شعار قسم ميدان

هل نحن مهووسون حقا بمتابعة فضائح المشاهير؟

midan - main مشاهير
استمع للتقرير

   

إن تصفّحت الصحف اليومية والمجلات عند بائع الجرائد صباحا في طريقك للعمل، فعلى الأرجح لن تجد واحدة منها وقد خلت من قسم خاص يتناول أخبار المشاهير وآخر التطورات في حياتهم على المُستوى المهني والشخصي. وإن فتحت مذياع سيارتك وقلّبت بين المحطات، فبالتأكيد ستصادف برنامجا إذاعيا يستضيف شخصا مشهورا ويحاوره، أو ستجد المذيع يتحدث عن أحد نجوم السينما وأعماله الأخيرة. وإن نظرت حولك على جانبي الطريق، فستطل عليك لافتات متفاوتة الأحجام مطبوع عليها صورة أحد النجوم يُروّج لمنتج ما، أو يظهر في الملصق الدعائي لفيلمه الأخير. وفي العمل، فليس من الغريب أن يدور حوار بينك وبين الزملاء عن زواج فُلان من المشاهير، أو كيف بدت فُلانة من الممثلات باهرة في الفستان الذي ارتدته في أحد المهرجانات، وقد يتطرق الحديث بالطبع إلى فضائح هؤلاء المنتشرة على نطاق واسع وتصير مادة خصبة للنميمة.

        

undefined

  

يبدو إذن أن المشاهير يحتلّون جزءا ليس بالعابر من حياتنا اليومية، وأنه يكاد يكون من المستحيل أن تمضي بضعة أيام دون أن نرى أو نسمع عن واحد منهم عبر وسائل الإعلام المختلفة. بل إن أيًّا منّا لا يستطيع أن ينكر أنه اهتم يوما ما، ولو بشكل طفيف، بأخبار أحد النجوم، وأخذ يتصفح الإنترنت بحثا عنه وعن تفاصيل من حياته الشخصية.

 

بالرغم من المآسي والحروب والكوارث والجرائم التي تضرب أرضا ما كل يوم، يغض معظمنا البصر عن كل هذا ويفضل القراءة عن فضيحة جديدة لنجم مشهور. صار أولئك المشاهير إذن يشغلون مساحة محورية في ثقافتنا الحديثة اليوم، ويقبعون في مركزها، فكيف يا تُرى بدأ ذلك؟ وما السر وراء ولعنا بأولئك الأشخاص وبحياتهم؟

   

View this post on Instagram

🔝🔝🔝#saltbae #salt #saltlife

A post shared by Nusr_et#Saltbae (@nusr_et) on

    
الشهرة.. بين الأمس واليوم

"تاريخ الشهرة لا يتمحور حول شيء أقل من تاريخ الحضارة نفسها"

  

هكذا يكتب دافيد جايلز في كتابه "أوهام الخلود" الدائر حول سيكولوجيا الشهرة. قد يبدو في العبارة للوهلة الأولى نوع من المبالغة، لكن إن تأملتها مليًّا، فستجدها صائبة تماما. فليس المشاهير فقط هم نجوم الرياضة والسينما والتلفزيون، فإن كل قائد حربي عظيم وكل حاكم أسس إمبراطورية واسعة وكل فيلسوف أتى بقبس من الحكمة وكل شاعر صاغ أبيات خالدة هو بالضرورة مشهور؛ وحول هؤلاء يدور التاريخ، هم أبطاله وقواده بينما يؤدي باقي البشر أدوار "كومبارسات" صامتة. (1)

   
"في العام 1066، أصيب شخص عادي قادم من إنجلترا لفرنسا بسهم في عينه". يكتب جايلز هذا متخيلا تاريخا يدور حول الأشخاص العاديين، وكما يبدو واضحا، سيكون ذلك التاريخ مملا للغاية. لهذا، يتنحى العاديون إلى الخلفية، بينما تسلط الحضارة والتاريخ أضواءهما على كل من هو استثنائي وعظيم. وقد كان الاستثنائيون والعظماء يأتون بما يستحقون عليه التخليد، فهذا كان الشرط الضروري والأساسي لأن يصبح أحد ما مشهورا. لكن الشهرة نفسها لم تكن في الماضي تحمل المعاني والدلالات نفسها التي تحملها الآن. (2)

   

تمثال يوليوس قيصر (مواقع التواصل)
تمثال يوليوس قيصر (مواقع التواصل)

   

عن الاختلاف في مفهوم الشهرة بين الأمس واليوم يكتب ماثيو بيرنارد: "في الماضي، كانت الشهرة تعني فعلك لأشياء عظيمة يتذكرك بسببها الآخرون للأبد. وبهذا نجد اختلافا كبيرا بين السعي إلى الشهرة بالمفهوم المُعاصر وبين تحقيق الخلود عبر الشهرة سابقا. فالإغريق القدامى مثلا أرادوا أن يتذكرهم الناس للأبد، بينما الشخص المشهور اليوم يود أن يراه الناس دائما. هكذا أرادت الثقافة الإغريقية القديمة أن تظل جزءا من مستقبل الأجيال القادمة، بينما تسعى ثقافة الشهرة الحديثة للوجود بشكل مُستمر داخل الحاضر؛ الأولى تُؤكّد زوال هذا العالم عبر سعيها لدخول التاريخ، والأخيرة تود الهرب من التاريخ لتبقى دائما في الحاضر". (3)

   
فمشاهير الماضي كانوا نتاج حضارات رأت المجد في ترسيخ المرء لنفسه في التاريخ بالإتيان بما سيؤثر في حياة الناس ويغيّرها بشكل فعّال. أما مشاهير اليوم، فيأتون من قلب حضارة تعطي الأهمية القصوى للحظة الآنية وتتمحور حول كل ما هو مؤقت وسريع الزوال. لهذا، نجد أن الشهرة اليوم فقدت الكثير من عمقها ومعناها، لتُصبح شيئا أغلب الوقت مُسطّحا وفارغا.

  

"في المستقبل، سيتمكن أي شخص من الحصول على 15 دقيقة من الشهرة". (4)هذا ما تنبّأ به الفنان التشكيلي آندي وارهول عام 1968 وهذا ما صرنا نعيشه الآن. فبفضل الصناعة الإعلامية الضخمة، التي تصل أدواتها ووسائطها إلى كل مكان، ليس عليك أن تأتي حقا بأي شيء عظيم لتصبح مشهورا؛ فقد صارت أبواب الشهرة الواسعة الآن تنفتح أمام أشياء بسيطة حد التفاهة، فيكفي مثلا أن نذكر أن شهرة كيم كاردشيان على سبيل المثال بدأت أول ما بدأت بسبب تسريب فيلم جنسي لها، وكذا شهرة الكثير من مشاهير اليوم تعود لأشياء لا تقل سطحية عن ذلك. فالكاميرات صارت موجودة في كل مكان، ولا يوجد شيء أكثر انتشارا من الصور ومقاطع الفيديو اليوم، وبهذا، يكفي أن يصنع أحدهم أي شيء مُثير أو لافت للانتباه وتلتقطه كاميرا ما حتى ينتشر ويصبح مشهورا بين ليلة وضحاها.

     

undefined

   

عن هذا يقول الكاتب جرامي ترنر في كتابه "فهم الشهرة": "نعيش اليوم في حضارة تُقدّر اللحظي والمرئي والمثير على الثابت والمكتوب والعقلاني". وهذا ما نراه مُتحقِّقا في التَبدُّل الهائل الذي لحق بمفهوم الشهرة بين الأمس واليوم، والذي هو بدوره انعكاس لنوعية القيم التي تمجدها كل حضارة. ومع تبدُّل مفهوم الشهرة، تبدلت أيضا الكيفية التي نتعامل بها معها وننظر إليها.(5)

  

نحن والمشاهير

صارت الشهرة في حاضرنا مرادفة لأشياء كثيرة لم تكن تصاحبها بالضرورة في الماضي. وعلى رأسها يأتي الثراء الفاحش، والمظهر اللامع، والسلطة والقوة؛ ليجتمع في المشاهير بعض من أكثر الأشياء التي لا يوجد مَن لا يتمنى أن يمتلكها.

 

هكذا تصبح حياة المشاهير بالنسبة إلينا بمنزلة سطح عاكس تطل منه كل آمالنا وأحلامنا وقد صارت حقيقة واقعة تعيشها تلك القلة المحظوظة. ننظر إلى تلك الصورة البرّاقة، لنرى فيها أشخاصا أوتوا كل متاع الحياة الدنيا من ثروات تبدو لا نهاية لها، وقدرة على شراء كل ما يمكن شراؤه، من بيوت وسيارات فخمة وملابس فاخرة، لطائرات خاصة ورحلات لأماكن لا نملك سوى السماع عنها ورؤية صورها من بعيد. وفوق كل ذلك، فإن الكثير من أولئك المشاهير، وخاصة النساء منهم، يتحلّون بجمال شكلي يجعلهم يُضاهون تماثيل آلهة الإغريق القديمة بهاء.

 

يعيش المشاهير إذن فيما يشبه الواقع الموازي بالنسبة إلينا، يقودون حياة بعيدة كل البُعد عن حيواتنا نحن الأشخاص العاديين المُسخّرين تقريبا بشكل كامل للعمل وجني المال حتى نتمكن من البقاء. نتطلع إلى ذلك الواقع الموازي بفضول ونهم لذلك البُعد الآخر من الوجود الذي لن يتسنى لمُعظمنا أبدا أن يخبره. بالتأكيد كان هنالك فرق طبقي على مر العصور، وأشخاص ذوو ثراء فاحش وآخرون بالكاد يملكون قوت يومهم، لكن عصرنا يختلف عن كل ما سبقه.

 

ففي الماضي، لم يكن يتسنى لأحد من طبقة أدنى -بجانب الخدَم بالطبع- أن يدخل غرف الأثرياء المُغلقة ويشهد أنماط معيشتهم وتفاصيل يومهم. أما اليوم، في عصر الصورة وتقديس الشهرة، تطل علينا حيوات هؤلاء في التلفاز ليلا وفي الصحف نهارا وعلى مواقع التواصل الاجتماعي طوال اليوم.

     

View this post on Instagram

Throwback to a rainy day full of love ❤#london #family #nancyajram ☂

A post shared by Nancy Ajram (@nancyajram) on

   

وبينما وُلد أثرياء العصور القديمة أثرياء، لم تأتِ سوى قلّة قليلة من مشاهير اليوم إلى الوجود مشاهيرَ؛ فقد امتلك معظمهم حيوات لا تختلف عنّا الشيء الكثير، ليحدث ما يغيّر حياتهم رأسا على عقب، ويصبحون فجأة ملء السمع والأبصار. تعطي تلك البدايات الأولى العادية عنصرا دراميا لحيواتهم، يحرك فينا الفضول بشكل أكبر لنعرف ماذا حدث بالضبط لينطلقوا من حالتهم الأولى العادية إلى تلك الأخرى التي نراهم عليها الآن، والغبطة لرؤية أنهم قبل الشهرة لم يكونوا مختلفين عنّا حقا في الشيء الكثير. (6)

  

هكذا، وبسبب الفرق الشاسع بين طرق معيشتنا وطريقة معيشتهم، تصبح حياة المشاهير نفسها بالنسبة إلينا مادة ثرية للتسلية والتندُّر، تُخرجنا من ثقل واقعنا، وتجعلنا للحظات نطوف بخيالنا في حياة لن نعيشها أبدا على الأرجح. لكن ليس كل ما يعيشه المشاهير باهر وبرّاق؛ والكاميرات المُسلَّطة عليهم ليلا ونهارا، وصحافة النجوم التي لا تتركهم وشأنهم إطلاقا، يستطيعون أن يؤكّدوا لنا هذا. فالمشاهير في النهاية كغيرهم من الأشخاص، يواجهون الفشل من آنٍ لآخر في العمل والعلاقات، ولا تخلو حياتهم من الإخفاقات والإحباطات. لكن من قال إننا لا نستمتع بالقراءة عن كل هذا بالقدر نفسه؟

  

"أعتقد أن هنالك نوعا من الرضاء الشاذ الذي يشعر به كل منّا عندما يرى شخصا ما أوتي كل شيء -مال، شهرة، سُلطة، مظهر جميل، العالم كله عند قدميه- ومع هذا، يعاني مثلما نعاني جميعا".(7)

 

هكذا يقول مُصوّر المشاهير بيريز هيلتون، عن الفضول الذي يحملنا على التهام أخبار فضائح المشاهير وسقطاتهم. وتوافقه مايل، ذات الخمسة والعشرين عاما الرأي: "نحب أن نشعر بأننا أفضل منهم شيئا ما، فنحن معظم الوقت محتجزون داخل حيواتنا المُملة الرتيبة". (8)

      

undefined

  

وبالإضافة إلى كل هذا، فإن المشاهير لانتشار أخبارهم في كل مكان، ولمعرفة الجميع تقريبا بها، يُصبحون مادة ثرية للحوار بين الأغراب أو بين أشخاص يحاولون التعرف على بعضهم البعض. فقد لا يملك أحدنا الكثير من الأشياء المُتشابهة مع شخص آخر ليتسنى له الحديث عنها، ولهذا يكون أسهل شيء هو الحديث حول آخر أخبار أو فضائح الساعة، والتي لا يوجد من لم يسمع بها.

   

في كتابه المُؤثر "الصورة، أو ما حدث للحُلم الأميركي"، كتب المؤرخ دانيال بورستين عام 1962 تعريفا ستُثبت الأيام كونه الأدق في تعريف المشاهير: "المشهور هو شخص مشهور بكونه مشهورا". فذلك الخواء الكبير الذي تركه اختفاء كل السرديات الكُبرى التي تضع للإنسان تصوّرا للكون ومكانه فيه، خلّف وراءه مساحة ضخمة أخذت حضارتنا الحديثة في خضم توهناها تحاول ردمه بكل ما لا قيمة له ولا معنى من ورائه، ليتخذ عصرنا اليوم من الشُهرة محورا ومركزا يدور حوله، ولا يقوده هذا بدوره سوى إلى مزيد ومزيد من الفراغ.(9)