شعار قسم ميدان

"احنا بتوع المترو".. آليات القهر والتمييز تحت أرض القاهرة

المترو - ميدان
مشهد أول:
سيدة مصرية فقيرة ترتدي ثيابًا سوداء، وتصرخ بأعلى صوتها، وتلعن غياب الرجولة اعتراضًا على ارتفاع أسعار تذاكر المترو وعدم احتجاج كثيرين على ذلك، مرددة "انتوا مش رجالة، يا عالم يا اللي معندكوش دم، يا اللي معندكوش نخوة، عايزين تحبسوني احبسوني، أنا قلعت النقاب أهوو" وسط عدم مبالاة من بعض المارة ومن رجال الشرطة الذين يجاورونها، واقفة بين من يكتفون بالتقاط صور وفيديوهات لها، بكاميرات هواتفهم المحمولة.
   
مشهد ثاني:
مجموعة من الأفراد يقطعون شريط المترو في محطة مترو محمد نجيب ويقفون بأجسادهم أمام القطار لمنعه من المرور، مشيرين إلى قوات الأمن وسائق المترو قائلين" البلطجية أهم البلطجية أهم".

   

مشهد ثالث:
اشتباكات بين الركاب وبعض الملثمين في محطة مترو السادات، هؤلاء الملثمين حاولوا قطع شريط المترو احتجاجا على زيادة أسعار التذاكر، ولكن بعض الركاب نهروهم، واشتبكوا معهم، باعتبارهم يمثلون عائقا أمامهم من الوصول لأعمالهم.

   

المشاهد السابقة، ليست سوى بعضا من ردود الفعل المعارضة لقرار الحكومة المصرية يوم الخميس 10 مايو 2018 بزيادة أسعار تذاكر مترو الأنفاق وتقسيمها لشرائح بحسب عدد المحطات، لتتراوح أسعارها ما بين 3، و5، و7 جنيهات، محققة أعلى سعر وصلت إليه التذاكر منذ افتتاح أول خطوط المترو فى 1 أكتوبر 1987.

        

  

فمنذ افتتاح المترو، لم يتم المساس بأسعار التذاكر سوى خلال عام 2017 في ظل نظام عسكري قمعي صعد للحكم في مصر منذ يوليو 2013، فقد تضاعفت أسعار التذاكر في شهور معدودة، وتم  اقتراح إجراء تعديلات على المادتين 2 و3 من مشروع القانون الصادر فى 1983 لأول مرة منذ 35 عامًا، لزيادة صلاحيات الهيئة القومية لإدارة وتشغيل المترو، سعيًا إلى خصخصة الهيئة ومناقشة إمكانية تحويلها من هيئة خدمية إلى هيئة اقتصادية.

  

 وأُتيح لبعض الشركات إدارة بعض المرافق بمقابل مادي داخل محطات المترو كما يوجد في محطة جمال عبد الناصر في خط المرج، فقد منحت الشركة المصرية لإدارة وتشغيل المترو بالتعاون مع المهندس ياسر عبد الوهاب سلام ترخيص حق الانتفاع لدورات المياه بالخطوط الثلاثة ليستخدمها المواطنين بأجر وذلك بداية من 7 مارس 2016.

     

ويعد المترو وسيلة نقل حيوية، حيث يركب أكثر من 2 مليون فرد مترو الأنفاق يومياً من مختلف الشرائح والفئات الاجتماعية، هذا التكثيف للحضور البشري في المترو، يجعله صورة مصغرة شديدة التركيز للظواهر الاجتماعية المختلفة في الحياة المعيشية اليومية، لا يمكن تجاهلها. ولذا تعتبر التحولات التي تجري في المترو صورة حية للتحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في مصر عامة، فلا يمكننا غض الطرف عنها أو عن أنماط السلوك المتواجد فيه. ولكن مناقشة قضية المترو كظاهرة اجتماعية أمر شديد الصعوبة، فليس من اليسير أن نناقش ما اعتادت أعيننا على رؤيته، فكيف لنا أن نكون باحثين وراكبين في الآن نفسه. ولكن أن نحلل ونناقش ما اعتدنا عليه، يعني قدرتنا على اكتشاف زوايا نظر جديدة، تعيد رسم المشهد بألوان وملامح مختلفة تماما!

   

شباك التذاكر..منفذ لعالم آخر

undefined

   

من خلال شباك التذاكر في مترو الأنفاق، تبدأ الرحلة لعالم آخر في قطارات أنفاق القاهرة، الصورة المتواجدة على شباك التذاكر في محطة مترو الدمرداش خط المرج- حلوان قبل التسعيرة الجديدة لتذاكر المترو، نجد فيها الصيغة التالية: كوامل:2 جنيه، أنصاف: جنيه ونصف، أما متحدي الإعاقة فــــ 50 قرش.
    
 هذه الصورة تحيلنا إلى أولى الملاحظات حول مترو الأنفاق، باعتباره وسيلة المواصلات التي لا يتم تصنيف الركاب بها وفق الوضع الطبقي، كالطائرات والقطارات التي تُقسَّم لدرجات وفق المقدرة الشرائية، وإنما يتمثل التصنيف في مترو الأنفاق وفق المقدرة الجسدية المفترضة. ليمثل شباك التذاكر هنا، الخطوة الأولى نحو التمييز بين القدرة والعجز الجسديين، وهو ما يبنى عليه التباين في أسعار التذاكر.

   

وبناء على ما سبق، حينما اتخذت الحكومة ردة فعل لمواجهة موجة الغضب المتصاعدة تجاه قرار التسعيرة الجديدة، لم تخرج عن نمطية التفكير المرتكزة على تمييز الركاب وفق المقدرة الجسدية، فقد أعلن المتحدث الإعلامي لمترو الأنفاق أن نظام التسعير الجديد لمترو الأنفاق لن يمس تذاكر مرضى السرطان وكذلك تذاكر الأطفال تحت سن الـــــ 10 سنوات. (1)

   

لم تغفل الدولة إذا من خلال مؤسساتها البيروقراطية على التوغل داخل وسائل المواصلات، لتصبح هي التي تمتلك حق تعريف العجز والقدرة الجسدية، فيتعين على كبار السن إبراز بطاقات الرقم القومي، وذوي الاحتياجات الخاصة يتم الإقرار باستحقاقهم لخفض أسعار التذاكر بموجب "كارنيه" وزارة التضامن الاجتماعي. فالدولة هي الجهة المخولة بتعريف احتياجات جسدك  -وهو الأمر شديد الذاتية والخصوصية – وفق قوانينها العمومية وقواعدها البيروقراطية وأوراقها الرسمية.

    

    

أما الفئات الأخرى التي يتم تمييزها أمام شباك تذاكر المترو، فهم ممن ينتمون إلى جهات غير حكومية تكفل لهم خفض سعر التذكرة، هؤلاء، لا يقعون تحت تصنيف العجز الجسدي هم: حملة كارنية نقابة الصحفيين، وكارنيه جمعية المحاربين القدماء، بالإضافة إلى العسكريين ورجال الشرطة، وعلى الرغم من امتيازاتهم، فهم ملزمون بإثبات أوراقهم للدولة.

 

فإذا كانت المقدرة الجسدية هي معيار التمييز لدى الدولة في المترو، يتجلى السؤال الرئيسي، وهو، كيف ترى الدولة أجساد ركاب المترو؟ فالمثال الذي جسده تعامل السلطة مع الأفراد، إنما يعبر عن خط عام للسياسات التي ترسم طريقا للتعامل مع الجسد في شتى مناحي الحياة. والجسد هنا لا يتجلى باعتباره فردا، وإنما باعتباره مجالا للتحكم والسيطرة، وهو ما تسعى السلطة لضبطه وتوجيهه، وفي رحلة إجابتنا على فلسفة السلطة في التعامل مع الأفراد، فإنه ينبغي علينا ابتداءً أن نعرف ما هو الجسد؟

 

الجسد

يُعرف الجسد بأنه الجوهر المادي للإنسان سواء كان حيًا أو ميتًا[2]، ولا يمكن رؤية الجسد باعتباره كيان بيولوجي فحسب، وإنما يحمل الجسد التاريخ والثقافة، ووسيلة تعبير الإنسان عن ذاته، وتنعكس عليه قيم المجتمع ومعاييره. ويؤكد عالم الاجتماع  إرفنج جوفمان في كتابه "عرض الجسد في الحياة اليومية" على أهمية الوعي بالجسد، وكيف يحدث فرقًا في الحياة اليومية للبشر.[3]. ولا أدل لمركزية الجسد، من اهتمام البشر عادة بالأزياء وأدوات التجميل ومظهر الجسد، باعتباره معبرا عن مكانة الفرد الاجتماعية.

 

 كما أن إدراك الناس للمكان لا يتم إلا عبر أجسادهم ووجودها في حيز مكاني، كما يرى إدوارد كاسي [4] حيث أن وجود الإنسان بالكون، ومعرفته لأبعاده، لا يتم إلا عبر وجود الجسد في حيز معين. حسنا، ماذا لو انتقلنا لعربات المترو باعتبارها الحيز المكاني الذي يساهم في تشكيل وعي الإنسان، ومن ثم، كيف يتحول الجسد الفردي إلى كتلة جماعية داخل عربات المترو في لحظات الزحام؟ لنرى كيف تنظر الدولة للأجساد داخل المترو؟

     

      
المترو وتلاشي الخصوصية الفردية

لقد أنشئ المترو كرد فعل لتصاعد أزمة النقل العام في القاهرة الكبرى بتزايد عدد السكان وكثافة الازدحام، مما استوجب ضرورة توفير وسيلة تنقل تستوعب أكبر عدد من الأفراد في أقل مساحة ممكنة، وساعد تقسيم عربات المترو وفق النوع الاجتماعي على تحقيق ذلك؛ فوجود عربات للنساء فقط، يسمح بقدر أكبر من التكتل والتراص بين الأجساد دونما إثارة أي حرج اجتماعي أو تحفظ ديني.

  

ومن هنا، يتم التعامل مع الجسد في المترو باعتباره كتلة جماعية، أجساد متفرقة منتزعة الخصوصية تلتحم معًا لتصبح كتلة جسدية واحدة بصورة أجساد متلاصقة. ففي ذروة الزحام داخل العربة، ينتفي الشعور بامتلاك الجسد والقدرة على التحكم فيه، لافتقادك الحيز الذي يستوعب جسدك كجسم منفرد.
 

يتحول الجسد في هذه اللحظات، لجزء من مجموع، ليكون الحديث هنا عن حيز واحد يحيط بمجموع الأجساد وليس حيز خاص لكل جسد على حدة، لينتج هذا الفضاء، ممارسات استثنائية يشكلها هذا الظرف الخاص الذي تعيشه الأجساد، وكتعبير لذلك، تتم ممارسة التفاوض المستمر بين هذه الكتل الجسدية لإدارة الزحام دونما خسائر، ويبدو ذلك واضحًا في لغة الخطاب المتداولة داخل المترو، كالعبارات المسبوقة عادة بـ"كل" وبصيغة الجمع دومًا، مثل "كل اللي قدام نازل؟"، "وسعوا يا جماعة"، "استنوا ما تطلعوش إلا لما ننزل كلنا".

 

ضيق الحيز وتضاعف الكتل الجسدية في المترو، يقضي على شعور الفرد بامتلاك حيزه الخاص أو حتى الحيز المكاني الذي يتيح له القدرة على السقوط حال تعرضه لعارض مفاجيء نتيجة الزحام أو فقدانه للوعي، بل أن هذا الضيق الذي يستلب قدرة الأفراد بالسيطرة على أجسادهم، يدفعهم في بعض الأحيان للجوء لأوضاع جسدية معينة، كأن يقف الفرد مستندًا على قدم واحدة، من أجل تثبيت جسده وسط هذه الكتلة البشرية، ويحكي أحد ركاب المترو أنه تعود على هذا، وهو الأمر  نفسه الذي وجده أثناء تجربته في المعتقل السياسي، فهناك كذلك لم يكن هناك إلا حيز ضئيل جدا للنوم والجلوس وأحيانا الوقوف فقط، مضيفًا "الدولة تعوّد أجسادنا على الذل ".

      

  

لا يقتصر تعامل الدولة مع الأجساد، باعتبارها موضعا لنزع الآدمية الكاملة عنها أو عدم احترام خصوصياتها الذاتية في المترو فقط، ولكن يظهر ذلك بوضوح في وسائل مواصلات أخرى كالقطار، حيث يذكر جلال أمين في كتابه عصر الجماهير الغفيرة أن الدولة تعاملت مع ضحايا حوادث قطار الصعيد باعتبارهم جسد واحد، أي ككتلة بشرية لا تمايز بين أفرادها، فكان الانصهار المذهل للركاب في كتلة بشرية واحدة يسمح للسلطات المسؤولة بتقدير عدد الموتى كما تشاءـ فثبت الرقم المعلن بأنه 375 شخص، كأنه رقم يقيني واحد.[5]

       

ورغم ما تطرحه الفلسفات الحديثة عن مركزية الجسد، باعتباره وسيلتنا لإدراك العالم كما بين موريس ميرلوبونتي، تنحى السلطات نحو مزيد من التضييق والسيطرة عليه، بما يشوه وسيلتنا الأهم لإدراك ما حولنا. ورغم ما تبدو عليه الأجساد من استجابة للوضع الذي يُفرضه عليها الزحام، إلا أنها لا تمثل نموذج الجسد المطيع أو الخاضع الذي تفرض عليه السلطة سطوتها وتشكله كما تشاء كما يرى الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو. ولكن على الرغم من سعي السلطة الدؤوب لحصار الجسد بهدف إخضاعه، فإنها ستبقى خائفة من هذه الأجساد لسببين: خوفها من تحول الكتلة الجسدية إلى كتلة حرجة، أي قادرة على التحول لصيغة ثائرة، وفي شكل تمرد هذه الأجساد ومقاومتها للسلطة.

  

خوف السلطة من التجمعات البشرية

 ثمة خوف دائم من قبل السلطة من تحول هذه الكتلة الجسدية لكتلة حرجة قادرة على الحشد والحراك حتى الهتاف. ويتوافق هذا الرأي مع رؤية الروائي والباحث الألماني إلياس كانيتي الذي يرى أن ضغط الأجساد يحرر الأفراد ويخلق تحولًا ديموقراطيا.[6] فهذه الكتلة غير المصنفة وغير المتجانسة، تمثل في حجمها، سبيلا للحصول على شرعية سياسية قادرة على تجاوز شرعية السلطة ذاتها، وتتجلى قوة تلك الشرعية، في الدعوات المستمرة للمظاهرات المليونية، والتي عادة ما تحمل رسائل سياسية تعبر عن قوة المجموع. 

       

undefined

      

هذا التخوف الذي تسببه الجموع، وإن كانت غير متجانسة، تدفع السلطات في مصر على سبيل المثال، إلى المسارعة في إغلاق محطات كالسادات بعد أي حدث سياسي قد يثير قلق السلطة، وذلك لأن محطة السادات محطة رئيسية تلتقي بها خطوط النقل، فيكثر فيها التكتلات الجسدية فضلًا عن رمزية ميدان التحرير ومظاهرات 25 يناير 2011 به.

  

وقد تعرضت الباحثة مريم وحيد في كتابها الجسد والسياسة إلى مفهوم الجسد الاجتماعي في حديثها عن خصوصية الجسد في ثورة 25 يناير 2011، فرأت أن ميدان التحرير خلال اعتصام الــــ18 يوم مَثّل جسدًا مجتمعيًا واحدًا تلاشت فيه الاختلافات بين الصغير والكبير، الذكر والأنثى وذابت الفروقات بين أصحاب الأيديولوجيات المختلفة، فقد مثل مجموع المتظاهرين حاصل أجساد وعقول فردية.

   

ترى وحيد، أن أجساد المتظاهرين، كانت واعية حتى في اللحظات التي قد تستدعي الهياج، مثل لحظة انسحاب الشرطة، ورأت أن مصدر قوة الجسد المجتمعي هو نكران جسد الفرد في سبيل المجموع، فتؤكد وحيد على أن الجسد المجتمعي قادر على الفعل السياسي، وأن للفعل الجسدي بأصواته وإيماءاته وصرخاته ونداءته دورًا  مهمًا في الحراك الثوري.[7]

  

ولكن في بعض الأحيان قد يبلغ بطش السلطة وقمعها ما يتجاوز قدرة الأفراد على حماية ذاتهم لمجرد تكتلهم الجسدي، وهذا ما حدث في مذبحة رابعة والنهضة حيث انتهكت الأجساد والأرواح رغم تكتلها بالعنف المادي المباشر عليها، ولذلك لتمكنها من إضفاء صفة العدو عليهم. إلا أن التكتلات الجسدية في المترو، فإنها تطلق عليهم: "الجمهور " لأنها تفقد القدرة على تمييزه بشكل فعلي.

     

   

بنظرة أعمق، فإن هذه الكتلة الجسدية داخل محطات المترو ليست كتلة صماء، إنما لهذه الكتلة الجسدية قدرة على التصرف بشكل عدواني في حالة الاندفاع والزحام، ويمكن أن تصبح كتلة آمنة أيضًا حينما تكون كتلة متجانسة ككتلة أجساد النساء مجتمعة، ففي حال الازدحام نجد أن بعض النساء تحتمي في كتلة النساء، ونلاحظ تكرار هذا المشهد باستمرار عندما تخبر إحداهن الأخرى "لا تخافي أنا مَن وراكِ، أنا فتاة مثلك، فليس من خلفك رجل".

  

 إلا أن الافتراض الذي يستند على تماثل وعي الأفراد وخاصة في لحظات التكدس والزحام وتحولهم لكتلة جسدية واحدة غير صحيح بالمطلق، وقد ظهر ذلك جليًا في ردود الفعل المتفاوتة على قرار رفع أسعار تذاكر المترو. فهناك أحداث مفصلية تظهر تباينات الجمهور، وتعيدهم للمنطق الذي يمس ذواتهم كأفراد.

     

ردود الفعل المتباينة على التسعيرة الجديدة لتذاكر المترو

أثار خبر ارتفاع أسعار تذاكر المترو عددا من ردود الفعل المتناقضة، يمكن أن نصنفهم إلى ثلاث ردود فعل لثلاث فئات، هي: الفئة الرافضة للقرار، والأخرى المؤيدة، أما الفئة الثالثة فيمكن أن نسميها "فئة إحنا بتوع الأتوبيس".
    

أما الفئة الرافضة للقرارات، فقد اتخذ تمردها أشكالا عدة، منها، المواجهة المباشرة مع الأمن داخل عربات المترو وقفزهم على الحواجز، والمرور دون دفع التذاكر، ودعوة البعض منهم للإضراب ومقاطعة المترو، ومنهم من اتخذ من جسده وسيلة للمقاومة، كهؤلاء الذين ذكرنا مواقفهم في المشاهد الثلاثة المذكورة في مستهل هذا التقرير، الذين ألقوا بأجسادهم أمام عربات القطار في محطة محمد نجيب، وهؤلاء الملثمين الذين تصدوا للقطار والركاب في محطة السادات، وتلك السيدة الفقيرة التي صرخت ولعنت القرار والسكوت عنه، وكشفت عن وجهها وخلعت النقاب كإعلان للرفض والتمرد.

      

   

ليظل إخفاء الجسد في مشهد الملثمين، أو إظهاره في حالة السيدة، أو المواجهة المباشرة مع الأمن في حالة بعض المحتجين، دلالة على أن الجسد حاضر في مشاهد المعارضة والمقاومة داخل محطات المترو. وبجانب هؤلاء الذين جعلوا من جسدهم وسيلة للمقاومة والرفض، ثمة من لجؤوا إلى التحايل، كهؤلاء الذين قاموا بعمل تطبيق هاتفي لتبديل التذاكر بين الركاب كاستراتيجية للتعايش مع هذا الوضع، وكوسيلة للمقاومة بالحيلة.

  

تلكم الفئات الرافضة للقرار، اتخذت وسيلتين للتعبير عن رفضها، إما عبر الفضاء الإلكتروني، أو بخروجها في احتجاجات صغيرة خاصة في محطتي المرج وحلوان. ومن المفارقات أن تكون حلوان من أبرز المناطق الرافضة للقرارات وهي ذاتها نفس المنطقة التي اندلعت منها شرارة  انتفاضة الخبز 1977 على يد عمال المصانع في حلون.(8)

 

ولكن عدم تصاعد احتجاجات الركاب في المرج وحلوان هذه المرة لتكون احتجاجات ثورية واسعة دلالة على تغير المشهد السياسي والاجتماعي في مصر في الوقت الحالي، فقد تقلصت قوة العمال على الدفع بالأحداث كما كانت في مظاهرات 1977 وكذلك الطلاب بعد تفريغ العمل الطلابي وتصفيته، وتزايد القمع والعنف والقبضة الأمنية للنظام الحالي.

  

 أما الفئة الثانية فهي الفئة المؤيدة لزيادة تسعيرة التذاكر فهي إما راغبة في إعلان دعمها وتأيدها المطلق لسياسات النظام القائم، وإما لرفضها لممارسات طبقة الكادحين ورغبتها في تقليل نسبة تواجدهم في المترو، ولضمان حصولها على خدمة أفضل، وأن هذه هي الأسعار العالمية لمترو الأنفاق في الدول الأخرى، وبعضهم غير مستفيد مباشرة من خدمات المترو، فيرى أن الدولة عليها أن ترفع الدعم عن المترو نهائيًا، وتجعله لصالح دعم خدمات أكثر شمولية كالتعليم والصحة[9].

  

فئة إحنا بتوع الأتوبيس

ثمة فئة ثالثة تعلن تأييد القرار خوفًا من بطش السلطة التي نشرت قوات الأمن المركزي والداخلية في داخل عربات المترو، فقد قامت الدولة بشن حملة عشوائية لاعتقال العشرات من داخل عربات المترو، في سخرية من الاتهام الذي يلحق من يتم القبض عليه"رافض للتسعيرة الجديدة للتذاكر" تتشابه موقف الدولة في حملتها العشوائية مع ما عكسه فيلم "إحنا بتوع الأتوبيس" الذي ألقى القبض على البطلين "مرزوق" عبدالمنعم مدبولي و"جابر" عادل إمام وتلفيق تهم كبرى ضدهم، لمجرد دخولهم قسم البوليس إثر مشاجرة مع كمسري في أتوبيس نقل عام.

        

     

ولم تكن عبقرية الفيلم في تجسيد قمع الدولة وجهازها الأمني فحسب، وإنما في توضيح صور القهر والجبن والنفاق الذي يتصف به بعض المصريين خوفًا من بطش السلطة. فنجد أن شخصية مرزوق ما زالت حاضرة حتى اليوم في صور كثيرة.

  

فهذه الفئة قد تتظاهر بالرضا عن قرار التسعيرة الجديدة، لتتشابه مواقفها مع موقف مرزوق وحواره مع جابر أثناء انتظارهما للأتوبيس، فحينما ظن مرزوق أن جابر أحد المسؤولين الكبار في السلطة، فأخبره برضاه عن إزعاج جابر لهم وعدم مراعاة حقوق الجيرة لأنها حرية شخصية، فمصر – بحسب وصف مرزوق-  تتمتع بحرية وطراوة وهوا على الآخر"، ويسابق مرزوق ليعرف نفسه بأنه في مواطن مثالي في حاله، يستمع لبرامج الراديو الوطنية كبرنامج "أكاذيب تكشفها حقائق"، وأنه لا يضيق بالزحام فليس العيب عيب الحكومة وإنما الناس الذين يتكاثرون كالأرانب، ولا يرهقه انتظار المواصلات في حرارة الشمس المرتفعة لأن الشمس صحية، ولا تزعجه المطبات في الشوارع لأنها تساعد على الهضم، ولا يعاني شظف العيش لأن الخير موجود بكثرة، بينما يعلن في سره سخطه وكراهيته للسلطة وأنينه من سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. وما زالت شخصية مرزوق تجدد على مدار تاريخ المجتمع المصري، فما زال كثير من المصريين تجسيد حي لــفئة "إحنا بتوع الأتوبيس"

      

وتتعدد صور مقاومة هذه الفئة في شكل السخرية والنكات أو الصمت أو غيرهما من الصور التي أوردها عالم الاجتماع جيمس سكوت في كتابه"المقاومة بالحيلة: كيف يهمس المحكوم من وراء ظهر الحاكم"، لابد من تحليلها ومحاولة فهم صورها حتى يكتمل مشهد المعارضة وخوف القمع في مصر عامة، هذا المشهد المنذر بشيوع الكراهية الصلبة التي تصفها الروائية الإنجليزية جورج إليوت بأنها تلك الكراهية التي  تجد جذورها في الخوف، وتتكثف عبر الصمت، وتحول شعور العنف إلى نوع من شعور الرغبة في الانتقام، إلى إلغاء متخيل للشيء المكروه، إلى شيء يشبه طقوس الثأر الخفية التي تؤجج غضب الإنسان المضطهد"(10)

  

صور أخرى لملامح الجسد داخل فضاءات المترو

مما سبق يتضح لنا كيف يتحول الجسد المفرد في المترو إلى كتلة جسدية أثناء الزحام، وما تشكله هذه الكتلة من مخاوف للنظام، فتجعله في حالة تحفز خاصة وقت الأزمات خشية تحولها لكتلة حرجة قادرة على الفعل والمعارضة، وكيف يقاوم بعض الرافضين للسياسات الحالية وخاصة الغلاء من خلال أجسادهم.

   

لكن حضور الجسد في فضاء المترو لا يقتصر على لحظات الزحام فيه فحسب، فثمة صور متنوعة لحضور الجسد في المترو، ويمكن ملاحظة أن معظم البضائع التي تباع في المترو لها علاقة بالجسد سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة خاصة الأطعمة والملابس، ومنذ سنوات معدودة انتشرت فروع لشركة المخبوزات الهندية مونجيني في أكثر من 13 محطة مترو ثم مشروع تصبيرة بالإضافة إلى بعض منافذ بيع منتجات الألبان وبعض شركات الاتصالات التي يمكن أن نعد منتجاتها امتدادًا للجسد وفق نظريات العقل الممتد التي ترى أن المادة جزء ممتد للجسد والعقل البشري. ويمكن أن نُضَمّن حملات التبرع بالدم التي تتواجد داخل محطات المترو ضمن ملامح حضور الجسد داخله فضاء المترو بشكل عام.
       

    

ويمكننا القول إن ثمة أربعة صور رئيسية لحضور الجسد في فضاء المترو، منها الجسد الأنثوي المرغوب فيه اجتماعيًا، والذي يمكن استخلاص ملامحه من خلال تحليل خطابات الباعة الجائلين في عربات السيدات بالمترو، الجسد كأداة عرض في عملية البيع، الجسد المشوه واستعراضه في حالة الشحاذة، وأخيرًا الرمزية السياسية للموتى في أسماء محطات المترو.

    

كيف تظهر ملامح الجسد في المترو في عربات السيدات؟

في عربة السيدات يزداد فيها كثافة حضور الجسد سواء على مستوى التعامل مع المترو بمواده المختلفة لتُوظف لخدمة مظهر الجسد الخارجي، فعلى سبيل المثال نلحظ أن زجاج نوافذ المترو وأبوابه تتحول إلى مرآة تستخدمها النساء لضبط هيئتهن الخارجية بجانب شاشات الهواتف بالطبع، كما أن الخبرة التجميلية التي تنتقل من حديث النساء وبعضهن البعض داخل المترو أو بالمشاهدة لا يمكن إغفالها.

  

 ويمكن من خلال تحليل العبارات المتداولة أثناء بيع المنتجات المختلفة داخل عربات السيدات وخاصة أدوات التجميل استنباط ملامح الجسد الأنثوي المرغوب فيه اجتماعيا في بلد كمصر. فنجد أن أغلب نداءات باعة أدوات التجميل تتضمن قدرتها على التفتيح، وإزالة البقع الداكنة، وزيادة رطوبة الجلد، بالإضافة إلى قدرتها على جعل العجوزة صبية والفلاحة مصرية، وجلب العريس كذلك.

 

كما أن الجسد يتحول في المترو إلى أداة لعرض المنتجات مهما تنوعت، ويصبح هو ذاته محل التجربة التي تعطي المصداقية لعملية البيع وخاصة أدوات التجميل، ونجد كذلك أن النساء التي تبيع الملابس ترتديها بنفسها، ونرى أخريات يتخذن من أجسادهن واجهة عرض للإكسوارات المختلفة.

       

undefined

     

ومن الصور الأخرى التي يحضر فيها الجسد في المترو هي الشحاذة، حيث يرتكز فعل الشحاذة على الجسد، فتتحول الشحاذة إلى استعراض عجز هذا الجسد، وإبراز تشوهاته، لأنه يفترض أن الأجساد المتألمة العاجزة هي المستحقة للتعاطف والتضامن. لم نستطع الاقتراب من هذه العلاقة المرتبكة مع الجسد، ومعرفة كيف يرى الشحاذون أجسادهم. ولكن هذه العلاقة المرتبكة تتجلى في تفاصيل عدة منها إخفاء الجسد او إظهاره، وخاصة بين النساء اللاتي قد ترتدي إحداهن النقاب، وتقرر أن ترفع جزء منه لعرض جانب من وجهها مركزً على ما يعتريه من تشوه.

  

وإذا قمنا بتحليل مقولات الذى يقوم عليها فعل الشحاذة نجدها لا تخرج عن استحضار الجسد، مثلًا الدعاء الذي يتكرر بكثرة هو الدعاء بالصحة والعافية وشر المرض، فمن هذه الأقوال المتداولة: "ربنا يكفيكم شر النار وعذابها، ربنا ما يحرق قلبكم، ويكسركم المرض، اللي عايزة تساعد ست عاجزة". ومن خلال المشاهدات اليومية خلال عامي 2010- 2011 ظهرت داخل محطات المترو ظاهرة الشحاذة من خلال توزيع ورقة مكتوبة تتضمن أدعية وسبب المعاناة في فقرة صغيرة، هذه الأوراق المكتوبة حولت فعل الشحاذة من ارتباطه بالصوت والكلام المنطوق إلى استناده على الصمت واستخدام النص فحسب. ولكن هذه الظاهرة لم تستمر، ولم تستبدل الاعتماد على الجسد وإبراز معاناته،كمصدر للمعيشة واستحقاقًا للعطاء.

  

أسماء محطات المترو.. ترسيخ سلطة الدولة أم هدم للذاكرة الجمعية؟

ومن خلال أسماء محطات المترو نفسها يمكننا الاقتراب من دراسة الباحثة katherine Vendrey  حول الحياة السياسية للأجساد الميتة التي طرحت فيها كيفية تحول أجساد الموتى من القادة السياسيين إلى رموز حيث يعتبر وجودهم رمزًا لاستقرار الجسد السياسي؟ وكيف تثير لحظات موت الرئيس شكوكًا حول بقاء النظام السياسي من عدمه؟ للأجساد الميتة حياة سياسية في مرحلة ما بعد الموت من خلال خلق معان جديدة.(11) فهل يمكننا القول أن أسماء المحطات وخاصة بأسماء القادة الراحلين أو الشهداء يعد استمرارًا للحياة السياسية للموتى؟

 

وهل استمرار تسمية الشوارع والمحطات بأسمائهم تخليدًا لهم أم ماذا؟ وكيف تستعديهم الذاكرة بعد رحيلهم؟ لماذا محطات التبديل الرئيسية تسمى بأسماء رؤساء كالسادات مثلا؟ ومن له سلطة الاختيار والتسمية وما معاييرها؟ وهل يتساوى دومًا استدعاء رموز الأجساد الميتة سواء القادة أو الشهداء؟

       

يمكن أن نركز على حالة تغيير اسم محطة المترو في رمسيس من "مبارك" إلى "الشهداء" بعد ثورة 25 يناير، ففي إبريل 2011 رُفعت دعوة قضائية مُحي على إثرها اسم مبارك من محطة رمسيس وسُميتت باسم الشهداء إشارة إلى شهداء 25 يناير تخليدًا لذكراهم، ورمزية لسقوط مبارك. وبالفعل قد تغير الاسمم المتداول على ألسنة الناس تدريجيًا. وغابت صور مبارك من المترو، فنرى لوحة كبيرة محفورة على حوائط المترو كما في محطة أنور السادات بها صور الرؤساء عبدالناصر والسادات والسيسي ولا يوجد صورة لمبارك معهم، رغم أنهم جميعًا استمرارًا لمنظومة الاستبداد السياسي.

  

undefined

         

للمفارقة أنه عند مساءلة البعض من مرتادي المترو من الشباب عن تأثير تغير اسم المحطة ومحو صور مبارك عليهم، أجاب البعض بأنه لم يشعر بأن تغيير الاسم جاء ليُنزل الشهداء منازلهم، بقدر ما خفف في نفوسهم الحنق من مبارك مقارنة بالسابق قبل تغيير اسم المحطة. فكأن محو مبارك من المترو هو تخفيف لحدة الغضب من حقبته، التي تعد امتدادا لغيره من الرؤساء. وهذا يشير إلى أن سلطة الدولة داخل المترو لا تقتصر على تحديد العجز والقدرة الجسدية وفق أوراقها الرسمية أو بانتشار قوات الشرطة والأمن داخل المحطات فحسب، ولكنها تمتد إلى سلطة تسمية محطات المترو المختلفة، فاختيار هذه الأسماء يقع ضمن الاختراعات البيروقراطية التي لا يسجل لها براءة اختراع كما يذكر  عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو.

 

ورغم أن جدلية النسيان والتذكر في الذاكرة الجماعية من خلال المسميات لم تحسم بعد، إلا أنه لاينبغي تجاهل أن الذاكرة الجماعية للمجتمع يُعاد تشكيلها وحفرها من خلال أسماء الشوارع والمدن وأسماء محطات المترو، فقد تساعد على ترسيخ لقيم معينة، كما أن اختيار الاسم أو تغييره يعد انعكاسًا لحدث أو ظرف تاريخي معين.

     

"فالمجتمع مكتنف بالأسرار ، له وجوه وإمكانيات مخيفة عديدة، ومن قصر النظر البالغ أن تعتقد أن الوجه الذي يعرضه المجتمع لك في لحظة من اللحظات هو الوجه الصحيح الوحيد، لا أحد منا يعرف جميع الإمكانات التي تكمن نائمة في روح السكان"

(فاكلاف هافل)

  

تؤكد مقولة الكاتب المسرحي وقائد الثورة المخملية في تشيكوسلوفاكيا "فاكلاف هافل" على ضرورة بذل المزيد من الجهد لمحاولة فهم المجتمع والاقتراب من روح السكان وعوالمهم، لذا لابد أن يحتل اليومي والمعيشي والعادي قدره في التحليل والدراسة، فالمترو وما يحتويه من سلوكيات وما يتضمنه من ظواهر اجتماعية يمكن أن يكون مدخلًا لفهم هذه الأسرار والكشف عن الأوجه المستترة للمجتمع والسلطة وعلاقتهما ببعضهما البعض، مما يستوجب مزيد من المحاولات، فالمترو ليس مجرد وسيلة مواصلات يومية.