شعار قسم ميدان

وضعوه على قوائم الإرهاب.. الوجه الآخر لنيلسون مانديلا

اضغط للاستماع

حينما يحتل العنف المشهد، وتسيل الدماء، أو في تلك اللحظات التي تبدو بوادر التغيير السياسي والاجتماعي لائحة في الأفق، حينها، تبدو الحالة مثالية لاستدعاء صورة نيلسون مانديلا، وجه مبتسم، يرمز بحضوره للتغيير السلمي، وكقائد للحراك اللاعنيف. صورة حاضرة باستمرار، خصوصا في موجات الاضطراب العنيفة التي تطال الاستقرار في الوطن العربي. لكن، فيما وراء رمزية السلم تلك، يظهر مشهد آخر، تتبدى أول ملامحه بأن مانديلا، صاحب نوبل للسلام، كان مدرجا على قائمة "الإرهاب" الأميركية حتى عام 2008، وهو ما يدفع إلى التساؤل حول نموذج السلام الخالص الذي يتم تسويقه وما ينسحب عليه من انعكاسات على الواقع.

جنوب أفريقيا.. في البدء كان الاستعمار الأوروبي

بدأ الاحتلال الهولندي لجنوب أفريقيا عام 1652م، وأنشأوا لهم مستعمرات معزولة عن بقية السكان، ثم استلم البريطانيون احتلال جنوب أفريقيا من الهولنديين عام 1815م، واستمر الاضطهاد والتمييز العنصري وحُكْم الأقلية البيضاء، حتى وصل ذروته في الأعوام بين 1948م و1991م في نظام الأبارتايد (Apartheid) والذي يعني باللغة المحلية "الفصل".

نظامٌ عَمِل على ضمان كل الامتيازات الممكنة للرجل الأبيض، ومنع الأفارقة من أبسط حقوقهم: التعليم، الصحة، الرفاهية، الحرية، المشاركة في التصويت والانتخابات، كل هذه الأمور كانت حقا حصريا للأوروبيين في الوقت الذي كانت فيه إما ممنوعة وإما مُضيّقا عليها الخناق للأفارقة. وفوق ذلك، منع النظام الأفارقة من التزاوج مع الأوروبيين، كما حرمهم من وظائف ومناصب كثيرة، بالإضافة إلى أنه حظر عليهم الوجود في أماكن الأوروبيين. وبين عامي 1960م و1983م طرد النظام 3.5 مليون أفريقي من بيوتهم ليسكنوا في أحياء فقيرة بعيدا عن الأوروبيين، في واحدة من أكبر عمليات التهجير الجماعي في التاريخ الحديث[1].

لافتة علقها الاستعمار: للاستخدام بواسطة البيض فقط. (مواقع التواصل )
لافتة علقها الاستعمار: للاستخدام بواسطة البيض فقط. (مواقع التواصل )

ولضمان استمرارية الاستغلال، كانت الحكومة تُنفق عشرة أضعاف المصروفات على تعليم الطفل الأبيض عن نظيره الأسود[2]. كان النظام واضحا: الرجل الأبيض له كل شيء، والرجل الأسود ليس له أي شيء. اضطهاد متواصل أدى إلى تجمع السكان الأصليين من الأفارقة في عام 1912م لتأسيس المؤتمر الوطني الأفريقي (African National Congress – ANC) للدفاع عن قضيتهم والمطالبة بحقوقهم، وفي هذا السياق نشأ مانديلا.

لافتة على شاطئ ناتال بثلاث لغات: هذا المكان محجوز للاستخدام للأعضاء ذوي العرق الأبيض فقط (مواقع التواصل )
لافتة على شاطئ ناتال بثلاث لغات: هذا المكان محجوز للاستخدام للأعضاء ذوي العرق الأبيض فقط (مواقع التواصل )

مانديلا ومرحلة النضال السلمي

في هذه البيئة الاستعمارية، وُلد مانيدلا عام 1918م كابن لزعيم قبيلة ما لبث أن توفي حتى استلم ابنه منه الراية، وانتُخب زعيما للقبيلة ذاتها. ومع تصاعد شعوره بالاضطهاد، بدأ نشاط مانديلا السياسي في الأربعينيات حينما بدأ حضوره لاجتماعات الحزب الشيوعي خلال المرحلة الجامعية[3]، ثم انفصل عن الشيوعيين بعد ذلك وأسس عام 1944م الجمعية الشبابية لحزب المؤتمر الأفريقي، ثم أصبح في 1950م رئيسا للجمعية ذاتها. في ذلك الوقت، انتهج مانديلا نهج المقاومة السلمية ضد الاحتلال الأجنبي مسلتهما أفكار مهتاما غاندي، التي تعتمد على وسائل لاعنيفة للاحتجاج الشعبي، مثل المقاطعات السلبية والمظاهرات وحملات التوعية[4].

بعد دراسته الجامعية عمل مانديلا في مهنة المحاماة، واستمر في نضاله السلمي ضد حكومة التمييز العنصري بشتى الوسائل الممكنة: المظاهرات، الإضرابات، الأعمال الاحتجاجية القانونية، وغير ذلك. لكن عام 1960م شهد تحولا كبيرا في فكر مانديلا، إذ ارتكبت الشرطة مذبحة بحق المدنيين العُزّل، والتي اشتهرت فيما بعد بمذبحة شاربفيل، فتحت فيها الشرطة النار على المتظاهرين وبلغ عدد القتلى نحو 70 قتيلا.

لوحة فنية تصور ضحايا مذبحة شاربفيل عام 1960م (مواقع التواصل)
لوحة فنية تصور ضحايا مذبحة شاربفيل عام 1960م (مواقع التواصل)

شكّلت هذه الصفحة الدامية منعطفا مهما في مسيرة مانديلا السياسية، فأمام هذا الحدث غير المسبوق في تاريخ مانديلا، أعاد التفكير حول منهجه للتغيير، وانتهت به مراجعته إلى أن طريق غاندي السلمي لن يجدي نفعا مع قوى الاحتلال، ليقرر حينها أن يواجه العنف بالعنف، مستلهما أفكار ماو تسي تونج وتشي جيفارا عن حروب العصابات[5].

بداية فكرة العنف في حياة مانديلا

اقترح مانديلا على رفاقه في الحزب تغيير شكل التنظيم ليصبح مُكوّنا من خلايا عنقودية صغيرة تقودها زعامة مركزية بدلا من التنظيم المناطقي المستقل، لكن الحزب لم يرحب باقتراحه، وبفكرة الاتجاه نحو العمل المسلح عموما[6]. وبسبب خلافه مع الجناح السلمي في حزب المؤتمر الأفريقي، فُصل مانديلا من مناصبه لانحرافه عن النهج السلمي للمقاومة، وهو ما وصفه شخصيا بقوله: "كنت أنا وزملائي نقود حزب المؤتمر الأفريقي إلى طريق أكثر راديكالية وثورية"[7].

وجد مانديلا نفسه أمام تحدٍّ كبير، إذ كيف يطبق أفكارا ثورية في مقاومة السلطة، في الوقت الذي لم يتدرب فيه شخص واحد من المعارضين على السلاح؟ لم ينتظر مانديلا طويلا، حيث سافر إلى عدة دول أفريقية لقراءة تجاربها في التحرر الوطني، لتمثل الجزائر إحدى أهم محطاته التي قدم إليها عام 1961م حيث كانت لا تزال حديثة عهد باستقلال.

تدرب مانديلا هناك على المقاومة العسكرية، وتلقى الخبرات الميدانية والإستراتيجية من قادة المقاومة ومعسكرات الوحدات هناك. تدريب كان الأول والأهم في مسيرة مانديلا، والذي انعكس على طبيعة تكوينه، للحد الذي صرّح فيه خلال إحدى خطبه أمام آلاف الجماهير قائلا: "كنت أول جنوب أفريقي يتلقى تدريبا عسكريا في الجزائر.. رجعت من الجزائر إلى دياري، ولكني رجعت رجلا"[8].

نيلسون مانديلا (في المنتصف) مع مناضلين جزائريين خلال تلقيه التدريب العسكري بالجزائر (مواقع التواصل )
نيلسون مانديلا (في المنتصف) مع مناضلين جزائريين خلال تلقيه التدريب العسكري بالجزائر (مواقع التواصل )

تنظيم رمح الأمة

عاد مانديلا إلى جنوب أفريقيا متشبثا بطريق واحد: المواجهة المسلحة ضد الاضطهاد الواقع على الأفارقة. لم تكن هذه الرؤية محل اتفاق بين رفقاء مانديلا، لكنه لم ينتظر موافقتهم، لينشئ تنظيما مسلحا سمّاه بـ "Umkhonto we Sizwe" أي (رمح الأمة) عام 1961م، ليشكل التنظيم نواة لمقاومة حكومة الفصل العنصري بواسطة الخلايا السرية والعمل المسلح، لا عبر الوسائل السلمية والدستورية[9].

فكرة تجلّت في البيان الرسمي (المانفستو) التأسيسي للتنظيم الذي صاغه مانديلا: "هناك وقت يمر بحياة الأمم، عندما لا يبقى هناك سوى حل من اثنين: إما الاستسلام وإما القتال، هذا هو الوقت الذي تمر به جنوب أفريقيا الآن. لن نستسلم ولا نملك خيارا آخر سوى أن نرد الضربات بأقصى ما نستطيع دفاعا عن أنفسنا، شعبنا، مستقبلنا، وعن حريتنا"[11].

وبعد سلسلة من العمليات النوعية والاغتيالات والتفجيرات، اعتُقل مانديلا عام 1962م مع العديد من قادة التنظيم، وعندما وقف أمام المحكمة عام 1964م لاتهامه في قضايا تخريب وتآمر ضد استقلال البلاد، صرّح قائلا أمام هيئة المحكمة بكل ثقة: "نعم أنا ارتكبت بعض هذه الأعمال. انتهيت أنا وزملائي إلى أن العنف في هذه الدولة هو أمر حتمي. وسيكون من الخطأ وعدم الواقعية أن يستمر الزعماء الأفارقة في الوعظ بالسلام واللاعنف في الوقت الذي تقابل فيه الحكومة مطالبنا بالعنف.. بدون العنف لن يكون هناك طريق مفتوح أمام الأفارقة لانتصارهم في صراعهم ضد مبدأ تفوق الرجل الأبيض"[10].

شعار تنظيم رمح الأمة (مواقع التواصل )
شعار تنظيم رمح الأمة (مواقع التواصل )

"بين مطرقة العمل المسلح وسندان الجماهير الموحدة، سيُسحق العدو"

(مانديلا)

استمر مانديلا في إنشاء الخلايا وتنفيذ العمليات المسلحة ضد الحكومة، حتى أُلقي القبض عليه عام 1962م، وفي آخر المحاكمة حُكم عليه بالسجن المؤبد، ولم يخرج منه إلا في عام 1988م تحت الإقامة الجبرية، ونال حريته الكاملة عام 1990م، وكان من أول التصريحات التي صرح بها مانديلا عقب تحريره هو أن "الأسباب التي بررت قرار تبني الكفاح المسلح لا تزال قائمة"[12].

استمر نضال مانديلا السياسي لينال جائزة نوبل للسلام عام 1993م، وفي عام 1994م رضخت الحكومة للمطلب الشعبي والضغط الدولي بإجراء انتخابات لكل الأعراق، ونجح فيها مانديلا ليُنتخب في 1994م رئيسا لجنوب أفريقيا في أول انتخابات متعددة الأعراق في جنوب أفريقيا.

لماذا هذه الصورة الملائكية عن مانديلا؟!

رغم التاريخ المليء بالممارسات المسلحة لمانديلا، فإن المشهد الدولي يحرص على رسم صورة مغايرة عن مانديلا كداعية للسلام وقديس للحراك اللاعنيف، فلماذا هذا الإصرار على رسم هذه الصورة الملائكية عن الرجل؟!

يقول عزمي بشارة إنه "لا علاقة لمانديلا وتاريخه بالأسطورة التي تُصنع عنه في إطار الاستهلاك الغربي للرموز والصور، الأسطورة المعولمة التي تُحاك عن مانديلا تشبه في صناعتها أسطورة "ليدي ديانا" وغيرها من المشاهير والنجوم، حيث يمكن للعنصريين أن يتعايشوا مع هذه الأسطورة. فهي لا تتضمن مراجعة للذات، ولا تطلب من الدول الغربية نقدا ذاتيا على دعمها للأبارتهايد"(13).

undefined

تبدو إذن الصورة ناصعة البياض التي تُروَّج دوليا لنيلسون مانديلا كزعيم للنضال السلمي ورمز للاعنف والسلام، هي صورة لا ترتبط بالواقع. وأمام هذا التناقض، بين نضال مانديلا الحقيقي وبين صورته التي يُراد نشرها للعالم يظهر التساؤل: لماذا هذه الرغبة الدولية في رسم صورة لاعنيفة للمطالبين بحقوقهم؟ وهل كان من الممكن لمانديلا أن ينتزع حرية شعبه أو أن يحصل على حقوق شعبه بدون استخدامه للكفاح المسلح؟ تبدو الإجابة كامنة في سيرة الرجل ولا يصعب استشفافها من حياة مانديلا نفسه.

المصدر : الجزيرة