  يتيح الفرصة أمام جميع الذين يرغبون في توصيل معرفتهم إلى أولئك الذين يرغبون في الاستفادة منها.

ج.  يتيح الفرصة أمام جميع الذين يرغبون في عرض قضية أمام الجمهور من القيام بمهمتهم.

 

وينطلق إليش في تحديد معالم النظام الجديد وفق تصور مفاده(5) أن الطفل ينشأ في عالم من الأشياء، يحيط به أناس يقومون بدور النماذج للخبرات والقيم، ويجد في الوقت نفسه أقرانا يتحدونه كي يجادل ويناقش ويتعاون ويفهم، وإذا كان الطفل محظوظا فسيجد نوعا من المواجهة والنقد الذي يوجه له من قبل راشد ذي خبرة يهتم به، ويبدو من ذلك أن (6) "الأشياء والنماذج والأقران والراشدين" هي المصادر الأربعة التي يحتاج كل منها إلى نوع خاص من التنظيم حتى يتأكد من أنها أصبحت متاحة أمام كل فرد من الأفراد.

 

ويرى إليش(7) أنه يجب ألا يبدأ التخطيط للمؤسسات التعليمية المقترحة التي يسميها "شبكات التعلم" بالسؤال التقليدي الشهير: لماذا يتعلم الإنسان؟ بل يجب أن يبدأ بالسؤال: أي نوع من الأشياء أو الناس يجب أن يتصل بهم المتعلمون خلال عملية التعلم؟ يحتاج الشخص الذي يريد أن يتعلم إلى شيئين، هما: المعلومات، والاستجابة النقدية إلى كيفية استخدامها.

ويمكن تخزين المعلومات كما يذكر إيفان إليش(8) إما في الأشياء وإما في الأشخاص، وبينما تكون الأشياء في النظام التعليمي الجيد متاحة لدأب المتعلم الخاص، فإن الاتصال بالأشخاص ذوي المعلومات يحتاج- بالإضافة إلى ذلك- إلى موافقتهم، ويأتي النقد أيضا من اتجاهين: اتجاه الراشدين، أي من الزملاء الذين يتعلمون والذين تتوافق اهتماماتهم مع اهتماماتي، أو من أولئك الذين سيمنحونني قسطا من خبرتهم الأعلى.

 

في الوقت الذي يسعى فيه التربويون إلى قصر القيام بمهمة التدريس على من يحملون مؤهلا متخصصا في التعليم، نجد إيلش يدعو إلى ضرورة الاستفادة من أصحاب الخبرات ومن لا يعملون في مهنة التدريس (بيكساباي)
في الوقت الذي يسعى فيه التربويون إلى قصر القيام بمهمة التدريس على من يحملون مؤهلا متخصصا في التعليم، نجد إيلش يدعو إلى ضرورة الاستفادة من أصحاب الخبرات ومن لا يعملون في مهنة التدريس (بيكساباي)

 

وتصنف  الموارد التعليمية في العادة بحسب أغراض المنهج الذي يضعه التربويون، ويقترح إليش هنا أن يفعل العكس  تماما، وذلك بتصنيف أربعة اتجاهات تساعد الطالب على أن يحصل على المورد التعليمي الذي يساعده على معرفة وتحقيق أهدافه الخاصة، وهذه الاتجاهات هي:

1- عالم الأشياء كمصدر للمعلومات: فالأشياء هي المصادر الأساسية للتعلم، وتحدد نوعية البيئة وعلاقة الإنسان بها القَدْر الذي يتعلمه الإنسان منها، إذ يتطلب التعليم النظامي انفتاحا على الأشياء العادية من جانب، أو يتطلب من ناحية أخرى انفتاحا سهلا أو يعتمد على الأشياء الخاصة التي صنعت لأغراض التعلم، ومثال الأول هو الحق الخاص في تشغيل أو تفكيك ماكينة في أحد الكراجات، ومثال الثاني هو الحق العام في استخدام الآلة الحاسبة أو الحاسوب أو الكتاب أو حديقة الأحياء النباتية أو ماكينة سحبت من مجال الإنتاج ووضعت تحت تصرّف الطلاب، أي المطلوب أن نخترق حاجزين خطيرين يعوقان عملية التعلم بمعناها المنفتح لكل طالبي المعرفة، الأول يقيمه عالم الصناعة الحديث عندما يحرص على ألا يفتح أبواب التعلم من أشيائه إلا للمتخصص، وبالتالي يحرم المتعلم من فرصة اكتساب خبرات جديدة، والثاني تُقيمه المدرسة حول الأشياء التي تجهّزها للتعلم داخل أسوارها فتحرم غير التلاميذ من الاستفادة منها، فضلا عما تؤدي إليه إجراءاتها من رفع تكلفة هذه الأشياء، فإذا أردنا مجتمعا غيرمُمدرس فيجب علينا أن نعكس اتجاهين(9):

أولا: يجب أن تكون البيئة الطبيعية في متناول الجميع، بحيث تتاح الفرصة لمن يريد أن يقف على كيفية عمل الآلات والأجهزة المستخدمة في الصناعات اﻟﻤﺨتلفة.

ثانيا: أن تصبح تلك المواد التي خصصت للتعليم في خدمة التعلم الذاتي دون ربطها بمنهج دراسي معين، فمثل هذا الربط قد يسد ميول الطلاب.

  

2- تبادل الخبرات: وفي الوقت الذي يسعى فيه التربويون إلى قصر القيام بمهمة التدريس على من يحملون مؤهلا متخصصا في التعليم، نجد إيلش هنا يسخر من هذا الاتجاه ويدعو إلى ضرورة الاستفادة من أصحاب الخبرات ومن لا يعملون في مهنة التدريس. إن كثيرا من المدارس تعاني من نقص شديد في مدرسي بعض التخصصات، وخاصة تلك التي تقوم على تعليم مهارات عملية مثل الاقتصاد المنزلي والتربية الموسيقية والتربية الفنية وغيرها، ولو تخلينا عن تلك الطقوس المحيطة بالمهنة لاستطعنا أن نستثمر العديد من الخبرات المهارية التي لا بد أن سوق العمل لديه منها الكثير.

 

تحتاج حرية تبادل الخبرات العامة إلى ضمانات قانونية تسمح بالتمييز على أساس المهارات اﻟﻤﺨتبرة فقط، وليس على أساس التاريخ العلمي
تحتاج حرية تبادل الخبرات العامة إلى ضمانات قانونية تسمح بالتمييز على أساس المهارات اﻟﻤﺨتبرة فقط، وليس على أساس التاريخ العلمي

 
ويبدو من الوضع القائم حاليا أن الأغراض الشخصية المتضاربة هي التي تتآمر لمنع الرجال من تبادل خبراتهم، ذلك أن العارف بالخبرة يربح من جعلها عملة نادرة وليس من جعلها متاحة للجميع، كما يربح المدرس الذي يتخصص في توصيل الخبرة من عدم رغبة الحرفي في جعل تلاميذه ينطلقون في مجال العمل. وهناك طريقتان تسهلان عملية تبادل الخبرات(10):

  

الأولى: أن ننشئ مراكز حرة لتبادل الخبرات تفتح أبوابها أمام الجمهور، ويمكن -بل يجب- أن تفتح هذه المراكز في المناطق الصناعية على الأقل لخدمة تلك الخبرات التي تعتبر شروطا أساسية لتلمذة ما، وهي خبرات القراءة والطباعة ومسك الحسابات واللغة الأجنبية وبرمجة الحاسوب واستخدام الأرقام وخلاف ذلك.

 

الثانية: أن تُعطى الفرصة لبعض الفئات ذات الخبرات والمهارات الجيدة لتعليم غيرهم داخل مراكز تبادل الخبرة نظير أجر، وربما يكون الطريق الأكثر فعالية هو تأسيس بنك لتبادل الخبرات، حيث يعطي كل مواطن قرضا أساسيا يتمكن به من الحصول على الخبرات الأساسية اللازمة له، وتُعطى قروض كذلك لهؤلاء الذين يعلّمون غيرهم كي يتمكنوا من الاستفادة والتعلم ممّن يرتفعون عنهم في مستوى الخبرة، ويمكن كذلك منح الآباء قروضا تمكّنهم من تعليم أبنائهم.

 

وبصفة أساسية، تحتاج حرية تبادل الخبرات العامة إلى ضمانات قانونية تسمح بالتمييز على أساس المهارات اﻟﻤﺨتبرة فقط، وليس على أساس التاريخ العلمي، ويحتاج مثل هذا الضمان -بكل تأكيد- رقابة عامة على الاختبارات التي ربما تستخدم لتأهيل الأشخاص في سوق العمل.

   

إن إتاحة الفرصة أمام الناشئ منذ فترة مبكرة للقاء الآخرين وتقويمهم تساعدهم على تكوين رغبة دائمة في البحث عن رفقاء جدد في المحاولات الجديدة
إن إتاحة الفرصة أمام الناشئ منذ فترة مبكرة للقاء الآخرين وتقويمهم تساعدهم على تكوين رغبة دائمة في البحث عن رفقاء جدد في المحاولات الجديدة

 
3- ملاءمة الأقران: تجمع المدارس -رغم مساوئها- بين الزملاء في فصل واحد، ويشتركون جميعا في أنشطة تعليمية موحدة وتسمح في أحسن حالاتها (في نظام الساعات) لكل طالب بأن يختار عددا محدودا من المقررات، لكن هذا الالتقاء مع الأقران إنما يكون عادة حول أهداف يحددها المدرسون، بينما التعليم المرغوب فيه هو الذي يسمح لكل فرد بأن يحدد النشاط الذي يبحث فيه عن قرين يلائمه.(11)

  
صحيح أن المدرسة تتيح للأطفال فرصة الهروب من منازلهم ولقاء أصدقاء جدد، لكن هذه العملية في الوقت نفسه تحصر اختيار الأطفال لأصدقائهم من بين أولئك الذين وضعوا معهم، ويبدو أن إتاحة الفرصة أمام الناشئ منذ فترة مبكرة للقاء الآخرين وتقويمهم تساعدهم على تكوين رغبة دائمة في البحث عن رفقاء جدد في المحاولات الجديدة. ويمكن القول إن نظام تبادل الخبرات يحتاج إلى مكافآت أو قروض أو أية حوافز أخرى حتى يمكن تشغيله، لكن نظام ملاءمة الأقران لا يحتاج إلى مثل هذه الحوافز، إذ كل ما يحتاجه هذا النظام هو شبكة للاتصالات.

  

ولقد وضح لنا أن أشرطة التسجيل ووسائل الحفظ والتدريس المبرمج ووسائل مضاعفة الأشكال والأصوات كلها تساعد على تقليل الاعتماد على العنصر الإنساني عند تعلم كثير من المهارات، كما تزيد في الوقت نفسه من كفاءة المدرسين وعدد المهارات التي يمكن أن يتعلمها الإنسان خلال فترة حياتية، وتتوازى مع ذلك حاجة متزايدة للالتقاء مع أناس يحرصون على الاستمتاع بالمهارات الجديدة المكتسبة.

يجب أن يكون التعليم اللامدرسي باعثا لزيادة البحث عن الأفراد الذين لديهم البصر العميق والاستعداد لتدعيم الاتجاه في التعلم وإفادة الآخرين بما يملكون من نماذج الخبرة والمعرفة
يجب أن يكون التعليم اللامدرسي باعثا لزيادة البحث عن الأفراد الذين لديهم البصر العميق والاستعداد لتدعيم الاتجاه في التعلم وإفادة الآخرين بما يملكون من نماذج الخبرة والمعرفة
  

وستكون عملية إدارة شبكة ملاءمة الأقران من الأمور السهلة، إذ سيقوم المستخدم لهذه الشبكة بتعريف نفسه عن طريق ذكر اسمه أو عنوانه ووصف النشاط الذي يحتاج فيه إلى قرين، وسيرسل له الحاسوب أسماء وعناوين جميع أولئك الذين يشاركونه نفس الاهتمام(12) وهذا الأمر صار متاحا بشكل كبير عن طريق شبكات التواصل الاجتماعي والغرف الصوتية وغيرها، ولذلك البعض يرُد نشوء التعليم الشبكي ككل إلى إيفان إليش باعتباره أوّل من فكر في الأمر بصورة عملية.

  
4- المعلمون المحترفون: وإذا كانت اللامدرسية كما تبدت في آراء إيلش التي سقناها توحي بأنها تسعى إلى الاستغناء عن المعلم، فإن هذا النقد الذي وجّهه إليش للمعلمين والإلحاح على ضرورة إقصائهم عن عملية التعليم والتعلم قُصِدَ به هذه الحالة المترهلة بالشكل والفلسفة والأسلوب القائم فعلا في التعليم الآن بما يؤدي إليه من احتكار واستبداد وقهر لشخصيات التلاميذ، ومن ثم فالاستغناء التام عن المعلم شبه مستحيل، وهنا يبرز السؤال التالي: إذن، أي معلم هذا الذي تسعى اللامدرسية إلى توفيره؟!

  

إن المتعلمين في ظل النظام الجديد لمّا كانوا قد تحرروا من سيطرة الآخرين وجب أن يتعلموا كيف يستفيدون من النظام الذي اكتسبه الآخرون خلال تجربة حياتهم، ويجب أن يكون التعليم اللامدرسي باعثا لزيادة البحث عن الأفراد الذين لديهم البصر العميق والاستعداد لتدعيم الاتجاه في التعلم وإفادة الآخرين بما يملكون من نماذج الخبرة والمعرفة، وهكذا مع اختفاء مُدرّسي المدارس تنشأ ظروف تحتم ظهور المعلمين ذوي النوعية الخاصة.

 
وبهذا المقترح الرباعي وتفاعلاته الذي دعى إليه إيفان إليش -مع الإشارة إلى ما أسلفنا في الحديث عنه في الجزء الأول- نكون بذلك قد قمنا بتلخيص جامع لأطروحة إيفان إليش، غير أنّ قدر كل فكر جديد ورأي جسور خضوعه لتشريح النقاد والباحثين.(15)

  

إيفان إليش على طاولة النقد
عديدة هي النقود التي وُجّهت إلى كتاب إيفان إليش وأطروحته "مجتمع بلا مدارس"، والتي تبدأ من مقالات الرأي إلى الأبحاث الأكاديمية كما هو الحال مع هربرت جينس (الأستاذ في جامعة هارفارد) أو الكتب الكاملة كما هو الحال مع مايكل ماكلين في كتابه "عندما تذهب المدارس"(16) ويمكننا إجمال النقد المُوجّه لإليش في أمرين: 
 
يرى زالدفير أنّ إليش نظر إلى الإنسان باعتباره كائنا مدفوعا للبحث والتعلم على الدوام، بيد أنّ الواقع العياني يقول إنّ المراهقين والأطفال يفضلون اللعب على أجهزة الحاسوب بدلا من السعي لاكتساب مجموعة من المهارات التي تسمح لهم أن يكونوا أعضاء مساهمين في المجتمع
يرى زالدفير أنّ إليش نظر إلى الإنسان باعتباره كائنا مدفوعا للبحث والتعلم على الدوام، بيد أنّ الواقع العياني يقول إنّ المراهقين والأطفال يفضلون اللعب على أجهزة الحاسوب بدلا من السعي لاكتساب مجموعة من المهارات التي تسمح لهم أن يكونوا أعضاء مساهمين في المجتمع
 

النقد الأوّل: يرى النُقّاد من أمثال الدكتور هيذر فوكي(17) أن إيفان إليش أسرف في تبنيه النزعة الراديكالية -الجذرية- في نقده للنظم التعليمية، وهذا أمر يُساهم في الهدم أكثر ممّا يدعو للبناء، خصوصا أن البدائل المقترحة في كثير من الأحيان غير مؤهلة، ويغلب عليها الطابع الفلسفي المثالي المفتقد للتوجيه العملي.

 
وإذا كانت مؤسسة المدرسة تعاني من أعطاب عديدة فالحل ليس في تجاوزها، إنما في إصلاحها، فحوادث السيارات والطائرات التي يذهب ضحيتها ملايين البشر سنويا لا تدفعنا لتجاوزها والدعوة إلى إلغائها، وإنما تدفعنا لتطوير سبل السلامة ووسائل الأمان والراحة. وعليه فإنّ سوء المدارس وقبح نُظمها التعليمية يمثل تحدّيا ومحُفّزا لنا للتطوير والإصلاح لا للهدم والإلغاء.(18)
 
النقد الثاني: يرى جون زالديفار(19) أنّ من المشكلات الأساسية في أطروحة إليش تكمن في افتراضه المثالي والحالم الذي بنى عليه رؤيته البديلة للنظم التعليمية والمتمثلة في "شبكات التعليم"، وهنا يرى زالدفير أنّ إليش نظر إلى الإنسان باعتباره كائنا مدفوعا للبحث والتعلم على الدوام، بيد أنّ الواقع العياني يقول إنّ المراهقين والأطفال يفضلون اللعب على أجهزة الحاسوب وتزجية الأوقات في السينما والتنقل بين صفحات الموضة بدلا من السعي لاكتساب مجموعة من المهارات التي تسمح لهم أن يكونوا أعضاء مساهمين في المجتمع التعليمي الذي يراهن عليه إليش، وهنا تغدو فكرة الشبكات التعليمية مبنية على افتراضات واهية عن طبيعة الانسان.

  

وختاما، فقد مضى على كتابة إيفان إليش لأطروحته ما يقارب نصف قرن، مساهما في ذلك بتحريك رواكد التصورات وبدهيات المعارف في الحركة التعليمية في القرن العشرين، والتي أثمرت فيما بعد العديد من الحركات الإصلاحية والإبداعية في إطار العمل التربوي من باولو فريري إلى خان أكاديمي ومن ماريا مونتيسوري إلى حركات التعليم المنزلي.

المصدر : الجزيرة