شعار قسم ميدان

"مجموعة السوائل".. طريقك إلى نظرية "باومان" في علم الاجتماع

midan - زيجمون باومان
اضغط للاستماع
     

في سلسلة من المؤلفات، تُخرج لنا "الشبكة العربية للأبحاث والنشر"، إصداراتها المترجمة لأعمال عالم الاجتماع البولندي، والأستاذ بجامعة "ليدز" البريطانية، "زيجمونت باومان" (1925 – 2017)، واضعة إياها ضمن سلسلة "الفقه الاستراتيجي" والتي تعني بنشر الأطروحات الفكرية القادرة على الربط بين العلوم الشرعية والعلوم الإنسانية والاجتماعية، وفهم الواقع المعاصر بأبعاده المركبة.

     

أما في سلسلة السيولة، يتناول "باومان"، بترجمة للدكتور"حجاج أبو جبر وتقديم للدكتورة "هبة رؤوف عزت"، مفهومي الحداثة وما بعد الحداثة بنظرته الخاصة، ليحولهما إلى مصطلحين جديدين على القارئ العربي، فيبدل الحداثة (وهي مرحلة سيادة العقل على كل شيء) بتعبير الحداثة الصلبة، ويعبّر عن مرحلة ما بعد الحداثة (وهي مرحلة تفكك المفاهيم الصلبة والتحرر من كل الحقائق والمفاهيم والمقدسات) بتعبير الحداثة السائلة، ليخرج لنا بسلسلة السيولة التي كونتها كُتبه الثمانية عن هذه الظاهرة، فمن كتابه الأول "الحداثة السائلة" ينطلق "باومان" إلى ما طالته السيولة من "الحياة، والحب، والأخلاق، والأزمنة، والخوف، والمراقبة، والشر".

     

وفي تعريفه لمصطلح السيولة الذي يعنيه، يشرح لنا "باومان" في أول هذه الكتب "الحداثة السائلة" مفهوم السيولة بأنه انفصال القدرة (ما نستطيع فعله) عن السياسة (ما يتوجب علينا القيام به)، أو بكلمات أبسط، فإننا إذا اعتبرنا مرحلة الحداثة الصلبة هي مرحلة الإنتاج والتطور الذي تتحكم به الدولة وتكبح جماح الأفراد لصالح المجموع، فإن مرحلة السيولة هي مرحلة تخلي الدولة عن هذا الدور وفتح السوق أمام الرأسمال الحر والاستهلاك والتحديث المستمر الذي لا غاية ولا هدف له إلا المزيد من الاستهلاك والإشباع الفوري والمؤقت للرغبات.

      

وفي زمننا هذا، يرى "باومان" أن الاستهلاك قد تجاوز فكرة السلعة المادية إلى استهلاك العواطف والعلاقات الإنسانية وتكنولوجيا التواصل، بالصورة التي أثرت كثيرا على معاني الحياة والحب والأخلاق، وبالطريقة التي جعلتنا مراقبين باستمرار بسبب استهلاكنا النهِم للتكنولوجيا الحديثة، مما أدى إلى سيولة الخوف تحت وطأة الاستهلاك والقلق مما يخبئه الغد، وأنتج لنا اضطرابا أخلاقيا أصبح معه الشر مُبررا حتى من جانب الدولة، فكيف رأى "باومان" في سلسلته كل ذاك؟

       

الحداثة السائلة
undefined
       
عندما يكون التغير هو الثابت، ويكون اللايقين هو اليقين الوحيد، تكون السيولة التي طالت الأشياء وبشّر بها "باومان" في أطروحاته الأخيرة حول الحداثة وما ألقت به ظلالها على الأشياء. ففي كتاب من فصول خمسة تتحدث عن التحرر، والفردية، والزمان/المكان، والعمل، والمجتمع[1]، ينقلنا "باومان" من الحداثة التي "تعني محاولة الوصول إلى حالة نهائية من الكمال"[2] إلى مرحلة الحداثة السائلة التي هي "عملية تحسين وتقدم لا حد لها"[2] فلا حالة نهائية في الأفق تخبرنا بالهدف من هذا التحديث، ولا رغبة من الأصل في وجود حالة كتلك.

       

بتعبير آخر، فـ"باومان" يرى أن المركز اليوم تحول نحو "الاستهلاك بمعناه العميق للمكان والقيم والأشياء والعلاقات في ظل العولمة"[3]، وأصبح التحديث المستمر لكل شيء، دون وجود أي غاية من هذا التحديث، هو الغرض في حد ذاته، فإن "ما تتميز به طريقة الحياة الحديثة عن أنماط الحياة السابقة السائدة يكمن في التحديث الوسواسي القهري الإدمانيّ"[2].

                 

        

هذا التحول، من الصلابة إلى السيولة، ألقى بظلاله -حسب "باومان"-  على قيمتي طول البقاء وسرعة الزوال، "ففي تحوّل عظيم صار المجتمع يعظّم، أيّما تعظيم، المرونة في قلب الأشياء رأسا على عقب، والتخلص منها، والتخلي عنها، فضلا عن الروابط الإنسانية التي يسهل حلها والفكاك منها، والواجبات التي يسهل الرجوع عنها، وقواعد اللعب التي لا تدوم أطول من زمن اللعبة، فقد ألقي بنا جميعا في سباق نلهث فيه وراء كل جديد"[2]. ففي ظل السيولة كل شيء ممكن أن يحدث، لكن لا شيء يمكن أن نفعله في ثقة واطمئنان[2]!

       

هذا التحديث المتتالي وذلك الاستهلاك المستمر قد تسببا في حالة من الفردية طغت على أهمية الجماعة، فأصبح كل فرد يواجه الحياة بمفرده، فأضحى المجتمع عبارة عن جماعة تواجه مشاكلها بشكل فردي، كل فرد على حدا، فأصبحت التجمعات البشرية، في الحفلات والمعارض والمنتجعات السياسية والمراكز الرياضية، تجمعات صاخبة تخلو من أي علاقات إنسانية، بل هي علاقات سطحية تقوم على ممارسة اللحظة الحاضرة واستهلاكها دون الاهتمام بتكوين روابط حقيقية.

        

ففي غياب الأمن طويل الأمد، "يبدو الإشباع الفوري استراتيجية مغرية معقولة، فأي شيء ربما يقع في يد المرء، عليه أن ينعم به على الفور، فمن يعلم ماذا يمكن أن يحدث في المستقبل؟"[2]. إنه عصر القلق، والخوف المتزامن مع كل ثانية يحياها المرء، ولن تتمكن التكنولوجيا ولا تقدمها من أن يزيدا فرصة الحياة المستقرة؛ بل على العكس تماما، سيسلبان من الفرد كل إمكانية بتطوير الذات، فالسيولة "التي تطرح أمامنا الخيارات اللامتناهية تضيق علينا أكثر، فلا سكينة، ولا هدوء روحي، بسبب امتزاج كل شيء وغياب الشيء الواضح والمفهوم والثابت"[2].

        

الحياة السائلة
undefined
          
في أول تطبيقات السيولة، وبعد التمهيد الطويل في "الحداثة السائلة"، يخرج لنا "باومان" بكتابه الثاني "الحياة السائلة"، الصادر عن دار النشر ذاتها، ليخبرنا باختصار أن ما يعيشه العالم اليوم هو حياة سائلة تمثل سلسلة من البدايات الجديدة[4]، في إشارة لما أصبحت عليه حياتنا من استهلاك لا ينقطع.

            

فالحياة السائلة -وفق "باومان"- حياة استهلاكية تجعل من العالم، بكل أحيائه وجماداته، موضوعات للاستهلاك، تفقد نفعها بمجرد استخدامها، فتفقد سحرها وجاذبيتها وإغراءها، وتتشكل معايير تقييم الأفراد وفق قدرتهم على الاستهلاك، أي أنك كلما استهلكت ارتفعت قيمتك، وهكذا، ففي عالم حديث سائل، فإن الفرد يقبع تحت الحصار من قِبل كل الأحوال التي تمنيه بالحرية، ولكنها في الحقيقة تحاصره بخلق الاحتياج[5].

       

ويقسم "باومان" كتابه إلى سبعة فصول هي: الفرد تحت الحصار، من الشهداء إلى الأبطال ومن الأبطال إلى المشاهير، الثقافة خارج السيطرة والإدارة، البحث عن مأوى لى في صندوق باندورا أو الخوف والأمن والمدينة، المستهلكون في مجتمع حديث سائل، تعلم السير على الرمال المتحركة، التفكير في أزمنة مظلمة[6].

       

     

ويشير في مقدمة كتابه إلى أن ثمة علاقة وطيدة بين "الحداثة السائلة" و"الحياة السائلة"، أي أن حياة الناس في مجتمع حديث سائل لا يمكن أن تحتفظ بشكلها ولا  أن تظل على حالها لوقت طويل، فهي حياة محفوفة بالمخاطر يحياها الإنسان في حالة من الترقب والحذر الدائمين، فهو كتاب عن "عالم حديث سائل".

     

ولعل أخوف ما يواجهه الإنسان في حياة كتلك هو احتمال الفشل من اللحاق بالمستجدات المتسارعة، فالحياة في مجتمع كهذا أشبه بلعبة الكراسي الموسيقية، حيث يكمن الرهان الحقيقي في النجاة من الاستبعاد المؤقت[4]، فالفرد أضحى تحت الحصار الذي يبسطه الاستهلاك، وأصبح التوجس الحقيقي هو أن يغفل المرء اللحظة المناسبة التي ينبغي عليه فيها تبديل أشيائه/علاقاته بماركة تجارية جديدة غير التي معه.

     

ويظهر معنى الشهادة كتجلّ آخر للحياة السائلة، حيث يتحول الشهيد في الماضي الذي يموت من أجل قيمة معنوية، إلى "البطل" الذي يضحي من أجل المكاسب المادية للدولة، وأن قيمة البطل تتناسب مع الحياة السائلة وتجد التقدير أكثر من قيمة الشهيد. فالإنجاز في حياة كتلك لم يعد يُنظر إليه باعتباره إنجازا واحدا مقطوعا، بل بوصفه صراعا يوميا متواصلا، لا يحقق انتصارا نهائيا كاملا، ولا يرجى أن يصل إلى خطّ النهاية، بل يدفعه على الدوام الأمل في الانتصار والاستهلاك.

    

الحب السائل
undefined

           
في عزف متصل، يكمل "باومان" سلسلته السائلة، فيخرج من "الحياة" إلى "الحب السائل" الذي أصبح معبرا عن هشاشة الروابط الإنسانية، في مجتمع استهلاكي يكمل منظومة الاستهلاك ويتجاوز استهلاك الجمادات والأشياء إلى استهلاك العواطف والعلاقات. فكل الروابط التقليدية الثابتة قد فقدت سيطرتها ولم تعد مرغوبة كما كانت من قبل.

            

وتخرج الترجمة العربية للكتاب بملحوظة افتتاحية للدكتورة "هبة رؤوف" التي ترى رحلة "باومان" في كتابه هذا عبارة عن ترحال يبدأ من الفلسفة ويدخل في صلب الاجتماع ثم ينتهي إلى السياسة[7]، ويقع هذا الإصدار في أربعة فصول هي: الوقوع في الحب والخروج منه، دخول العلاقات الاجتماعية والخروج منها، أحبب جارك كما تحب نفسك، تفكيك الاجتماع البشري[8].

       

ويرى "باومان" أن ما يحكم العلاقات في مجتمع الاستهلاك هو التعامل مع العاطفة بالتعامل نفسه الذي نتعامل به مع السلعة، فهو عالم من الصلات العابرة التي يمكن الاستغناء عنها كأي منتج تم استهلاكه، وهي الصلات، أو العلاقات، التي يطلق عليها علاقات الجيب العلوي، كناية عن سهولة الاستغناء عنها بعد إشباع الاستهلاك، "ويتناول باومان الحياة العاطفية، فيدخل إلى عالم الصلات العابرة حيث كل الصلات يمكن الاستغناء عنها – مثل منتج تم استهلاكه – فالعين تمتد دوما إلى ما وراء اللحظة، وتتطلع إلى ما يتم تزيينه أنه الأفضل، غير راضية بما هو متاح"[9].

         

كما يتطرق باومان لسيطرة العوالم الافتراضية على عالمنا الحقيقي، وكيف أن العلاقات في الواقع أصبحت تُقاس بمقاييس الواقع الافتراضي، أي أن ضغطة زر واحدة على "حذف" أصبحت تُستعمل في الحياة الحقيقية كتعبير عن سرعة إنهاء العلاقات وكأنها لا شيء، وكذا سرعة تسرب الملل إلى الحياة الزوجية -عما مضى- بسبب استشراء معاني الاستهلاك داخل النفوس بالبحث الدائم عن اللذة الفورية قصيرة الأجل، ففي ظل تنامي السيولة في كل شيء، وتحوّل "المجتمع" إلى مجرد "تجمّع بشري"، تحوّل هذا الإنسان من "وضوح العلاقات الاجتماعية" إلى "غموض الصلات العابرة".

      

الأخلاق في عصر الحداثة السائلة
undefined 
       

لا شيء جديد من حيث المبدأ، ولكن التناول هذه المرة يختلف، فـ"باومان" سيتحدث هنا عن الاستهلاك وما أنتجه من سيوله، ولكنه سيضع ذلك على ميزان الأخلاق في كتابه "الأخلاق في عصر الحداثة السائلة"، والصادر عن "هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة"، بترجمة مشتركة بين "سعيد البازعي" و"بثينة الإبراهيم".

      

ويقع في فصول ستة، هي على الترتيب: أي فرصة للأخلاق في عالم استهلاكي معولم، القتل الباتر وإرث القرن العشرين وكيف نتذكره، الحرية في حقبة الحداثة السائلة، حياة عجولة: تحديات الحداثة السائلة للتعليم، بين الرمضاء والنار أو الفنون بين الإدارة والأسواق، جعل الكوكب مضيافا لأوربا[10].

        

والكتاب يقدم، كسابقيه، رؤية نقدية للظواهر في عصر السيولة، بتركيز حول الأخلاق والتعاملات الأخلاقية وأثر الاستهلاك عليها، وما تسببت فيه العولمة بخصوصها. فالعولمة -حسب "باومان"- تنتج "سيولة البشر بتدفقهم من مكان إلى آخر، وسيولة المال وإلغائه للحدود التقليدية التي أقامتها الحداثة الصلبة، وسيولة الهويات بتغيرها المستمر، وسيولة القيم الأخلاقية من خلال النزعة الاستهلاكية وما عنته من تمظهرات في السلوك وفي المعتقدات"[11].

       

فالكتاب في أصله تنظير لمصطلحي الصلابة والسيولة كبديلين للمصطلحين الدارجين: الحداثة وما بعد الحداثة، حيث يذهب "باومان"، من خلال ذلك، إلى السؤال الرئيس داخل صفحات الكتاب وهو : هل للأخلاق فرصة في عالم استهلاكي؟ ليجيب عن ذلك بأن الأخلاق في عالم الاستهلاك أصبحت، هي الأخرى، سائلة وفاقدة للثبات والصلابة اللذين كانا حاضرين في الفترات السابقة.

      

ففي عالم السيولة تتغير القيم والهويات وتسيل الحدود السياسية وتفقد الحواجز التقليدية تأثيرها وأهميتها بسبب حركة رأس المال والهجرة المستمرة من أجل البحث عن الربح السريع، وهو ما يؤثر بدوره على ثبات القيم وصلابة الأخلاق التي قد تواجه منفعة الكسب والاستهلاك فتكون معرضة للهزيمة والتطويع من أجل ألا تتوقف عجلة الاستعمال السريع.

       

الأزمنة السائلة.. العيش في زمن اللايقين
 undefined
          
مرة أخرى نعود إلى إصدار "باومان" الرابع من خلال "الشبكة العربية"، بترجمة "حجاج أبو جبر" وتقديم الدكتورة "هبة رؤوف"، حول "الأزمنة السائلة" أو "العيش في زمن اللايقين". وفي خمسة فصول، يشرح لنا "باومان" تصوره عن زمننا المعاصر وفق الترتيب الآتي: الحياة الحديثة السائلة ومخاوفها، حركة الإنسانية الدائبة، الدولة والديموقراطية وإدارة الخوف، معًا.. ولكن فرادى، وأخيرا: اليوتوبيا في عصر اللايقين[12].

        

والأزمنة السائلة في تفسير "باومان" هي حياتنا المعاصرة التي تعاني من تحول في هياكل المجتمعات من الصلابة إلى السيولة -كما هو معتاد- وهي التحولات التي يرى "باومان" بدايتها من تفكك الأبنية المجتمعية والمؤسسات التي تضمن العادات المجتمعية وأنماط السلوك، والتي لم تعد قادرة على الحفاظ على عادات المجتمع وسلوكه لفترات طويلة كما السابق، وهو ما أدى إلى "ارتفاع رصيد المخاوف نتيجة غياب التوقع وتآكل العرف ومنظومة الأخلاق الاجتماعية"[13].

          

ثم ينتقل "باومان" إلى الانفصال الحادث بين السلطة (ما نستطيع فعله) والسياسة (ما ينبغي أن نفعله) بما يفصل أهداف أفعالنا عن أفعالنا ذاتها وهو النتاج الفعلي للاستهلاك بلا غرض نهائي، وهو الأمر الذي يتوافق مع انسحاب الدولة من دورها الاجتماعي في العالم الغربي وتقليص وظيفتها في كفالة أفراد المجتمع غير القادرين بما يفكك مفهوم المجتمع، لنرى النهاية أن السمة الكبرى للأزمنة السائلة هي أنها أصبحت تفتقد للتفكير بعيد المدى والتخطيط الطويل؛ لأن الأشياء أضحت ذات عمر استهلاكي قصير. 

        

الخوف السائل
undefined 

             

كنتيجة متوقعة، من هذا العصر السائل والعلاقات الإنسانية العابرة في زمن اللايقين، يخرج "باومان" بنقد آخر للحداثة في مرحلتها السائلة بخصوص الخوف الذي يحياه إنسان العصر الحديث، فيعرض لنا كتابه "الخوف السائل"، الذي يخبرنا بأن العهد الذي قطعته الحداثة على نفسها بتحرير الإنسان من الخوف، لم يتم فقط نقضه، وإنما تم توزيع هذا الخوف نفسه على الأفراد، بدلا من الدولة.

            

فهؤلاء الأفراد الذين سقطوا في سجن الخوف، بعد أن وعدتهم الحداثة بتحريرهم منه، صاروا يشعرون بالتهديد الدائم من المستقبل والخوف المستمر من مصيرهم المجهول لما أدّت له السيولة من سرعة في الاستهلاك والاستبدال. ويفصّل الكتاب تلك الأطروحة من خلال ستة فصول، هي على النحو التالي: الخوف من الموت، الخوف والشر، الهلع مما لا يمكن إدارته، أهوال العولمة، إطلاق عنان الخوف، والتفكير في مقابل الخوف (خلاصة غير نهائية للحيارى)[14].

       

وفي شرح هذا التحول، يذهب "باومان" إلى أن الدولة -في عصر الحداثة الصلبة خاصة في العالم الغربي- قد وعدت مواطنيها بالتخلص من الخوف الذي ساد في عصور ما قبل التنوير، وهو الخوف الذي قام على ثلاثة أركان هي: الخوف من الطبيعة، والخوف من المرض والموت، والخوف الإنساني بين البشر وبعضهم[15] وفقا لمقولة هوبز أن "الإنسان ذئب لأخيه الإنسان".

           

لكن، وعلى الرغم من محاولات الدولة الحداثية في تحييد هذه المخاوف عبر التقدم الطبي والردع القانوني للأفراد، فإننا أصبحنا -وفق رؤية "باومان"- أمام دولة جديدة في الغرب تنسحب من أدوارها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، لتترك الفرد في مواجهة عولمة الاقتصاد والرأسمالية، خادما لأغراضمها وخاضعا لسلطتهما عليه، وهو ما يصنع القلق الدائم من المستقبل المتغير، والخوف المتصل من فقدان الوظيفة أو السلعة أو المكانة، ليصبح الهلع التي تسببه هذه السيولة، ووفق الفصل الثالث من الكتاب، هلعا لا يمكن إدراته.

             

المراقبة السائلة
 undefined

           

في حوار أجراه مع عالم الاجتماع "ديفيد ليون"، يعرض لنا "باومان" في كتابه الجديد رؤيته هو و"ليون" حول مفهومهما للمراقبة في عصر الحداثة السائلة، وما آلت إليه أساليب المراقبة التي سالت وتسربت في أدق تفاصيلنا اليومية، من خلال سبعة فصول، هي على الترتيب: الطائرات من دون طيار ووسائل التواصل الاجتماعي، المراقبة السائلة ومرحلة ما بعد البانوبتيكون، البعد والإبعاد والتحكم الإلكتروني، اللاأمن والمراقبة، النزعة الاستهلاكية والمواقع الإلكترونية والفوز الاجتماعي، المراقبة من منظور أخلاقي، وأخيرا: القدرة والأمل[16].

           

وتعلق الدكتورة "هبة رؤوف"[17] على الكتاب بوصفه كتابا في علم اجتماع الآلة وأثرها في الوعي بالذات، وفي تطوير وتوظيف التكنولوجيا لخدمة أجندات سياسية تتعدى على الحريات وتنتهك الحدود الشخصية عبر الأجهزة الرقمية الحديثة ومواقع التواصل التي تفاجئك بإعلان عن سلعة كنت قد تحدثت عنها مع صديق، أو تقترح عليك صداقة شخص قابلته في مناسبة ما، دون أن تعي أنت صلاحياتها، التي تضغط عليها "موافق" عند تثبيتها، وأنها أضحت تتضمن هذا النمط السائل من المراقبة.

        

وينطلق كتاب "المراقبة السائلة" من نظرية سجن "البانوبتيكون" عند "ميشيل فوكوه" والذي يجلس  فيه المراقب خلف زجاج معتم، داخل برج يتوسط مجموعة دائرية من الزنازين المغلقة، لا يرى فيها أي من المساجين زملاءه ولا يرى بالطبع من يراقبه، وهو النموذج الصلب من المراقبة الذي سال داخل سجون الرأسمالية الحديثة التي نسكنها كمستهلكين، ولكننا لا ندخلها كسجناء تحت القمع، وإنما كمترفين ومتمتعين، أو مضطرين لحاجة التواصل مع العالم دون قهر مادي علينا.

           

فتكون الخصوصية غموضا يحاول المرء دفعه عن نفسه بعرض حياته على شبكات التواصل بتفاصيلها، وأصبح غياب المرء وحضوره يتحددان بعدد الساعات التي يتوفر فيها على تلك المواقع، فيعرض المرء نفسه للمراقبة بالصورة التي أعطت لأصحاب الأجندات السياسية دفقا غزيرا من المعلومات لم تكن تحلم في الماضي أن تحصل عليه، لذا فالكتاب هو نقاش حول السؤال الناتج من هذه السيولة، وهو: كيف تؤثر هذه المراقبة السائلة في تصوراتنا عن الذات وسلوكنا المجتمعي وعلاقتنا بالعالم؟

        

الشر السائل.. العيش مع اللابديل
 undefined

         

كعمل مشترك آخر، يُخرج لنا "باومان" والفيلسوف الليتواني "ليونيداس دونسكيس" كتابهما الخاتم لسلسة السيولة حول مفهوم "الشر السائل" الذي تديره الدولة الحداثية، والذي أفرد له الكتاب فصوله الأربعة التاليات: الاحتفاء بالنزعة غير الشخصية، من عالم كافكا إلى عالم أوريل: الحرب هي السلام والسلام هو الحرب، أين وفاء الحداثة بالعهود الكبرى التي قطعتها على نفسها؟ وأخيرا: أشباح الأسلاف المنسيين: مراجعة للنزعة المانوية[18].

       

ويقوم الكتاب بالأساس على فكرة مفادها أن الشر قد أصبح، في الرؤية السياسية للدولة، شيئا طبيعيا يمكن تبريره وتسويغه، وليس مضادا للخير على الدوام؛ لذا يرى الكاتبان أنه من السهل تبرير الخيانة في نموذج نفعي كهذا، فإذا انتهت أعمال الخيانة والقتل إلى الاحتفاظ بالسلطة أو توسيع نفوذها، فمن السهل تصنيفها على أنها تضحية مؤلمة في سبيل غاية وطنية.

          

فإذا نجحت المؤامرة أو الانقلاب فإن المتآمرين يصبحون أبطالا ورموزا للدولة، وإذا حدث العكس فإن الخيانة ستكون التوصيف الأمثل لفعلهم، بل وسينساهم التاريخ بأي ذكر حسن حتى لو كانوا في الأصل ينقلبون على سلطة غاشمة، كما هو الحال مع محاولات التآمر على "هتلر" إبان الحرب العالمية الثانية، إذ أضحى المتآمرون خونة؛ لأن "هتلر" كان هو من ينتصر.

           

ذلك الشر لا يسيل على يد الدولة فقط، وإنما يرى الكتاب، والسلسلة بأكملها، أن المواطنين يساهمون في ذلك بصورة ما، حيث أصبح الشر، حسب "هبة رؤوف"[19] كامنا في التفاصيل اليومية، بما يبلغ حد الاعتياد، عند هؤلاء الذي يفرحون بالشر -تحت مسمى خدمة الدولة- بسبب ما أنتجته السيولة من تمييع للقيم الأخلاقية وتغييب الحقائق الصلبة في نفوس الكثيرين، ليصدقوا الأكذوبة التي سردها "جورج أورويل" في روايته الشهيرة "1984" بأن الحرب هي السلام، وأن الإكراه هو الرعاية الحنون.

            

بهذا الكتاب كان "باومان" يختتم رحلته مع ظاهرة السيولة التي قامت "الشبكة العربية للأبحاث والنشر"، ونظرا لأهمية هذا الطرح، بترجمة سبعة كتب منها، وأضافتها لسلسة "الفقه الاستراتيجي"، التي يتقارب هدفها مع أعمال "باومان" حسب تعليق الدكتورة "هبة رؤوف" في عرضها لكتابه الأول "الحداثة السائلة"؛ إذ رأت في ما أصدره الرجل عمقا في الطرح، ونظرة لم تكن تشاؤمية على الرغم من صعوبة الواقع الذي تحلله، إلا أنها أثارت العديد من الأسئلة المحورية والهامة في كل قضية فتحها على حدا، وتلك هي الأهمية الحقيقية لسلسلة "باومان".

المصدر : الجزيرة