شعار قسم ميدان

زمن الفياغرا.. مفاتيح غرف نومنا بيد شركات الأدوية

midan - viagra

عندما يئس المتنبي -الشاعر العربي المشهور- من أن ينال من حاكم مصر حينذاك كافور الإخشيدي المملوكي ما تمناه من عطايا وجاه، خرج من مصر يقول:

   

"صار الخصـيُّ إمام الآبقيـن بـها

فالـحر مستعبـد والعبـد معبـود

 

نامت نواطيـر مصـر عن ثعالبهـا

فقد بشمـن وما تفنـى العناقيـد

 

العبـد ليس لـحر صالـح بـأخ

لو أنه فـي ثيـاب الـحر مولـود

   

لا تشتـر العبـد إلا والعصا معـه

إن العبيد لأنجاس مناكيد"

    

كان عند العرب قديما عادة خصي العبد، للاحتفاظ بقوته ودونيته في الوقت نفسه، فلكي يستمر العبد في العمل، ويضمن سيده امتلاك جسده بالكامل، كان يتم خصي العبيد حين بلوغهم (1)، أما في عصرنا الحديث، وبعد ظهور حبوب المنشطات الجنسية (الفياغرا)، فقد انعكس الأمر، حيث أصبحت الدولة وبدائلها من الشركات متعددة الجنسيات والعابرة للقارات وشركات الأدوية تستثمر في الشهوة الجنسية عند الإنسان بدلا من منعها وتدميرها.

        

   

فأصبحت الشهوة الجنسية عبارة عن وظيفة على الإنسان أن يقوم بها ليلا كما يعمل ويكدح نهارا، ولكي يؤدي وظيفته على أكمل وجه وأعلى أداء فعليه أن يتعاطى حبوب الفياغرا. ولكي يقبل الناس على تلك الوظيفة، كان يجب على أجهزة الدولة والإعلام وإعلانات الشركات نشر الدعاية الخاصة بتلك الوظيفة الجديدة، التي سيتم من خلالها إعادة تعريف العلاقات الجنسية وتأميمها لضمان مصالح الشركات وطاعة الدولة ومديري العمل، فكيف تغيرت نظرتنا إلى أجسادنا وإلى العلاقة الجنسية؟ وما أثر كل ذلك على واقعنا الاجتماعي والسياسي؟

 

الإنسان الجنسي المُراقب

في مدينة جورج أورويل التي حكى عنها في روايته الشهيرة "1984" يمكنك أن ترى أينما ذهبت شاشات ولوحات عملاقة تمتلكها وزارة الحقيقة، فقط لتخبرك أن الأخ الأكبر يراقبك، وكأن أورويل يستلهم النظام الرقابي الذي اقترحه الفيلسوف جيرمي بنثام "البانوبتيكون" الذي يسمح للسلطة بمراقبة سجانيها ومواطنيها عبر الأبراج والصور الثابتة، لكن الفيلسوف زيجمونت باومان تحدث مؤخرا في كتابه "المراقبة السائلة" عن تحول ذلك المفهوم القديم للمراقبة، فأصبحت المراقبة أكثر مرونة، عبر وسائل الإعلام والإعلانات والرأي العام، بل عبر تطبيقات الهاتف المحمول، وتعلق المواطنين بها تعلقا خوفيا ومرضيا. (2)

       

وهذا بالضبط ما صنعته شركات الدواء وشركات صناعة المنشطات الجنسية عبر دعاياتها وإعلاناتها، ففي حديث أجراه الباحث رامز يوسف مع أحد الشباب المصريين حول رسالته البحثية "سيجارة وحباية وكباية شاي، تحولات الجسد المصري في عصر الفياغرا" تحدث رامز مع شاب يسمى ياسين (27 سنة) حول أثر حبوب الفياغرا على العلاقات الجنسية فقال: "صعب كده في كل حته يقولك خليك أسد خليك أسد.. مش كده!".

   

 ويعلق الباحث رامز يوسف متحدثا عن ياسين: "ياسين نفسه لا يتعاطى الفياغرا ويفضل الحشيش لتأخير القذف، لكن مثله مثل شباب كثير كانت تعليقاتهم الأولية كلها عن لفظة "الأسد" دون أن نخوض في موضوع الإعلانات، ويبدو أن لاسم "الأسد" ارتباطا وثيقا بحبوب الجنس في مصر، وذلك لعدة أسباب منها أن هناك وصفا مجتمعيا للرجل بالأسد حسب وظيفته، ومنها أن "الأسد" شعار أكبر شركة مصرية لإنتاج حبوب الجنس، حيث نجحت الإعلانات بربط وصف الرجل بالأسد مع تعاطي حبوب الجنس كارتباط شرطي، وتوافق ذلك مع ما يراه كثير من الرجال من أن المطلوب منهم هو أن يكونوا أسودا في جميع الظروف، وهذا ما تقدمه تلك الحبوب، حيث تعدهم بوقت محدد هو 30 دقيقة بعد تناول الحبة، وهنا تم تحديد تعريف موضوعي وثابت لوظيفة الأسد وصفته". (3)

      

   

يشرح يوسف ما نجحت الإعلانات ووسائل دعايات الشركات المنتجة لحبوب الجنس في إقناع الناس به، ففي سلسلة إعلانات أنتجتها الشركة المنتجة لحبوب فايركتا، تصور تلك الإعلانات الرجل المصري في صورة "بطة" ومرة أخرى "خروف" ما لم يشترِ العلبة الذهبية "فايركتا" وينتهي الإعلان بجملة: "لو بتشوفك بطة ارجع أسد واشتري العلبة الدهبية من أي صيدلية"، فأخرجت شركات الدواء والحبوب الجنسية العلاقات الجنسية للإنسان من مساحتها الحميمية والسرية وأعطتها تعريفا منضبطا وموضوعيا، ووقتا محددا يقيس العلاقة الجنسية المثالية والأكثر كفاءة بمدة 30 دقيقة.

  

 حيث تنصب تلك الشركات شباك صيدها لتلعب على مخاوف الإنسان تجاه علاقته الجنسية وخصوصيته وصورته أمام نفسه وأمام شريكته، فبعد أن كانت تلك العلاقات تتميز بتنوع الخبرات والسرية، أصبحت محددة ومؤطرة بفضل حبوب المنشطات الجنسية، ومن لم يتعاطها فإنه واحد من اثنين، بطة أو خروف.

     

   

"العلبة الدهبية الواحد بميه".. الاستثمار في الخوف

لم يتوقف الأمر على مجرد إعلانات، بل انتقل إلى أغنية شعبية (مهرجان شعبي) يغنيها الكبير والصغير، بل من المألوف أن تجد أطفالا في سن المراهقة يلعبون في الشارع ويغنون "مهرجان العلبة الدهبية".

     

وعلى طريقة الإعلان التجاري، تعزز الأغنية الأمر نفسه، فتحكي قصة رجل "كان عنده ظروف ومراته بتشوفه خروف" إلى أن ينصحه أحد أصدقائه بشراء العلبة الذهبية "فايركتا" التي ستجعله أسدا أمام زوجته.

   

فأصبح "خوف الرجل" من أن يبدو أمام زوجته في صورة بطة أو خروف هو أقوى المخاوف والاحتياجات التي خلقتها دعايات تلك الشركات لحث الناس على شراء المنشطات الجنسية، بل إن ذلك الخوف، الذي يهدد ليس فقط صورة الإنسان أمام نفسه بل كيانه ووجوده كله، خوف يفوق خوف الإنسان من أثر تلك الحبوب على قلبه وكبده، فكثير من المصابين بأمراض القلب والكبد يتعاطون المنشطات الجنسية التي قد تتسبب في قتلهم (3)، وفي حوار أجراه الباحث رامز يوسف مع طبيب لأمراض الكبد، قال له الطبيب إن كثيرا من مرضاه يسألونه عن تأثير الأدوية على الانتصاب، فإذا اكتشفوا أن للدواء أثرا على العملية الجنسية رفضوه حتى لو تدهورت حالتهم الصحية. (3)

   

  

ويقارن يوسف بين بحث أنثروبولوجي أجراه باحث باكستاني يسمى "كمران علي" عام 1998 على برنامج "تنظيم الأسرة في مصر" الذي أطلقته الحكومة المصرية في ذلك الوقت، واكتشف كمران من خلاله أن الرجال المصريين قبل ظهور حبوب الفياغرا كان خوفهم يكمن في عدم مقدرتهم على إرضاء زوجاتهم جنسيا، أما الذي اكتشفه رامز يوسف خلال بحثه أن تلك المخاوف تبدلت، وأصبح خوف الرجال المصريين لا يكمن في عملية الإرضاء الجنسي الذي يُعدّ عنصرا من عناصر العلاقة الناجحة ومن ثم نجاح استقرار الأسرة، بل أصبح خوف الرجال المصريين يكمن في احتمالية عدم نجاحهم في تحقيق وظيفة "الأسد" (3)، فهو خوف لا يتعلق بالآخر ولا بالشريكة أو الزوجة، بل خوف يتعلق بالإنسان نفسه وقدرته على أن يقيم علاقة جنسية اعتيادية، يؤدي فيها أداءا جنسيا عاديا أو طبيعيا كالذي يتحدث عنه الجميع، وهو أداء "الأسد" الذي يحافظ على قوته وسيطرته في جميع الأحوال والظروف ويكون دائما مستعدا كأنه آلة وليس إنسانا بشريا.

     

ويضيف يوسف أن دور دعايات تلك الشركات وإعلاناتها ليس الإعلان عن قدرات خارقة ستمنحها تلك الحبوب للإنسان، بل هي تعدهم أنهم سيكونون عند الأداء الجنسي "العادي" أو الطبيعي، وهذا الأداء "العادي" الشركات هي من تحدد شكله ومدته وإطاره (3)، ليكون رجلا جاهزا ومستعدا دائما وبدون ظروف، وإلا سيكون مجرد بطة أو خروف في أعين زوجته، فالتخويف والعقاب المعنوي هنا يلعب دورا كبيرا في حث الإنسان على شراء تلك الحبوب وحصاره بالدعاية ونبذه خارج مفهوم "العادي" إذا لم يستجب، ويلاحظ يوسف أن هذا الخطاب يشبه الخطاب الأيديولوجي الذي تطلقه أي دولة كي يطيعها مواطنوها ولا يفكرون إلا في الإطار الذي تقدمه لهم.

      

    

الفياغرا وإعادة إنتاج أدوات الإنتاج

في أقل من عشرين سنة منذ ظهور مادة سيلدينافيل السترات في العالم 28 مارس/آذار 1998 واختراع الحبوب الزرقاء، وفي أقل من خمسة عشر عاما منذ ظهور تلك الحبوب في مصر يوليو/تموز 2006، قلبت تلك الحبوب الموازين، وغيرت مفاهيم الإنسان عن الجنس والعلاقات الجنسية، وهو تغير يُعدّ الأول من نوعه على مدار تاريخ البشرية على هذا الكوكب، ففي تلك المدة القصيرة أصبح اسم "الأسد" المطلوب من الرجل "العادي" والخوف من صورة "البطة والخروف" هما الأساس الجديد الذي يحدد مفهوم الجنس، وأصبح التنوع والخبرات الجنسية خاضعين لصورة واحدة نمطية تنشرها دعايات تلك الشركات بجانب الأفلام الإباحية عن العلاقات الجنسية الجديدة، حتى أصبح الأمر أشبه بانتشار أيديولوجية جديدة وحديثة ذات عقيدة موحدة وتصور شمولي عن الجنس يجب أن يخضع له كل البشر، ومن لم يخضع له يكون منبوذا خارج الأيديولوجية، وكما يشير رامز يوسف: "الفرق بين العادي وغير العادي بين الأسد والخروف مثل الفرق بين المواطن الصالح وغير الصالح". (3)

       

لكن هذا التحول في مفهوم الجنس خلال عصر الحبة الزرقاء يحمل بُعدا آخر، حيث تشير الأرباح التي تحققها حبوب المنشطات الجنسية إلى استثمار جديد لكنه في العضو الذكري للرجل هذه المرة، فيتحول جسم الإنسان الذي تستخدمه الدولة والشركات كأداة للإنتاج تحت ظروف من الانضباط، التي تظهر في التزام الجسد بأعمال معينة ومواعيد معينة وعادات معينة تُعيد تشكيل حياته، يتحول هذا الجسم إلى آلة مطالب منها أن تعطي أفضل أداء في أطول وقت ممكن بغض النظر عن انضباط ذلك الإنسان وعاداته اليومية وحياته، وهذا ما أشار إليه ماكنزي حينما قال: "سيمثل الأداء في القرن العشرين والحادي والعشرين ما مثله الانضباط في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، وسيؤثر ذلك في تشكيل القوة والمعرفة عبر التاريخ". (4)

       

ويعيد الباحث يوسف رامز الحديث عن محاوره "ياسين" الذي يرفض حتى الآن تعاطي الفياغرا، لكن الحصار الذي يعيشه كل يوم بين وسائل الإعلام والإعلانات والدعايات وحديث الناس المستمر عن حبوب الجنس والأداء الجنسي، يجعله يتشكك في وجوده وفي أدائه الجنسي (5)، فالإنسان في عصر "الأداء" سيعيد النظر إلى نفسه وإلى جسده من خلال المنتجات، ومقارنة ما يمكنه إنتاجه، سواء من عمل أو أداء جنسي، بما ينتجه الآخرون.

     

    

ويأتي هنا دور الدعايات التي تطلقها الشركات التي حلت محل سلطة الحكومة وخطابها الأيديولوجي الجديد، لتحاصر الإنسان وتعيد على مسامعه مصطلحاتها الأيديولوجية الخاصة، وتراقبه بخطابها ومنتجاتها مثلما كانت تفعل وزارة الحقيقة في رواية "1984"، حيث كشف أحدث تقرير صادر عن جهاز حماية المستهلك أن إعلانات المقويات الجنسية التي بها شبهة تضليل تحتل المرتبة الأولى لمدة 3 سنوات في الإعلانات التي تم متابعتها من خلال المرصد الإعلامى بالجهاز.

   

وأوضح التقرير أنه تم متابعة 322 قناة فضائية لرصد 9241 إعلانا، كشف منها عن شبهة تضليل للمستهلكين، لتحتل المقويات الجنسية التي يتم الترويج لها من خلال الفضائيات المرتبة الأولى بعدد 2795 إعلانا بنسبة 28%، يعقبها المنتجات الطبية ويليها منتجات التخسيس. (6) وحديثا انتقلت نوعية الإعلانات من الحديث عن الوظيفة الجنسية ووظيفة الأسد إلى الحديث عن مشكلة سرعة القذف وضبط الأداء ليتناسب مع المدة المحددة والشكل المثالي المضبوط.

      

    

والإنسان تحت هذا الكم من الدعايات التي تحاصره، يخضع أخيرا لتلك الأيديولوجيا ورؤيتها لجسده، فيتعلم أن الأداء هو الأهم، ويتعلم كيف يستثمر في عضوه الذكري، ليحقق انتصارا صغيرا يجعله يشعر بقوته وسيطرته على جسده وتحكمه فيه بعد يوم طويل من العمل الشاق، وهذا الوقت السعيد المحدود هو ما يعطيه القدرة على مواصلة حياته والحفاظ على أدائه في العمل لدى الشركات أيضا.

  

وهذا كله ما شرحه الفيلسوف الفرنسي ألتوسير في حديثه عن الدولة وأجهزة الدولة الأيديولوجية، حيث يذهب ألتوسير إلى أن أهم الأجهزة الأيديولوجية للدولة هي أجهزة الإعلام والقانون والدين، والتعليم المجاني والخاص، وكل النظام السياسي بمعارضته، ونقاباته، ومؤسسات الفنون والأدب والرياضة.

  

لكن يعطي ألتوسير مكانة خاصة لأهم مؤسسة في المجتمع على الإطلاق وهي مؤسسة الأسرة، فهي المؤسسة المجتمعية المكلفة بإنتاج القيم والأخلاق التي يعتنقها الأطفال، وكذلك بإنتاج الأطفال أنفسهم وهم الذين سيصبحون فيما بعد قوى الإنتاج. والأسرة عند ألتوسير ليست فقط وحدة الإنتاج، بل أيضا هي وحدة الاستهلاك الأساسية، والتحكم فيها يعني التحكم في الوحدات الأساسية للمجتمع ولنظام الإنتاج. (7)

 

ويشرح ألتوسير كيف أن خطاب الأيديولوجية الذي ينبع من الدولة، وحديثا من الشركات المحلية والعالمية، هو الذي يحافظ على استمرار النظام الاجتماعي الداعم لنظام الإنتاج، فهذا الخطاب هو من يحث الناس دائما على قيمة العمل والولع المجنون باستهلاك المنتجات حتى التي لا نحتاج إليها، وهذا الخطاب هو من يشكل مفهومنا الحديث عن العلاقات الجنسية، وهو من يستخدم دعايات حبوب الجنس لاستمرار نظام الاستغلال الرأسمالي، فأمام هذا الخطاب وتلك الظروف المعيشية من العمل الشاق يصبح استهلاك تلك الحبوب مجرد طقس اعتيادي ومألوف للشعور ببعض المتعة وبالتالي استمرار الحياة وبقاء الوضع على ما هو عليه. (8)

      

لوي ألتوسير (مواقع التواصل الاجتماعي)
لوي ألتوسير (مواقع التواصل الاجتماعي)

     

طقس "حباية وسيجارة وكوباية شاي"، كما يشير رامز يوسف، أصبح طقسا شعبيا، يتراوح بين العمل والاستهلاك، حيث يستهلك الناس الحبوب من الصيدلية حتى يتمكنوا من العمل، فهم يطلبون أدوية ذات أسعار منخفضة، ليتمكنوا سريعا من الوصول إلى أنجع وأسرع تأثيرات ممكنة. فليس لديهم خيار سوى الاستهلاك ليكونوا قادرين على أداء جميع أنواع أعمال الجسم. فهم يطلبون الدواء الأقوى والأسرع لأنه لا يتوفر لديهم الوقت، وعليهم العودة إلى العمل. (8)

   

"فيستهلك الرجال الحبوب الجنسية التي تسعى للحصول على مساحة للتنفس، لتجربة أجسامهم في السرير طالما أن هذا هو المكان الوحيد المتاح لتجربته. "الجنس رياضة شعبية" كما يقول الصيدلي أحمد. فيمكن للرجال، من خلال السعادة في الحصول على انتصارات صغيرة في الليل، أن يجدوا التجربة "المجانية" في جسدهم. ومثل هذا الاستخدام المجاني للجسم، يكاد يكون غائبا في يوم العمل الطويل". (8)

     

العودة إلى العمل.. هل أنت سعيد هكذا؟

"عبر المرآة أتابع السيارة ذاتها وهي لا تزال عاجزة عن تجاوزي بسبب سيارات الخط المعاكس. إلى جوار السائق تجلس امرأة. أتساءل في سري لِمَ لا يحكي لها أشياء مسلية، لِمَ لا يضع يده على ركبتها؟ عوض ذلك، يلعن سائق السيارة التي أمامه، ولأنه لا يقود بسرعة. المرأة هي الأخرى لا تفكر في مد يدها لملامسة السائق، بل تنخرط معه ذهنيا في القيادة، وتشاركه في الشتم"

-(ميلان كونديرا، رواية البطء)

     

ما يخبرنا به ألتوسير وما يعود الفيلسوف ماكنزي ليؤكده هو أن الإنسان في العصر الحديث، وخاصة الإنسان الذي يعيش تحت ظروف قاهرة لا يملك فيها زمام حياته، ليس أمامه إلا العمل والاستهلاك، وهذا كل ما يستطيع فعله كي يضمن بقاءه في عالم رأسمالي لا يرحم أحدا، حيث يقول ماكنزي: "بموجب مبدأ الأداء… المجتمع مقسم حسب الأداء الاقتصادي التنافسي لأعضائه… فالرجال لا يعيشون حياتهم الخاصة ولكنهم يؤدون مهام مفروضة عليهم. وأثناء عملهم، فإنهم لا يلبون احتياجاتهم ورغباتهم الخاصة ولكنهم يعملون في عزلة"، يأتي هنا دور الكيمياء والحبوب لتساعد تلك الأجساد الهزيلة المتعبة من العمل الشاق على الاستمرار في العمل عن طريق وسيلتين، أولها الحبوب والمنشطات مثل الفياغرا وفايركتا وغيرهم، لتحسين أدائهم الجنسي، فتعطي الرجال الطاقة النفسية اللازمة التي تمكّنهم من تحمل الواقع والعودة إلى العمل، والوسيلة الثانية هي حبوب الترامادول وغيرها من المسكنات التي تساعد تلك الأجساد على مواصلة العمل الشاق والمرهق وتعطيهم الطاقة الإضافية لتجنب انهيار الجسد. (8)

        

undefined

  

لكن هل يشعر الإنسان من خلال تلك الحبوب والمنشطات بالسعادة فعلا حتى لو كانت سعادة محددة ومؤقتة؟ يجادل رامز يوسف من خلال ورقته البحثية أن دعايات حبوب الفياغرا والمواد الكيميائية لهم دور كبير في تشكيل مفهوم "الرغبة" ومن ثم مفهوم السعادة، التي تتحقق بتحقيق الرغبة بشكل مرضي، ففي عصر الفياغرا، يتم بناء الرغبة على أشكال محددة من الأداء، وكلما اقترب أداء الإنسان من الصورة المحددة له تحقق قدر أكبر من السعادة، وهذه الصورة مضبوطة سابقا بوقت وحجم وسرعة محددة، لكن بسؤال يوسف لعدد من الأشخاص عن إذا كانوا يشعرون هم بالسعادة أثناء الجماع، لم يجدوا ردا مناسبا لأنهم لم يفكروا من قبل بهذا الشكل، فحبوب الجنس تجعلك تفكر كآلة تبحث عن أعلى كفاءة مثالية ومعممة وليس كجسد بشري يبحث عن متعة خاصة وتجربة حميمية فريدة. (8)

  

يتحدث أحد الأشخاص لرامز يوسف قائلا إنه عندما يريد عمل اتصال جنسي جيد فهو يتناول حبة مع كوب من الشاي ثم ينتظر 13 دقيقة، ثم يبدأ الأداء، ويشعر الرجال خلال العملية بأنهم وحدهم المسؤولون عن نجاح عملية الجماع، ففي عصر الفياغرا تتمحور المتعة والرضا الجنسي حول رضا الرجل عنها وصورته أمام نفسه وأمام شريكته، فينظر الرجل إلى زوجته على أنها متلقٍّ سلبي، ويفترض أنه نال رضاها، ففي حين تقوم دعايات الفياغرا على ادعاء تلبية الاحتياج المستمر للزوجة، فهي في الحقيقة تزيح دور الشريكة خلال العلاقة التي تسعى لتحقيق السعادة. (8)

   

هكذا تحولت الرغبة الجنسية من معوق ونقص يعيق العمل، إلى مساحة للاستثمار، ومحفز لاستمرار العمل والحفاظ على نظام الإنتاج، ومن ثم النظام السياسي كما يخبرنا ألتوسير، وتحقيق سعادة مؤقتة ومحدودة تتمحور حول الذات المعبئة بالكيمياء. لكن حبوب المنشطات الجنسية ليست مجرد حافز للعمل، بل إنها تمتلك قوتها في ثنايا العلاقات الاجتماعية، في موقع العمل على سبيل المثال، فالحبة الزرقاء يمكنها أن تتحول إلى رشوة في موقع حكومي أو في طرقات المحاكم والسجون، ويمكنها أن تصبح هدية في المناسبات الاجتماعية وتعزيز الروابط والعلاقات في المكاتب والشركات، وهي كذلك يمكنها أن تصبح عربونا لتوثيق علاقة صداقة فتفتح الطريق لامتداد شبكة اجتماعية تقوم على خيال جنسي جديد يجتاح العقول ويسيطر عليها.

    

وكما أمدت تلك الحبوب الإنسان بقوة جديدة، فقد سلبته حياته الخاصة، وجعلته مجرد أداة ومستهلك في نظر الشركات، وبالتالي تم اختزال علاقات الإنسان الحميمية وعلاقته مع زوجته إلى مجرد أداء جنسي تتحكم فيه شركات الدواء والمستحضرات الطبية، وتحولت علاقة الحب والتفاهم إلى أداء جنسي عنيف، يعيد إنتاج علاقات القهر في المجتمع وينقلها من علاقة المدير بالموظف أو العامل إلى الرجل وزوجته، ومن ثم الزوجة وأبنائها، فيبقى الوضع كما هو عليه، ويبقى الإنسان عاجزا عن أي عمل ثوري يغير واقعه البائس.