شعار قسم ميدان

سرطان الروح.. كيف يدمر القلق والضغط النفسي حياتنا؟

في صباح كلّ يوم يستيقظ أحمد من نومه فزعا على صوت المنبّه الذي يشبه صاعقا كهربائيّا، لكي يصل عمله في الموعد دون تأخير وإنذارات. في الليلة الماضية لم يتمكن من الخلود إلى النوم بسهولة أبدا، وبالرغم من أنّه يعاني من الأرق منذ سنوات إلا أنّه في هذه الليلة كان يفكّر في المقابلة التي طلبها مديره في العمل بعد تسبّبه في فشل المشروع الأخير للشركة وخسارتها أمام شركة منافسة. إذ عندما بدأ أحمد مع الشّركة كان عمله مبهرا، كان متّقدا وممتلئا بالحياة والحيوية، لكنّه في السنوات الأخيرة بدأ يعاني من القلق المتواصل.
لقد تضاعفت مسؤوليّاته في الشّركة، في الوقت الذي تعاني شركته تهديدات حقيقة بشأن وضعها المالي. الكثير من أصدقائه الذين يعملون في المجال نفسه لا يجدون عملا بعدما أغلقت شركاتهم أبوابها بسبب الأزمة الاقتصادية. تلاحظ زوجته منذ فترة طويلة شروده المستمر، وانعزاله ومزاجه الاكتئابي، لقد أصبح ينسى كثيرا، لم يعد يتذكّر الأشياء التي تطلبها منه كما كان يفعل في بداية زواجهما، كما أنّه أصبح يتناول أدوية ضغط الدم المرتفع الذي كان يعتقد أنه مرض لا يصيب سوى كبار السن. قبل بداية المشروع الأخير كان يشعر أنّه غير قادر على العمل فتقدّم بطلب إجازة من الشّركة لكنّ طلبه رفض بسبب حاجة الشركة لكلّ موظفيها في هذا الوقت الصعب، مما زاد الأمر سوءا.
كان يتردّد في ذلك الوقت على عدد من الأطباء الذين أجمعوا على أنه يعاني من "الضغط والقلق المزمن" والذي قد يتطوّر إلى مرض الاكتئاب أو حتى الزهايمر إذا لم يتمكن من السيطرة عليه. حالة أحمد ليست فريدة، فجميعنا يعرف ما الذي يعنيه القلق جيّدا، يقول فرويد: "لست في حاجة إلى تقديم القلق لكم فكلّ منّا قد ابتلي بهذا الشعور". قد يكون هذا الشعور مفيدا في أوقات الامتحانات والمسابقات مثلا، فهو يساعدنا على الإنجاز لكنه يتحول لوحش مدمّر يعمل ببطء عندما يستمرّ لفترات طويلة دون أن نتمكّن من كبح جماحه".

بالنسبة إلى الخائف كلّ شيء يصدر حفيفا

(الروائي اليوناني سوفوقليس)

ليس من السهل نقل الألم والمعاناة والبؤس الذي يختبره الأشخاص مرتفعو القلق قبل وأثناء وبعد المواقف المهدّدة للذات. وبحسب الكثير من الأبحاث والدراسات فإنّ القلق يؤثّر على العمليات المعرفيّة التي يقوم بها العقل تأثيرا بالغا، فهو يعيق القدرة على تنظيم واسترجاع المعلومات من الذاكرة، كما ينتج عنه أداء معرفي هزيل وأداء مدرسيّ ضعيف وانزعاج نفسيّ واعتلال في الصحة. وقد قام "سبيلبرغر" وهو خبير شهير في أبحاث الضغط النفسي والقلق، بتتبّع مجموعة من الطلاب الجامعيّين مرتفعي القلق لمدة ثلاث سنوات متوالية:

"وجد أنّ أكثر من عشرين 20 في المائة من الطّلّاب ذوي القلق المرتفع صنّفوا على أنّهم فاشلين أكاديميّا، وفصلوا من الكليّة نتيجة لذلك، وذلك بالمقارنة مع أقلّ من ستة 6 في المائة من الطّلّاب ذوي القلق المنخفض. وقد قدّم تقرير على أن الطلاب الجامعيين المتسمين بقلق مرتفع، بالنسبة إلى أقرانهم المتسمين بقلق منخفض، يعانون اعتلال الصحة العقلية وأعراضا نفسيّة جسيمة". فالقلق يعدّ تكوينا رئيسا في فهم قصور الأداء المعرفيّ والتحصيل الأكاديميّ بشكل واضح في الوقت الحاضر. وقد أصبح أعداد الأشخاص الذين يتردّدون على الأطباء نتيجة للقلق يفوق أولئك الذين يعانون نزلات البرد.(1)

وقد ثبت أنّ القلق من بين أهمّ العوامل التي تؤدّي إلى نوبات الاكتئاب الأساسي، ومحاولات الانتحار. كما أنّ فترات الضغوط والقلق الطويلة تؤدّي إلى أمراض ضغط الدّم المرتفع، وهي الخطوة التي تقود للتّسبّب بتصلّب الشرايين، مما يزيد احتمالية الإصابة بأزمات القلب والجلطات الدماغيّة. كما أنّ القلق المستمرّ يتسبّب في مشاكل الجهاز الهضمي خصوصا القولون العصبي، وقرحة المعدة، كما أنّ الضغط المزمن يسبّب السمنة بسبب حاجة الجسد المستمرّة للأطعمة التي تحتوي على الكربوهيدرات. وتؤثر هرمونات التّوتّر على إخماد الخلايا المناعية، مما يعرّض الأشخاص لسهولة الإصابة بالعدوى ويبطئ معدّل الشّفاء من الأمراض.(2)

القلق لا يقضي على كوارث الغد، لكنّه يمتصّ نشاط اليوم، ويبدّد سعادة الحاضر

بالرغم من أنّ القلق يعدّ طبيعة إنسانية وجدت مع الإنسان منذ ظهوره بسبب ضعف بنيته وبساطة قدراته أمام الطّبيعة التي لا تقهر، إلا أنّ شدّته وعنفه اختلفت من عصر لآخر، ومن مكان لآخر. لكن يبدو أنّ القلق المرتبط ب الحياة الحديثة والمعاصرة أصبح يشير إلى ظاهرة مرضيّة تنسج خيوطها في خطر يهدّد مسيرة الحضارة الإنسانية. إنّ الأسباب التي تحفّز القلق في عالمنا الحاليّ لا يمكن حصرها، فعلى المستوى العالمي يعكس القلق حساسية الإنسان تجاه جنون العالم الّذي يرحّب بالحروب والصّراعات التي يقتل فيها الإنسان بدم بارد ويشرّد بأعداد لا يمكن إحصاؤها. عالم يموت فيه البعض جوعا ومرضا في الوقت الذي ينفق فيه مليارات الدولارات على الأسلحة المتطورة تكنولوجيّا ورحلات السفر لاستكشاف الفضاء. (3)

عالم يختصر كلّ شخص في وظيفته، فأنت، هو ما تقوم به، أنت ببساطة إمّا ناجح أو خاسر. ولكي تتمكّن من العيش في هذا العالم عليك أن تثبت كلّ يوم أنّك لست خاسرا، تواجه بشكل يوميّ تحديات عليك أن تثبت فيها جدارتك، وإلا ستلحق بك وصمة الخاسر الفاشل غير المستحقّ. يقول إيريش فروم إن النظام الاقتصادي خصوصا، كلما تطوّر في الشركات الكبرى فإنّه ينتج القلق والخوف، ويعود ذلك في المقام الأوّل بسبب التّناقض بين كبر الكيان وصغر الفرد وضآلته، بالإضافة إلى أنّ نظام العمل الحديث ينتج انعدام الأمان لدى كلّ أفراده تقريبا. يضطرّ هذا ال فرد إلى حضور التجمعات التي لا يعرف فيها أحد، إذ إنّ الحصول على عمل لم يعد يعني مقايضة قوة العمل فقط، بل أيضا الشخصية والابتسامة والذوق فكلّ شيء أصبح معروضا للبيع بما فيها أكثر قيم الإنسان خصوصيّة. (4)

يبدو أنّ إنسان القرن العشرين فشل فشلا ذريعا، إذ انحلّت روابط التآزر الأسريّ والاجتماعي، وتفكّكت العائلة دون أن تحلّ محلّها روابط جديدة. نعم لقد أصبح الإنسان العصريّ أكثر حريّة ممّا سبق، لكنّه وحيد وقلق، إنّه حرّ لكنه خائف من هذه الحرية، يعيش في حالة من عدم الاستقرار كما يقول دوركايهم. "إنه موسوم بالانقسام والخسة، اللذين يجعلان منه ذرّة لا فردا، واللذين أصبحا يزررانه بدلا من أن يضفيا عليه الفردانية المميزة،"، لقد كان حلم الإنسان العصريّ أن يصبح فردا، لكنه للأسف وجد نفسه وقد أصبح مجرّد ذرة قلقة، ذرّة يجري تقاذفها إلى الأمام وإلى الوراء.

إن أولويات النظام الصناعيّ تتلخّص في: ما الذي يحقّق الأرباح؟ وقد جرى تطبيق هذا المبدأ على الإنسان نفسه، فامتدت الفكرة من الاقتصاد إلى الحياة البشريّة بأكملها. بالتالي أصبح الإنسان مشروعا، حياته هي رأس ماله، ويجب عليه استثمار رأس ماله هذا قدر الإمكان. إذا تمكّن من استثمار حياته جيدا فهو ناجح وإذا لم يتمكّن من استثمارها فهو فاشل وخاسر. وهكذا يتشيّأ ويتحوّل هو نفسه إلى شيئ. يقول فروم:

"الإنسان الذي تشيأ هو إنسان قلق، لا إيمان لديه، لا قناعة وقليل القدرة على الحب… وإذ يتحدّث المرء عن (شرّ القرن وعدم الارتياح)، كي يصف القلق في عالم يزداد أتمتة يوما بعد يوم ويخلو من أيّ معنى. وقد صوّر دوركهايم الحالة على أنّها، تسم أيضا بداية الانتحار كظاهرة جماعيّة جرّاء أتمتة الإنسان والصيرورة التي يصبح فيها الوجود عديم المعنى". (5)

المصدر : الجزيرة