شعار قسم ميدان

التكنولوجيا والاستبداد.. وسائل التواصل الاجتماعي ونهاية النظام العالمي الليبرالي

عام 2009، وُضع مصطلح "ثورة تويتر" لوصف طريقة استخدام المتظاهرين تكنولوجيا المعلومات والاتصالات (ICTs)، وبالأخص وسائل التواصل الاجتماعي، لحشد الدعم لقضاياهم والدعاية لها في سياقات مختلفة مثل الانتخابات البرلمانية في مولدوفا والانتخابات الرئاسية الإيرانية. في السنوات التالية، قدّم الربيع العربي وأحداث الميدان الأوروبي[1] في أوكرانيا دليلا آخر على أهمية وسائل التواصل الاجتماعي في تنظيم ونشر المظاهرات. وفي حين ضخّمت التقارير الصحفية والأكاديمية عن الاحتجاجات من دور وسائل التواصل الاجتماعي، كان هناك اعتراف عام بإمكانيات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في تدعيم الديمقراطية.

 

مع ذلك، بعد خمس سنوات على أحداث الميدان الأوروبي، يبدو أن المد قد انحسر. عام 2016، توّج معجم أكسفورد كلمة "ما بعد الحقيقة" كلمة العام. فخلاله، اتُّهمت وسائل التواصل الاجتماعي بالترويج لانتخاب ترمب رئيسا والانحياز لحملة الخروج في استفتاء بريجزت البريطاني من بين أحداث سياسية أخرى. لم تتناقض هذه النتائج مع القيم الليبرالية التي كان من المفترض أن تروّج لها وسائل التواصل فحسب، بل إنها شككت كذلك في فكرة الحملة السياسية الديمقراطية. وكان نشر الأخبار الكاذبة، وتدخّل القوى الأجنبية، والاستخدام غير القانوني أحيانا للتوجيه السياسي أمورا أساسية في الحملتين، وربما كان لها تأثير على النتائج القريبة في كلتا الحالتين.

التكنولوجيا والاستبداد.. وسائل التواصل الاجتماعي ونهاية النظام العالمي الليبرالي

ما الذي حدث في السنوات الخمس الماضية؟ هل كنا مخطئين وسُذّجا بشكل جماعي فيما يتعلق بوسائل التواصل الاجتماعي في أوائل عام 2010 حيث إنها كانت في الحقيقة تمهّد الطريق للاستبداد والطغيان؟ إن العلاقة بين تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والديمقراطية والاستبداد معقدة، فالموجة المتشائمة الحالية واثقة بقدر ثقة الموجة السابقة للتفاؤل التقني. يقدم المقال تحليلا أكثر دقة، فأولا، لا توجد حتمية في العلاقة بين التكنولوجيا والمجتمع. وثانيا، تساهم تكنولوجيا المعلومات ووسائل التواصل الاجتماعي في ظهور الاستبداد بالمعنى التقليدي للمصطلح. ومع ذلك، فهي أيضا أدوات للمقاومة. وأخيرا، يجب فهم العلاقة بين التكنولوجيا والاستبداد في سياق تعثر النظام الليبرالي العالمي.

 

العلاقة بين التكنولوجيا والمجتمع

إن وسائل التواصل الاجتماعي، مثلها مثل جميع التقنيات، ليست في الأساس مفيدة أو مضرة بالديمقراطية. وتوقعت الرؤية التفاؤلية التقنية التي سادت من تسعينيات القرن العشرين حتى عام 2016 في تعميم الإنترنت، والويب 2.0، ووسائل التواصل الاجتماعي تقدما تكنولوجيا لا يمكن إيقافه نحو تحقيق الديمقراطية. وقد استند هذا الاتجاه إلى مقارنة خاطئة بين الطبيعة الموزعة والأفقية للبنية التحتية التكنولوجية للإنترنت والعلاقات الاجتماعية الأفقية التي ستنبثق بالضرورة من استخدامها.

 

منذ عام 2016، يسود نقاش عام تشاؤمي حول العلاقة بين التكنولوجيا والديمقراطية. وتماما مثل خطاب التفاؤل التقني في التسعينيات، يفترض الخطاب التشاؤمي الحالي رؤية حتمية للتكنولوجيا. حيث تُوصف الخوارزميات المستخدمة في وسائل التواصل الاجتماعي ومنصات الإنترنت بأنها "أسلحة تدمير رياضي" أو "خوارزميات القمع". وفي حين أنه من الضروري الإقرار بدور التكنولوجيا في التحولات الحالية، فمن المهم كذلك التأكيد على أن هذا الدور لا يعمل بمنأى عن البنى الاجتماعية الموجودة أصلا.

 

يمكن لدراسات العلوم والتكنولوجيا المساهمة في فهم العلاقة بين التكنولوجيا والسياسة العالمية. كما أن التكنولوجيا تدمج "وتُشكّل جزءا لا يتجزأ من الممارسات الاجتماعية، والهويات، والمعايير، والاتفاقيات، والخطابات، والأدوات، والمؤسسات، وباختصار، إنها في كل اللبنات الأساسية لما نسميه اجتماعيا".

التكنولوجيا والاستبداد.. وسائل التواصل الاجتماعي ونهاية النظام العالمي الليبرالي

 

تكنولوجيا المعلومات والاستبداد

هناك تقاطع مثير للاهتمام بين الوضع السياسي الحالي في العديد من البلدان حول العالم وبين الطريقة التي وصف بها أفلاطون صعود الاستبداد قبل 24 قرنا تقريبا في الجمهورية. أولا، الاستبداد ينبع من الديمقراطية. وكما يقول أفلاطون، "إن الرغبة النهمة [للحرية] وإهمال أمور أخرى يسبب تغييرا في الديمقراطية، وهو ما يستدعي في بعض الأحيان الطغيان". في التفسير الحديث لكتاب "الجمهورية"، يصر باديو[2] على أن فرط الحرية هو في الواقع فائض من نوع واحد محدود من الحرية، يختزل إلى "الإشباع الإجباري للرغبات الشخصية من الأشياء المتاحة في السوق".

 

إن تجاهل كل ما لا يخصك يسمى "استقلالية الشخص البشري". والتخلص من كل مبدأ متصل بالحياة الجماعية يسمى "الحرية الشخصية". و تعتمد الطريقة المهنية الأكثر قسوة على الاسم اللطيف "النجاح الاجتماعي". بينما يسمى أقل قدر من الاهتمام إزاء العمال، أو العاملين من المستوى الأدنى، أو صغار المزارعين، بالـ "شعبوية". وتسمى الدعوة إلى اللامساواة الفاحشة، وتناحر الناس بين بعضهم البعض، وقمع الشرطة لأفقر الناس في المجتمع "شجاعة الانطلاق من الوقائع".

 

على هذه الخلفية، يظهر الطاغية بوصفه حامٍيا للشعب ضد "الطائرات بدون طيار مثلا" وضد فائض الحرية. ومع ذلك، فإن الحامي يتحول في نهاية المطاف إلى حاكم أوتوقراطي. تجدر الإشارة إلى ثلاثة عناصر لطريقة الطاغية التي وصفها أفلاطون من أجل تحليل الدور الحالي لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات ووسائل التواصل الاجتماعي في ظهور الاستبداد. أولا، يملك الطاغية "حشدا كليا تحت تصرفه". ثانيا، يستخدم "الاتهام الباطل" أسلوبَه المفضل. ثالثا، "إنه دائما ما يُثير بعض الحروب أو غيرها، لكي يحتاج الناس إلى قائد". وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات هي أدوات قوية لجمع حشد من الأتباع، وإلقاء الاتهامات الباطلة، وإثارة الصراعات مع المعارضين، والمنتقدين والقادة الأجانب. إن أول ما يتبادر للذهن فورا عند ذكر هذه الطرق الثلاث هو الرئيس الأميركي دونالد ترمب (انظر/ي التغريدات أدناه)، على الرغم من وجود العديد من الأمثلة الأخرى.

تغريدة

"إن داعميّ هم الأذكى والأقوى والأكثر اجتهادا ووفاء في تاريخ بلادنا، إنه لجميل أن نشاهد فوزنا في الانتخابات ونجمع الدعم من كل أنحاء البلاد. وحيث نزداد قوة كذلك دولتنا. أفضل أرقام على الإطلاق!"

تغريدة

"إن جيمس كومي مسرّب وكذاب. لقد ساور الجميع في واشنطن أن من الواجب طرده حتى طُرد بالفعل. لقد سرب معلومات سرية ولذلك يجب محاكمته، لقد كذب على الكونغرس تحت اليمين. كان "كرة كريهة كاذبة" أثبت الوقت أنه مدير سيئ جدا للإف بي آي، و تعامله مع قضية هيلاري الخبيثة، والقضايا المحيطة من أكثر الأمور رداءة في التاريخ. كان من بالغ سروري طرد جيمس كومي"

تغريدة

"إلى الرئيس الإيراني روحاني: إياك أن تهدد مرة أخرى الولايات المتحدة وإلا فستواجه عواقب لم يواجهها سوى قلة عبر مدار التاريخ، لم نعد دولة تتهاون مع كلماتكم المختلّة بشأن العنف والموت.. احذر!"

إن العلاقة المباشرة بين القادة الذين يقدمون أنفسهم باعتبارهم حماة للشعب ضد النخب الديمقراطية من خلال وسائل التواصل الاجتماعي ومنصات الإنترنت تسمح بنشر المعلومات والاتهامات والتهديدات الكاذبة. وغياب الوساطة بين "الحماة" وأتباعهم يسهل تنفيذ الأساليب الاستبدادية للحملات والحكم في سياق الأزمة الديمقراطية. وهذا هو السبب في أنه يمكن القول إن تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لها دور أساسي في ظهور الطغيان في جميع أنحاء العالم.

 

تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والمقاومة

يزدهر عدد لا يُحصى من الممارسات البديلة المقاومة، في وجه الاستخدامات المهيمنة لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات. فالتكنولوجيا ذاتها التي تسمح للزعماء المناهضين للديمقراطية بالتحكم في الجماهير، تقدم أيضا أدوات جديدة للنشاط والحركات الاجتماعية والسياسات التحررية.

 

تمكّنت الاحتجاجات العابرة للحدود على الإنترنت من التأثير على الأجندة السياسية العالمية على مدى السنوات القليلة الماضية. والمثال الأكثر لفتا للانتباه في الماضي القريب هو حركة #MeToo ضد التحرش الجنسي، والتي انتشرت منذ أكتوبر/تشرين الأول 2017. وهذه الحركة العالمية لها ترجمات في أكثر من 85 دولة. وتوضح حركة #MeToo الأهمية العالمية لما تحلله كيرا كوكران[3] كموجة رابعة من النسوية "التي تعرّفها التكنولوجيا".

 

لم يختف تنظيم وتغطية الاحتجاجات عبر وسائل التواصل الاجتماعي في السنوات الخمس الأخيرة. في عام 2016، على سبيل المثال، بينما ركز المعلقون على بريجزت والانتخابات الرئاسية الأميركية، استخدم طلاب من مختلف الجامعات في كولومبيا وسائل التواصل الاجتماعي لتنظيم مسيرات ضخمة للدفاع عن اتفاقية السلام مع حركة فارك[4] بعد فشل الاستفتاء العام للتصديق. ولا تزال قنوات الاتصال التي أُنشئت في عام 2016 بين الجامعات فعالة في الاحتجاجات الحالية لدعم التعليم العالي العام في عام 2018.

التكنولوجيا والاستبداد.. وسائل التواصل الاجتماعي ونهاية النظام العالمي الليبرالي

يخلق استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لأغراض تحررية مساحات سياسية بديلة ومعان بديلة للثورة الرقمية. ولا تزال إمكانات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في مجال الديمقراطية قائمة. كان أحد الأخطاء هو الاعتقاد بأن هذه القدرة على التحول إلى الديمقراطية كانت السمة الرئيسية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات عندما كانت الممارسات والخطابات السائدة تهدف إلى الرقمنة ورفع الضوابط الرأسمالية وإدامة هياكل السلطة الموجودة.

 

نهاية النظام الليبرالي

يجب فهم الممارسات التكنولوجية المختلفة المذكورة في هذه المقالة في سياق إعادة التعريف الحالي للنظام العالمي. بتعبير أدق، فإنها تساعد في تحليل الإنتاج المشترك بين الرقمنة ونهاية النظام العالمي الليبرالي. بدأت رقمنة كل شيء في التسعينيات، خلال العصر الذهبي للعولمة والليبرالية. وكانت التكنولوجيا الرقمية وسيلة قوية للعولمة والرأسمالية ونشر الأفكار والممارسات الليبرالية. كما كانت إدارة الإنترنت، وفيما بعد تنظيم الأسواق الرقمية، يتوافقان مع مزج بين النيوليبرالية والليبرالية السيبرانية.

 

وباتباع نهج "عدم التدخل" في تنظيمات الدولة والاعتقاد "بالابتكار الذي لا يحتاج إلى إذن"، ساهم تطوير الفضاء السيبراني في انعتاق الحرية من أغراض سياسية أخرى. في حين أن الاستخدامات الاقتصادية المهيمنة للتكنولوجيا الرقمية لا تزال تطيع هذا المنطق، فعمالقة الإنترنت، مثل غوغل وأمازون وفيسبوك وآبل ومايكروسوفت، ما زالوا مترددين في قبول أي نوع من التنظيم، إلا أن أزمة النظام الليبرالي أثارت ردود أفعال في الخطابات حول التقنيات الرقمية واستخداماتها. فمن ناحية، يظهر "حماة" مزعومون للناس في سياق أزمة النظام الليبرالي ويستخدمون تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ووسائل التواصل الاجتماعي للفوز بالانتخابات، مطبّقين بذلك ما وصفه أفلاطون بأساليب الطغاة عبر التشكيك في مبادئ الحكم الديمقراطي. ومن ناحية أخرى، تُستخدم التقنيات الرقمية في صياغة وتعزيز سياسات التحرر.

 

يوضح هذان التفاعلان كيف تستجيب التكنولوجيا لـما هو "اجتماعي" (في هذه الحالة، أزمة النظام العالمي الليبرالي)، لكنها تُظهر أيضا كيف تتنافس الاستخدامات المختلفة للتكنولوجيا من أجل إسباغ اتجاهات جديدة لـما هو "اجتماعي". تشير الأحداث الأخيرة في السياسة العالمية إلى صعود الاستبداد باعتباره النتيجة الأكثر ترجيحا لإعادة تعريف النظام العالمي. ومع ذلك، وكما رأينا في هذه المقالة، فقد أسفرت الاستخدامات البديلة للتكنولوجيا عن ظهور بعض الإمكانات في إعادة تحديد مفهوم النظام العالمي.

———————————————————–

هوامش:

[1] هو اسم يشير إلى الاحتجاجات والاضطراب عام 2013 في أوكرانيا، عندما بدأ مواطنون احتجاجات في العاصمة كييف بعد أن علقت الحكومة التحضيرات لتوقيع اتفاقية الشراكة واتفاقية التجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي.

[2] آلان باديو فيلسوف وكاتب فرنسي

[3] صحفية بريطانية

[4] حركة "القوات المسلحة الثورية في كولومبيا"

——————————————————————-

ترجمة (الزهراء جمعة)

هذا التقرير مترجم عن:  E-International Relations ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان

المصدر : الجزيرة