"التمركز حول الأنثى".. كيف نظر المسيري للحركة النسوية؟
حتى أواخر الستينيات كان الإنسان بإنسانيته إطارًا مرجعيًا للحركات في تلك الحقبة، وذلك بوضع حدود فاصلة بين الإنسان والطبيعة وافتراض وجود مركزية ومعيارية ومرجعية إنسانية، وطبيعة إنسانية مشتركة، تحتكم إليها هذه الحركات، غير أنّ معدّلات الترشيد المادي للإنسان بعد ذلك تصاعدت؛ فأُعيدت صياغة المجتمع والإنسان ضمن معايير المنفعة المادية والجدوى الاقتصادية كما يرى المسيري.
ويتابع المسيري أن هذه التغيرات أزاحت الإنسان من المركز إلى الهامش، وحلّت محلّه السلع والأشياء، وتمددت هذه النظرة المادية فشملت كل جوانب الحياة، حتى غدا أي عمل إنساني مؤطَّرًا بكونه العمل الذي يقوم به المرء نظير الأجر النقدي في رقعة الحياة العامة تحديدًا؛ وهذا بدوره يُقصي الأمومة عن كونها عملًا اعتباريًّا ذا قيمة، كذلك تنشئة الأطفال والأعمال المنزلية الأخرى، لأنها أعمال بلا أجر مادي، حتى تمكّن هذا المفهوم من كثير من النساء بعد أن تسرّب إلى اللاوعي في الزمن القريب الماضي، فأصبحت كل ربة بيتٍ إن سُئلت عن عملها أجابت على استحياء أنها "لا تعمل بل تجلس في البيت"[1].
ومع ثورة المعلومات والانفتاح غير المنضبط على وسائل التواصل الاجتماعي تنعكس هذه النظرة سلبًا على نفسية النساء العاملات في بيوتهنّ رغم مشقّة ما يقُمن به وأهميته وسموّه قبل كل ذلك، لكنه يحكم عليه بالدونية لأنه ليس خاضعًا لمعايير القيمة التي غزت المجتمع كما ذكر عبد الوهاب المسيري، وهي:
– معيار المادة.
– معيار الأداء في رقعة الحياة العامة.
وبهذا يكون الإنسان قد تفكك وتحوّل من الإنسان المركز المنفصل عن الطبيعة إلى الإنسان الهامش المادي المتّحد مع الطبيعة والذائب فيها والمستمد أحكامه القيمية حسب معاييرها، وعلى صعيد نسوي محض فقد تُرجم هذا التحوّل بظهورحركة الفيمينزم، والتي يترجمها المسيري: "التمركز حول الأنثى"، ولا يقبل باستسهال تسميتها "فيمينزم" أو اختزالها بكلمة "النسوية"؛ لأن هاتين الكلمتين لا تنفُذان إلى المفاهيم الكامنة وراء المصطلح الكثيف والذي يحمل عدة معان، خصوصًا أنّ هذه المصطلحات غير بريئة ولا محايدة، فهي تحمل جينات ثقافة المجتمعات التي نشأت بها، وتحاول تهجين المجتمعات الأخرى بهذه المواريث الغريبة عنها.
وبهذا تتحول الحركة النسوية إلى:
– حركة تدور حول فكرة الهوية بعد أن كانت تدور حول فكرة الحقوق الاجتماعية والإنسانية للمرأة.
– تجترح الحركة رؤية معرفة أنثروبولوجية اجتماعية شاملة للمرأة قديمًا وحديثًا، فهي تعيد قراءة كل ما كان ويكون، وبناء نظريات وحدود وفق الثنائية المفترضة.
– الانطلاق من مفهوم صراعي للعالم؛ حيث يتمركز الذكر على ذاته، والأنثى على ذاتها، ويصبح تاريخ الحضارة البشرية صراعًا بين الرجل والمرأة ومحاولة من المرأة للتحرُّر من هيمنة الرجل.
وبهذا لا يغدو غريبًا حسب المسيري أنّ دعاة التمركز حول الأنثى يطرحون برنامجًا ثوريًّا يدعو إلى إعادة صياغة التاريخ واللغة والرموز والطبيعة البشرية ذاتها. كذلك لا يُرتاب من قيام بعض المستشفيات في الولايات المتحدة بعقد دورات تدريبية للرجال مع وضع أكياس بلاستيكية على بطونهم تنقل لهم ذبذبات معينة حتى يستشعروا أحاسيس زوجاتهم أثناء الحمل والولادة، لأنه وفق منظور الحركة فالرجل لا يحمل ولا يلد فلا يمكنه الشعور بآلام المرأة وأحزانها وأفراحها فترة الحمل ولحظة الولادة!
وتبلغ الرؤية الواحدية والثنائية في الصراع ذروتها -الكارثية- عندما تقرر الأنثى أن تدير ظهرها للآخر الذكر لتنصرف عنه تمامًا، فهي وحدها مرجعية ذاتها، معلنة استقلالها الكامل عنه على الأصعدة جميعها، وحينئذٍ يُصبح السحاق هو التعبير النهائي عن الواحدية الصلبة، وهو الأمر الطبيعي الوحيد المتاح للمرأة التي ترفض أن تؤكد إنسانيتها المشتركة، التي لا يمكن أن تتحقق إلا داخل إطار اجتماعي وسياق تاريخي، وكما قالت إحدى دعاة التمركز حول الأنثى المساحقات: "إذا كانت الفيمينزم هي النظرية، فالسحاق هو التطبيق"[2].
وبكل الأحوال تمسي المرأة "امرأة" في الاصطلاح لكنها لا تدل على "الأم – الزوجة – – الأخت – الحبيبة" التي نعرفها والتي لها دور مستقل داخل إطار الجماعة الإنسانية الشاملة، فالمرأة التي عرفت "أماً" خلال الحقب الماضية حان الوقت الآن لكي تُعرف "شخصية" ، وفي الحوار حول الأم والشخصية بحسب ما ذكر علي عزت بيغوفيتش، فإننا نجدهما مفهومين متناقضين، يجعلنا نوقن أن جدلية النساء يثير الارتباك[4].
وتذكر الدكتورة هبة رؤوف عزت أنه بسقوط الأم والزوجة تسقط الأسرة ويتراجع الجوهر الإنساني المشترك، ويصبح لكلٍّ مصلحة خاصة، وقصص صغيرة خاصة، والمساحات المشتركة الجامعة تتقلص شيئًا فشيئًا حتى تختفي، والجميع يجابهون الدولة وقطاع اللذة بمفردهم، ويسوّى الجميع بالحيوانات والأشياء فتسود "الواحدية السائلة" التي لا تفرّق بين الرجل والمرأة أو بين الإنسان والأشياء[5].
ويرى علي عزت بيغوفيتش أنه بذلك تمسي المرأة مجرّدة من "الأمومة" التي لا يعوّضها أي منصب وظيفي آخر، وبالمقابل تتقوّض الأسرة أمام انهيار القيم الأسرية وتلاشيها بفعل الدعوة إلى الحرية الأسرية والجنسية والاجتماعية والانعتاق من قيود الدين والأخلاق[6]. لكن الحياد يبلغ قمّته والسيولة تصل ذروتها في انعكاسات حركة التمركز حول الأنثى ثوريا على اللغة عند الإشارة إلى الإله؛ فلا يجب أن يُشار له بضمير المفرد المذكّر أو المفرد المؤنث حتى لا تكون اللغة مشاركة بالانحياز إلى الرجال مقابل اضطهاد النساء، ما الحل إذن؟
الحل يوضحه ترجمات الإنجيل الأخيرة، حيثُ أشير إلى الإله بـ: "It, She, He".ويُقارب المسيري بين حركة التمركز حول الأنثى والحركة الصهيونية، بجامع بينهما وهو "الثنائية الصلبة"، فكما تتمحور الحركة حول ثنائية الأنا والآخر منكرة مرجعية صلبة مشتركة بينهما؛ فإن الحركة الصهيونية تُنكر الإنسانية المشتركة فتقسم البشر إلى يهود وأغيار فقط، وتصدر عن الإيمان بأن "الأغيار" يحملون وزر تاريخ الاضطهاد الدائم لليهود "كل اليهود"، وعزلة الأغيار عن اليهود كاملة، وانفصالهم وصل درجة أن الواحد لا يمكنه أن يشعر بشعور الآخر، فكل إنسان جزيرة منغلقة مكتفية بذاتها[7].
وعوضًا عن الحديث عن "تحرير المرأة" ندرس ما حولنا لندرك أن أزمة المرأة جزءٌ من أزمة الإنسان في العصر الحديث، والنابعة من تزايد معدلات الاستهلاك، الذي يحرك إيقاع حياتنا. ولا بد أيضًا أن يُعاد تعليم الرجل بحيث يكتسب بعض خبرات الأبوّة، والعيش داخل الأسرة والجماعة، وهي الخبرات التي فقدها الإنسان مع تآكل الأسرة وتحرّكه داخل الحياة العامة؛ بهذا يمكن أن يشارك الرجل في تنشئة الأطفال ويعاين بقرب جهد المرأة في التربية، فالحل كما يرى المسيري لا يتمثل بتمركز طرفي الأسرة على ذواتهما، كل على حدة، وإنما بانفتاح كل طرف على الآخر، والانطلاق من الأسرة كنقطة مركزية، مما يعيد الرجل لأهمية تفاعله الإنساني، ويحد من شعور المرأة بالمظلومية التي انعكست في محاولات تمركزها حول ذاتها.
ويذكر المسيري أنه من المفيد ألّا نتحدث عن "حق المرأة في العمل"؛ أي: العمل المنتج ماديًّا، ونعيد صياغة رؤية الناس بحيث يُعرّف العمل بـ "العمل الإنساني"؛ أي المنتج إنسانيًّا، وهنا تصبح "الأمومة" أهم الأعمال المنتجة، فيقل إحساس المرأة العاملة في المنزل بالغربة وعدم الجدوى، ويزداد احترام المجتمع لها وتقدير عملها. كما يمكن تطوير نظم تعليمية جديدة تمكّن المرأة من الاستمرار بالتعليم دون دخول صراع نفسي بين الرغبة في التعلم والنزعة الفطرية نحو الأمومة.
وهذا كله يجنح إلى تقليص الأعباء النفسية الناجمة عن الأمومة، وتحرير المرأة من الأعباء المنزلية البدنية، ويجب أن يُرافق هذا كله دراسة جادّة ومعمّقة نقديًّا وأخلاقيًّا لظاهرة تحرير المرأة في الغرب داخل إطار الترشيد المادي وإطار الفكر المادي الصراعي أحادي الجانب المتمركز حول الأنثى كما يرى المسيري[8].