شعار قسم ميدان

من بن نايف لابن خاشقجي.. هكذا يرسم بن سلمان لحظات الجريمة الأخيرة

midan - bin salman

استمع للتقرير

  

العينُ برقٌ والكفوف تُرَعّدُ

والقلب نارٌ والعذابُ مؤبدُ

أنتَ الذي قطَّعت من حنق أبي

ولك المحامدُ كلها والسؤددُ!

قتل القتيل، ولم يسر بجنازةٍ

بل جاء بي وبإخوتي كي يشهدوا

أبدي، وهل تخفى عليكَ عداوتي؟

"الجرو" يا "جساسُ" لا يتنهدُ

سأقيم من عظمِ الذين تحبهم

ثأرًا وسيفي في الضلوعِ الغامدُ

سترى بعين المادحينَ: عويلنا

 مترائيا أن الصديق هو العَدُوْ

   (أحمد فرج)
 

    

لم تكن مصافحة محمد بن سلمان لنجل جمال خاشقجي، صلاح، سوى حلقة أخرى من جريمة بدت كاملة، حين استقبل الملك السعودي، سلمان بن عبد العزيز، وولي العهد محمد بن سلمان، أبناء الصحفي السعودي جمال خاشقجي المقتول داخل القنصلية السعودية بإسطنبول، لتقديم العزاء لهم، في قصر اليمامة.

    

    

مشهد حمل معه بُعدا تراجيديا (مأساويا)، اجتاحت معه الصورة مواقع التواصل الاجتماعي، مُثيرة سيلا من النقاشات حولها، والتي عبر عنها أحدهم بقوله إنها تغني عن الكلام. فكتب أحد المعلقين: "نظرة العين والقهرة والسلام البارد والإيد اللي ع السلاح تكفي"، وغرّد آخر: "بص نظرة الخوف من محمد بن سلمان، بص نظرة القهر من صلاح خاشقجي، هات عاليها واطيها يا الله".

 

"بيني وبين قاتلي حكاية طريفة

 فقبل أن يطعنني، حلَّفني بالكعبة الشريفة

 أن أحبس الدماء عن ثيابه النظيفة

 فهو عجوز مؤمن سوف يصلي بعد ما يفرغ من تأدية الوظيفة".

قصيدة لأحمد مطر استدعاها أحد رواد مواقع التواصل

  

    

وبين متابع ومحلل، وبين غاضب ومهلل، يظهر السؤال التالي، هل هدفت الصورة للتغطية على جريمة القتل، وما وظيفة الصورة داخل القضايا السياسية، وكيف وظّف محمد بن سلمان الصورة لصالحه في مختلف اللحظات المفصلية؟

   

الصورة لا تكذب!

لم يكن مشهد لقاء الملك سلمان وابنه لعائلة خاشقجي هو المشهد الأول الذي تستخدم فيه السلطة السعودية الصورة بهدف الترويج لنفسها وخلق رواية جديدة في الشارع السعودي والعربي مخالفة لما يحدث في الواقع. وبالرجوع قليلا إلى الشريط الزمني لابن سلمان، تتبدى لنا مشاهد عدة، بدءًا من انقلابه على ولي العهد الشرعي محمد بن نايف، وإزاحته ليتولى منصب ولي العهد بالمملكة السعودية، واعتقاله بعض الأمراء في فندق الريتز كارلتون، وزجّه المعارضين لسياساته داخل السجون وحتى الصامتين من الدعاة والمثقفين، ليوظف ابن سلمان الإعلام والصورة لرواية واقع جديد.

    

   

لا تعدو مشهدية الصورة التي حازتها مصافحة ابن جمال خاشقجي أكثر أهمية عن الصورة التي تصدرت المشهد حين صعود الأمير الشاب، صورة صنعها ابن سلمان بمسرحية متقنة ترجل فيها ابن نايف عن منصبه أمام الكاميرات داعيا بالتوفيق لابن سلمان بعد أن قام ولي العهد الجديد بتقبيل ابن نايف. مسرحية سبقتها ترتيبات من ابن سلمان في أروقة الإعلام، موجها أقلامه باتجاه إظهار ابن نايف بصورة الأمير "البائس العجوز المدمن" الذي لا يصلح للحكم. حينها، كتب الصحفي البريطاني ديفيد هيرست، في مقال له، نشر الثلاثاء 25 يوليو/تموز من عام 2017 على موقع ميدل إيست آي البريطاني، "إن صحيفتي "وول ستريت جورنال" و"نيويورك تايمز" بالإضافة إلى وكالة "رويترز"، نشروا تقارير تفيد بأن "محمد بن نايف أُطيح به من منصبه كولي للعهد بسبب إدمانه على العقاقير المسكنة للآلام، ولم يشيروا إلى المصدر الحقيقي لهذه المعلومات". (1)

 

قصة إدمان ولي العهد السعودي السابق، محمد بن نايف، لم تكن سوى مجرد حكاية سعودية لتدمير سمعته بحسب ديفيد هيرست، "مؤكدا أن من سرّب هذه المعلومات هو المستشار السابق في الديوان الملكي، سعود القحطاني، الذي نظم لقاء مع الصحفيين بهذا الشأن لتشويه سمعة بن نايف وتقديمه كمدمن مخدرات". وأوضح الكاتب البريطاني أن القحطاني أصبح أكثر من عين وأذن لولي العهد الحالي محمد بن سلمان في الديوان الملكي، مؤكدا أن القحطاني يقوم بالاتصال بالصحفيين السعوديين لإخبارهم أنهم ممنوعون من الكتابة أو التغريد، وهو العمل المظلم نفسه الذي كان يمارسه خالد التويجري في عهد الملك عبد الله. (1)

   

   

هذه التكتيكات كما أورد هيرست هي نفسها التي استخدمها ديوان الملك عبد الله في محاولة لمنع سلمان من وراثة العرش حين كان وليا للعهد، وقتها حاول التويجري استخدام إصابة سلمان بالخرف كوسيلة لإيصال متعب بن عبد الله للسلطة، ولكن المؤامرة بلغت نهايتها بسبب وفاة الملك. (1) لكن، وبعد أن استتب الأمر لمحمد بن سلمان، تغيرت صورة محمد بن نايف، فعاد الصديق الذي يرفض المؤامرات الداخلية والخارجية على المملكة ويحافظ على أمنها الداخلي، كما يظهر في تلك التغريدة التي نشرت فيديو لاحتفاء كبير حظي به محمد بن نايف لحظة وصوله عزاء خاله جلوي بن عبد العزيز.

     

   

حسنا، يمكن اختصار اللعبة المشهورة للإعلام عامة باعتبارها لعبة الصديق الملائكي أو العدو الشيطان، وهي لعبة تقوم على دراما الخير والشر التي يخلقها الإعلام كصورة ذهنية في عقول الجمهور، وتنقل بعض الدراسات الإعلامية تجربة وقعت في أحد المعتقلات الألمانية لجنود الحلفاء أثناء الحرب العالمية الثانية، حيث كان على السجناء أن يرشحوا أحدهم لقيادة المعسكر والتعامل مع الضباط الألمان، وكان هناك مرشحان يتنافسان، حينها لاحظ المراقبون أن أحد المتنافسين قد فكر في الأمور التي يتوقعها السجناء من رجل يثقون به حين يُمثلهم وهي:

– أن يتخذ تجاه السلطة المعتقلة موقفا صارما.

– أن يتفهم رفاقه ويُعاونهم.

– أن يُوزّع المؤن بإنصاف.

    

وبناء على تلك النقاط، قام أحد المتنافسين بإيجاد موضوع لملصقات المرشح المنافس بسهولة، والتي علقها لاتهام المرشح الأول بأنه:

– خاضع كليا للألمان.

– يتكبّر على رفاقه.

– يُوزّع المؤن على المقربين.

 

وجد المراقبون أن هذه التهم بالفعل قد زعزعت الثقة بين السجناء وبعضهم بعضا، لأنها جسّدت مخاوفهم في شخص ذلك المرشح الذي تحول إلى "عدو محتمل" (2)، وهذا ما فعله إعلام السلطة السعودية مع محمد بن نايف، فقد انقلب الإعلام السعودي من شيطنته إلى تبجيله عندما انتهى خطره، أي حينما أُزيح عن منصبه تحديدا.

 

في هذا السياق، يذهب المفكر الفرنسي بيير بورديو إلى أن المخاطر السياسية الملازمة لاستخدام الصورة تأتي من حقيقة "أن للصورة تلك الخاصية التي يمكنها أن تنتج ما يسميه نقاد الأدب "تأثير الواقع"، الصورة يمكنها أن تؤدي إلى رؤية أشياء وإلى الاعتقاد فيما تراه، هذه القدرة على الاستدعاء لها تأثيرات ونتائج تعبوية، يمكنها أن تخلق أفكارا أو تعبيرات مختلفة عن الواقع الحقيقي". (3)

    

     

يشرح بورديو باختصار أن الصورة قادرة على بناء مشهد مخالف للحقيقة، ويمكن أن "تُعبأ وتُشحن بمضامين سياسية وأخلاقية قادرة على إثارة مشاعر قوية وغالبا سلبية مثل مشاعر العنصرية والعداء والتحيز.. والنتيجة النهائية البسيطة هي أن واقع التقرير أو التسجيل التقريري للواقع يستلزم دائما بناء اجتماعيا للواقع قادرا على ممارسة تأثيرات اجتماعية تعبوية". (3)

  

 وما دام هناك من الجمهور من يصدق فلماذا يتوقف الإعلاميون عن الكذب؟، وهو الأمر الذي دفع آل جور قبل عدة سنوات أن يكتب محذرا: "يبدو أن الاعتماد الدائم القوي على الأكاذيب، كقاعدة للسياسة، حتى في مواجهة دليل ساطع قوي، قد بلغ مستويات لم يكن أحد يتصورها من قبل" (4)، لكن وكما يقول بورديو فإن الصورة سواء الفوتوغرافية أو الفيديو قد تخطت مرحلة الكذب إلى مرحلة خلق الواقع بالكامل.

   

عندما تتحول قضية سياسية إلى مشاهد كاذبة

"أنا لست الشخص الذي يقول أنا سامحت ولكني لن أنسى، بل أقول أنا سامحت ونسيت معا"

 

هذا ما قاله الأمير السعودي الوليد بن طلال عقب الإفراج عنه، بعد نحو شهرين من اعتقاله مع عدد من الأمراء داخل فندق "ريتز كارلتون" بالعاصمة الرياض، وأضاف الوليد بن طلال في أول مقابلة إعلامية عقبت الإفراج: "لقد كنت ضد الفساد في السعودية باستمرار، للأسف تم ضمي لتلك المجموعة، والآن أنا خارجها، والحياة عادت إلى طبيعتها". (5)

    

   

وفي مقابلته مع وكالة رويترز، التي سُمح لها بدخول الفندق وإجراء مقابلة مع ابن طلال قبل ساعات من الإفراج عنه، تكلم الأمير المعتقل، على أن الحياة داخل الفندق تبدو عادية مثل الحياة في بيته تماما، ، وأن المشهد داخل الفندق مختلف تماما لما يثار من إهانة يتعرض لها أمراء العائلة المالكة، فهو يمتلك مكتبه ويتابع أعماله ويُجري اتصالاته، ويمارس حياته العادية من داخل الفندق.

 

تبدو ما يمكن أن نسميه "إدارة الصورة" من قبل ابن سلمان، سعيا منه لفرض رواية السلطة، أقلها للرأي العام الداخلي بعد كل حدث مضطرب، وهذا بالضبط ما يطرحه المفكر اليساري "غي ديبور" حول أن الواقع اليوم لم يعد هو الذي يُشكل علاقة الأفراد بما حولهم، بل قام المشهد بمنازعة الواقع هذه المكانة، حتى صار المشهد هو الواقع. يقول ديبور: "لقد انحطت الحياة المتماسكة لكل فرد إلى عالم مشهدي، هذه المشهدية للعالم تؤثر على الواقع، لأنها تتجنب كل نشاط إنساني.. لأن كل ما يؤثر في حياة الإنسان في هذا المجتمع يتم عرضه على صورة مشهد، فالانتخابات مشهد، وخطبة الرئيس مشهد، والاعتصام مشهد، والحادث الأليم والحرب والمظاهرات والحب والصداقة والعائلة والابتسامة والبحار والغابات وحتى السماء بل والفضاء مشهد، لا يحتاج منك الأمر التحرك من مكانك للمشاركة، بل كل ما فاتك ستشاهده من خلال "المشهد"، وحتى لو فاتك المشهد يمكنك مشاهدة الإعادة". (6)

  

ولأن كل شيء تحول إلى مشهد، يظهر هنا دور وسائل الإعلام ومن ورائها السلطات في التحكم في "المشهد" وإعادة بنائه وصياغته، على حسب مصالحها، حتى تحولت أي قضية سياسية إلى مجموعة من المشاهد المعاد صياغتها، فتم تفريغ أي قضية من فحواها، وبتنا نعيش في عالم من الكذب.

  

مشهد النهاية.. مصافحة ختمت تفاصيل القصة

على طريقة الأفلام، لم يتم التخطيط فقط لقتل خاشقجي والتخلص من جثته، بل برسم مشهد كامل منافٍ للحقيقة يجعل الجميع يصدقون أن خاشقجي قد اختفى في ظروف غامضة، وأن السلطات السعودية بريئة من دمائه، وسبحة أولياء الله الصالحين يصافح الملك وابنه عائلة القتيل، ويعده بالقصاص والثأر. وكما يقول "ديبور": "إن المشهد هو الحديث المتواصل للنظام القائم عن نفسه، إنه مونولوجه المدائحي، إنه الصورة الذاتية للسلطة في عصر إدارتها الشمولية لظروف الوجود". (7)

   

undefined

     

لكن الرياح المعاكسة عرّت الرواية السعودية، فقد فضحت التسجيلات التي سربتها المخابرات التركية جريمة قتل جمال خاشقجي، ولأن عالم الصورة تهيمن عليه الكلمات كما يقول بورديو، فالصورة يجب أن تُتبع بتفسير يتم قراءتها من خلاله، جاء مدلول صورة مصافحة محمد بن سلمان لصلاح خاشقجي على عكس ما أرادت السلطة السعودية الترويج له، حيث فضحت العيون المشاعر الحقيقية لابن خاشقجي، والتي تختبئ وراء مشهد مصطنع ومزيف، أراد به الملك سلمان وولي عهده محمد بن سلمان أن يغطوا به على جريمتهم.

 

وبذلك، وعلى عكس النظريات الإعلامية التي تؤكد أثر الصورة الأحادي الجانب، فإن الصورة والرواية المعاكسة هي جزء من الحرب الكاملة، التي تفضح عور الزيف، وتُعلي من الحقيقة، تلك الحقيقة التي لا تمحيها مصافحة، ولا تواريها قبلات، وتكشفها نظرات وتسريبات.