شعار قسم ميدان

في غرفة التحقيق.. هكذا ينتزعون اعترافاتك ويجعلونك تنهار داخل المعتقل

ميدان - التعذيب
اضغط للاستماع

 

أن تنتزع الاعتراف من السجين(1)، هذا هو جوهر عملية الاعتقال، فكل ما يدور من تعذيب داخل السجون هدفه كسر المعتقل ودفعه إلى الانهيار عبر عملية التحقيق، كي يقبل ويقتنع بكل ما يقوله المحقق، ثم يوقّع طواعية على جرائم لم يرتكبها. الوصول لمرحلة الاعتراف تلك، تدفع المحقق لابتكار شتى الأساليب للوصول إليها، فالسجين، وقبل وصوله لمحبسه، تبدأ رحلته بالتعرض للمهانة والصفع والضرب المبرح والسياط والهروات، كي تنهار إرادته، حيث يكون المعتقل حينها مجردا، لا يحمل معه سوى إرادته، فجسده مستباح، وإن لم تنتصر إرادته وتصمد، فقد خسر المعركة.

 

تبدأ الرحلة نحو التحقيق عندما يتم "تكبيل المعتقل ب"الكلبش" لحظة الاعتقال، ويداه خلف ظهره، وتُغمى عينه بحيث لا يتمكن من رؤية شيء، وينتقل تحت وابل من الضرب والشتم والإهانة إلى فرع الأمن، وهناك يسلم ما يملك من أوراق ونقود، وساعة يد، وبطاقة هوية، ويُنقل إلى الزنزانة عبر جندي مختص إلى أقبية التحقيق، حيث يبدأ التعذيب. يمكث المعتقل في أجواء التحقيق أو في الزنازين أسابيع أو شهورا، هذه الفترة تشكل ضغطا شديدا على نفسيته وأعصابه، ففي كل صباح يحضر المحققون، ومع حضورهم تصفق الأبواب وتفتح وتغلق، ويظهر جندي وسجان من خلف الباب وينادي المطلوبين للتحقيق، وفي أروقة غرف التحقيق نفسها يكون الجو مشحونا بالترقب والحذر والخوف، في كل لحظة يشعر الأسير أنه سيكون المطلوب وهذا القلق يضغط على الأعصاب".

 

  undefined

 

يحكي الصحفي أحمد رائف، الذي اعتُقل مع الإخوان المسلمين أثناء حكم عبد الناصر، أنه دخل غرفة التحقيق في أول مرة فوجد ثلاثة من أصدقائه عراة تماما حتى إنه لم يتعرف عليهم أول الأمر، تنزف أجسادهم دما، وتنتفخ أقدامهم بالصديد، وتحت وقع ذلك المنظر الرهيب وما سبقه من صفع وإهانة، يحكي رائف حواره مع المحقق:

"- لماذا تسكت؟

-لا أدري ما أقول.

وبصوت خافت يقول الضابط: بل عليك أن تقول وإلا ساءت عاقبتك.

-اتفقنا.

-على أي شيء؟

-أنا عضو بتنظيم الإخوان، بل أحد قادة التنظيم.

– ستكتب اعترافا بهذا أليس كذلك؟

-بشرط أن أنجو من الضرب.

-اتفقنا سوف تنجو من الضرب، هاه، ماذا ستكتب؟

-سأكتب أنني عضو في تنظيم الإخوان المسلمين.

-ثم تعطينا تفاصيل عن تنظيم الإخوان وعن قيادة التنظيم.

-هذا المحال بعينه يا سيادة الرائد، لن أكتب حرفا أكثر من الجملة التي ذكرت لك، وافعل ما بدا لك فليس في استطاعتي أكثر من ذلك، صدقني.

  

 

وتدور رحى العذاب ضروسا بشعة تحمل معها التعاسة والألم والشقاء.. وكان التعذيب في أبي زعبل يعتمد أول ما يعتمد على القهر الروحي والتجريد من الملابس، فتضيع قيمة الإنسان أمام نفسه ويشعر أنه شيء مباح لا قيمة له ولا وزن، ثم الإهانة الفائقة التي تهز كيانه هزا عنيفا مزلزلا، وبعد ذلك الضرب المبرح والكي بالنيران والتجويع والعطش الشديد". (2) هكذا تكون عملية التحقيق عبارة عن معركة من الجدل والمساومات، يستخدم فيها المحقق ما هو مباح في المعارك من شراسة ومراوغة، وأساليب خداع، واستعمال لفنون الحرب النفسية، ويقوم بالضغط على المعتقل بكل الوسائل، بالترغيب تارة وبالترهيب والتعذيب مرات، إلى أن ينهار المعتقل ويبوح بما لديه من معلومات. (3)

 

أساليب التحقيق

"قال لي أحد الضابط مرة وهو يحقق معي، وكان قد كف عن ضربي لمدة ساعة من الزمن:

-ها أنت ترى أن التحقيق أميركاني، بينما كل المكاتب تعمل بالطريقة الروسية!

كانوا يدعون أن التحقيق أميركاني عندما يكفون عن ضربنا فترة يسيرة من الزمن وقد وصفوا طريقتهم بأنها روسية، والحقيقة أن طريقتهم فريدة في نوعها وتعتبر لا شرقية ولا غربية في فظاعتها وعنفها وقسوتها". (4) هكذا يقول أحمد رائف واصفا طريقة التحقيق في السجن، وطريقة التحقيق هي "الكيفية الثابتة المدروسة التي يستخدمها المحقق للوصول إلى غايته، وتتراوح بين الضغط النفسي والعقلي والجسدي المتواصل لتدمير أسس المقاومة الداخلية للمعتقل حتى يصل إلى مرحلة الانهيار والإدلاء بالمعلومات التي يريدها المحقق". (5)

 

أما أسلوب التحقيق فهو الكيفية المتغيرة للوصول إلى غاية التحقيق، "والمحقق قد يستخدم أسلوبا واحدا أثناء التحقيق وقد يلجأ إلى استعمال عدة أساليب متداخلة، حسب فهمه لنفسية المعتقل الجالس أمامه، ويحاول المحقق اكتشاف نقاط ضعف المعتقل قبل بدء التحقيق ثم من خلال عملية التحقيق ليستعمل ضده الأسلوب الملائم، فإذا نجح يكون قد حقق هدفه، وإذا لم ينجح يجرب أسلوبا آخر حتى يصل إلى هدفه" (5)، فما تلك الأساليب؟

  

أولا.. أسلوب التحقيق الافتراضي

يستخدم المحقق ذلك الأسلوب في حالة أنه لا يملك معلومات أكيدة حول موضوع معين أو تهمة يريد إلصاقها بالسجين، لكنه يشك فقط في السجين بسبب توقعات غير مؤكدة، حينها، يقوم بجمع أكبر قدر من المعلومات حتى لو كانت ذات طبيعة عامة، عن طريق المرشدين والمخبرين، أو عن طريق حالات سابقة شبيهة بحالة السجين المعرض للتحقيق، ثم يعمد المحقق إلى تركيب صورة معينة، صورة افتراضية يرسمها المحقق بمخيلته عن طريق أجزاء متناثرة من المعلومات الافتراضية التي يسعى إلى تجميعها وتوثيقها عن طريق الأسئلة المباشرة وغير المباشرة التي يوجهها للمعتقل.

 

   

هكذا، ينتقل المحقق من سؤال إلى سؤال، ومن إجابة إلى أخرى لتوضيح الصورة أكثر، فالأسلوب الافتراضي في التحقيق "يقوم على إتقان لعبة ماكرة من الخداع والمراوغة والإيهام بمعرفة كل شيء، وهنا، تبرز قدرة المعتقل وذكاؤه في فهم تلك اللعبة وتجنب منزلقاتها، أما إذا اقتنع أن المحقق يعرف كل شيء، فهو يقوم بالاعتراف بكل شيء وإثبات التهم على نفسه وتعريض نفسه لمزيد من التعذيب والسجن والانزلاق في مزيد من الاعترافات" (6)، وأهم عنصر في أسلوب التحقيق الافتراضي هو "زرع الشك في نفس الأسير والعمل على إفقاده الثقة بزملائه، عن طريق توظيف هذه المعلومات ليظن أن زملاءه قد باعوه لجهاز الأمن". (6)

  

يعمد المحقق إلى إغراق المعتقل بسيل من المعلومات والأسئلة التفصيلية عنها، والطلب منه إعادتها عدة مرات كي يفقد المعتقل تركيزه ويفلت لسانه. أما إذا تجنب المعتقل التعرض للاهتزاز والتوتر والحفاظ على رباطة جأشه وعفويته، سيخيب ظن المحقق وتطيش سهامه، ليظن أنه يحقق مع الشخص الخطأ، وقد يُنهي التحقيق معه بسؤاله حول قضايا عامة، أو يقرر الانتقال إلى أسلوب آخر.

 

 

ثانيا.. أسلوب الغماية

يقوم هذا الأسلوب على تغمية السجين بكيس قماشي أسود لا يسمح للضوء بالدخول من خلاله، ومع مرور الوقت يفقد المعتقل إحساسه بالوقت، ويحيا في زمنه الداخلي الذي تمر الدقائق خلاله كأنها ساعات، وتتوقف حينها كل الحواس عن العمل، وتنشط حاسة السمع، فيسمع المعتقل أصوات الصراخ والتعذيب وأصوات الأبواب الحديدية، وأصوات الضرب والتهديدات والتنهيدات، وآهات المعذبين وأنين المنهكين، ويشعر المسجون بعزلة وانفصال رهيب عن العالم، ثم يتلقى الركلات والصفعات كل فترة، فيظل يفكر متى ستأتيني الركلة والصفعة القادمة، فيزيد توتره، ومع الوقت يشعر المسجون بالاختناق وصعوبة في التنفس وضيق في الصدر، وقد يستمر وضع الغماية على الرأس والوجه لأيام وأسابيع. (7) 

 

بعد مدة، إن لم يحرك المسجون الغماية ليستطيع أن يرى أو يتنفس، سينهار، وحينها سيتقبل أي شيء يقوله المحقق كي يتخلص من هذا العذاب، لكن الصبر والاحتمال ومقاومة الغماية بمحاولة تحريكها، قد يساعد السجين في التحمل.

 

 

ثالثا.. التشكيك

أثناء ذلك الأسلوب يستخدم المحقق حيلة نفسية تعتمد على معلومات موجهة أغلبها يبدو صحيحا ومنطقيا لكنها تشكل مقدمات خاطئة لنتائج خاطئة يقصد بها المحقق تشكيك المعتقل في نفسه وفي منطقه وفي زملائه وفي قضيته وأحيانا في عقيدته، ثم يقوم المحقق بتعظيم قدراته وقدرات جهاز الأمن، وأنهم هم الذين على حق لذلك ينتصرون دائما، أما المعتقلون "فلو كانوا على حق لانتصروا! لكنهم يظنون أنهم يستطيعون تغيير العالم، وهم في الحقيقة لا يلحقون الأذى إلا بأنفسهم وأهليهم وذويهم ويضيعون مستقبلهم، ولا مبرر لهذه التضحيات التي لا تقدم ولا تؤخر". (8)

  

ثم يقوم الضابط المحقق بإقناع السجين أن جهاز الأمن ذراعه طويلة تصل إلى كل مكان، ويعرف كل شيء، "والتقارير تصلهم باستمرار عن كل شيء، وهذه فرصة للاعتراف والتراجع، ولا فائدة من الإنكار، وأن كل زملائه قد اعترفوا، وانتهى التحقيق معهم، واعترافاته لا تفيد، لأن الأمن يعلم كل شيء لكنه قد يقلل من العقاب، ثم يذكر له المحقق قصة حدثت معه ليثبت له أنه يعرف كل شيء عنه، ثم يخدعه بمسرحية يتم اصطناعها من مجموعة معتقلين في وضع مريح، وهكذا ينخدع المعتقل وينهار ويعترف بكل شيء". (8)

 

أسلوب التشكيك هو نوع من لعب الخداع "التي يمارسها حاو ماهر يحاول من خلالها تجميع جزيئات صغيرة صحيحة ليقدم حقيقة كاذبة، ليخدع عقل السجين وتهتز شخصيته"، وكلما وجد المحقق استجابة شعورية ونفسية من السجين، يزيد من خداعه وألاعيبه اللفظية وأكاذيبه وحكاياته ليأخذ من السجين ما يريده.

 

رابعا.. إحضار الأهل

من الوسائل التي يستخدمها الضابط إن فشل في إخضاع المعتقل أو دفعه إلى الاعتراف والانهيار، هي مسألة تهديده بإحضار أهله إلى السجن (زوجته، ابنته، أخته، أمه، خطيبته)، وهي مسألة تمثل نقطة ضعف لأي إنسان، فالضابط يستغل حساسية هذا الأمر، ويهدد السجين بشرفه وعرضه وسمعته (9)، وأمام هذا التهديد يقف السجين عاجزا، ما بين إرادته وثباته ورفضه لما يمليه عليه المحقق، وبين الخوف من تعرض أهله للأذى، وكم تعرضت نساء في السجون العربية للاغتصاب والأذى والتعذيب منذ الحاجة زينب الغزالي وحميدة قطب وحتى الآن.

  

 

خامسا: الإيهام بالقتل

يعتمد هذا الأسلوب على التعذيب بالصعق الكهربائي بشكل أساسي، وإن صحبته وسائل أخرى بشعة مثل إطفاء السجائر في جسد السجين، ووضع أصابعه عند مفصل الباب الحديدي، ووضع رأسه في كيس ووضع قطة أو فأر داخله ثم بدأ الضرب فتنهش القطة في جسد السجين. أما عند صعق المعتقل بما يسمى "المنفلة"، وهي عبارة عن مولد كهربائي يخرج منه طرفان، فيقوم الضابط بوضع طرف في العضو الذكري للسجين والطرف الآخر في أحد أصابع قدمه، "والمعتقل نائم على ظهره على الأرض عاريا موثق اليدين من الخلف وموثق القدمين، ثم يقوم الضابط بإدارة ذراع في المولد فتتولد منه الكهرباء، وعلى قدر سرعة إدارة الذراع على قدر قوة الكهرباء المنبعثة منه، ثم يستريح ويطلب منه عدم الإنكار كي ينقذ حياته، فإذا أصر السجين على الإنكار، يزيد الضابط لهجة التهديد بأنه سيقتله، ويتخلص منه". (10)

 

ويصرخ المحقق في وجه السجين كما يحكي المعتقل خالد حربي: "سأقتلك يا كلب، ستموت الآن"، ويبدأ الضابط بزيادة فولت الكهرباء ويهتز السجين اهتزازا شديدا ويشعر بضيق في التنفس وتصل الروح الحلقوم فينتفض جسده، ويستمر الضابط صارخا: "ستموت الآن، ستموت الآن، اعترف.. اعترف.. وارحم أولادك". فإذا استمر السجين في إنكاره، يتوقف الضابط كي يلتقط أنفاسه ويبدأ الجولة الثانية قائلا: "كنا نريد أن نقتلك، لقد شاهدت الموت.. لن يمنعنا أحد من قتلك، بإمكاننا أن نقتلك الآن.. ستفقد حياتك.. وتخسر أولادك.. الآن تعترف أو تموت"، وتبدأ جولة الصعق الكهربائي مرة أخرى.

 

يحكي خالد حربي قائلا: "تم اقتيادي إلى فرع أمن الدولة ومارسوا معي طوال 40 يوما تحقيقا قذرا، وطلبوا مني أن أدلي لهم بمعلومات وأن أعمل معهم فرفضت.. وتبادلوا على تعذيبي أربعا وعشرين ساعة، هددوني بالموت، أنهم سيقتلونني، ووضعوا سلكا في عضوي الذكري وآخر في دبري وقيدوني بإحكام وألقوا بثقلهم فوق جسمي، وسألني الضابط: ما اسم أبنائك؟ تذكر آخر مرة رأيتهم فيها؟ ويبدأ الصعق ويقول: سأقتلك يا كلب، ستموت يا مجرم، حتى إذا كان بيني وبين الموت لحظة أوقفوا الكهرباء". (10)

 

سادسا.. التضخيم

undefined

 

يعتمد أسلوب التضخيم على استفزاز الجانب الشعوري للمعتقل لتحريك الآليات الدفاعية اللاشعورية داخله، وجعله يعيش حالة من الفزع والتوتر، فهو أسلوب يعتمد على حيلة وضع السجين في حالة قلق نفسي وتوتر عصبي وعدم توازن في التفكير، من خلال تضخيم الأمر وتضخيم الاتهامات وتضخيم القضية، ليصبح أي اعتراف يُدلي به المعتقل شيئا صغيرا في نظره مقابل ما يتهمه به المحقق. (11)

 

عندما يُعتقل شخص ما، يدخل إلى أقبية التحقيق خلال مسرحية مفبركة لغرس حالة الهلع في نفسه، فيستقبله المحقق قائلا: "أنت تنظيم كذا، أهلا وسهلا.. ثم يقول له المحقق: أنتم متطرفون ومجرمون، أنتم أخطر البشر على الوطن، أنتم إرهابيون.. سنحرقكم جميعا كما فعل هتلر باليهود.. سنذبحكم.. أنتم مراقبون من فترة وقد وقعتم.. وأنت أخطر واحد، أنت أصل البلوى.. أنت أنشط عضو.. انظر لهذا الملف الضخم.. هذا ملفك.. وجرائمك" (11)، وبذلك يعترف الشخص بكل شيء معتقدا أنه يدفع التهم عن نفسه ويخرج من الأزمة، لكن المحقق حينها سيواصل الابتزاز وسيحاول تهميش ذلك الاعتراف ويكذبه ليواصل السجين اعترافاته.

  

سابعا.. العدو والصديق

في السجن يشعر الإنسان أنه محاصر، وقد أغلقت في وجهه كل نوافذ الخلاص، ولا سبيل لنجاته ولا يوجد أحد لمساعدته، هنا يستغل المحقق تلك الحالة ليخدع السجين، حيث يفتح له منفذا صغيرا للأمل، لكنه يكون مجرد مصيدة، ليدفعه إلى الانهيار ويُملي عليه ما يريد، "فتوزع الأدوار في هذا الأسلوب على اثنين من رجال التحقيق، يمثل الأول دور السفاح القاسي الذي يتلذذ بضرب المعتقل وتعذيبه، ويمثل الثاني دور الشخص الطيب الرقيق الذي فيه نزعة إنسانية بالغة، وتبدأ المسرحية بعد جولة من الإقناع والإغراء والتهديد، يمارسها رجال التحقيق مع المعتقل، فإذا فشل التحقيق في انتزاع أي معلومات.

  undefined

 

يدخل المحقق الشرير فجأة متظاهرا أنه دخل إلى غرفة التحقيق خصيصا من أجل انتزاع اعتراف بأي شكل، ويسأل أحد المحققين الذي يمثل دور الطيب: هل اعترف؟ وهنا يجيب المحقق متظاهرا بالخوف والضعف أمام المحقق الشرير بلا، فيرد الشرير بغضب: هذا بسببكم، أنتم تشفقون عليهم، أنتم تضيعون وقتنا، اخرج من هنا، وأمام صراخ الشرير يخرج المحقق الطيب متظاهرا بالانكسار والضعف، وهنا يخلو الجو للشرير وتُغلق أمام المعتقل أبواب النجاة من التعذيب، فينهال عليه الشرير ضربا وحشيا متعمدا ويصرخ المعتقل من شدة الألم، وفي هذه اللحظة يدخل المحقق الطيب متظاهرا بالانفعال ومحاولا تهدئة الشرير وتخليص المعتقل من بين يديه، فيخرج الشرير ويبقى الطيب الذي يقدم المساعدة، فيجلسه على الكرسي، ويقدم له كأس ماء، ويحضر منشفة ويعرض عليه فنجان قهوة.

  

في تمثيل مسرحي بارع يلعب المحقق الجولة الأخيرة فيقول للمعتقل: "ارحم نفسك، يكفيك هذا العذاب، لو لم أخلصك من يدي هذا الضابط لقتلك، الأفضل لك أن تعترف"، فإذا أنكر السجين حاول المحقق استثارة شعور رد الجميل والعرفان فيقول له: "هل هذا جزاء المعروف؟ أنت تعرضني لموقف محرج أمام ذلك الوحش وأنا أنقذك"، ويستمر في هذه اللعبة، مستخدما الضغط النفسي والتخويف من عودة الشرير، وأمام إصرار المعتقل على الإنكار ينفتح الباب بعنف، ويطل الشرير برأسه صارخا: "ألم يعترف بعد؟"، هنا يقول المحقق الطيب: "إنه يعترف، إنه يعترف، أعطنا مهلة خمس دقائق"، وتبدأ جولة جديدة من الضغوط، فإذا اعترف المعتقل، خلع المحقق الطيب قناعه وأظهر وحشيته العادية" (12)، فجميعهم متشابهون.

 

ثامنا.. الإيهام بالإفراج

إذا طال صمود السجين وفشلت جميع الأساليب السابقة يلجأ الضابط إلى خديعة جديدة، وهي أن يجلس مع المعتقل ويقول له: "نريد أن نتحدث بصراحة، أنا معجب بصمودك، ورجولتك.. وأتمنى أن يكون الشباب كلهم مثلك، وأن يقتدوا بك، ولكن صلابتك وعدم اعترافك لن يخرجاك من السجن لعشرات السنين، حتى لو لم تعترف.. نستطيع أن نلفق لك التهم وتحاكم عليها مدى الحياة، ولكنني عندي رأي سأقدمه لك، وأنت حر ولست مجبرا، لكن فكر فيه جيدا، إننا على استعداد أن نطلق سراحك غدا مقابل موقف منك، أن تتعامل معنا، نحن نضحي معك بكل شيء وعليك أن تضحي معنا بشيء صغير، إذا شاهدت أحد المتطرفين أو رأيت شيئا مريبا أبلغنا فقط، فكر في هذا الموضوع". (13)

  undefined

 

يبدأ المعتقل حينها في التفكير بالحرية والخروج من السجن، "وتتزاحم الأفكار في رأسه، فإذا أبلغ الضابط بموافقته، يقول له الضابط إنه أحسن الاختيار وأنقذ نفسه، لكنه لا يملك القرار وأنه سوف يعرض الأمر على لجنة مختصة، وسيبلغه بعد يومين، ويترك المعتقل يومين بين الحلم والخيبة والقلق، وبعد يومين يقول له المحقق: مبارك لقد وافقوا، لكن كي تبدي حسن النية عليك أن تعترف بشيء صغير، شيء تافه لن يضرك في شيء، وستبدأ إجراءات الإفراج من الغد، وغدا الساعة الحادية عشرة صباحا، ستشاهد الشمس، وتستنشق نسيم الحرية.. ثم يأخذ ما يريد ويتركه". (13)

 

أو يستخدم الضابط المحقق الفكرة نفسها لكن بأسلوب آخر، حيث يوهم المعتقل أنه سيطلق سراحه مقابل أن يغير كل قناعاته، ولا يعارض الدولة ولا يشارك في أي نشاط آخر مدى الحياة، فيشعر المعتقل بالسعادة والراحة ويشتاق للدنيا ولأهله وذويه، وهنا يخبره المحقق أن ضابطا آخر سيتولى قضيته وعليه أن يكون صادقا معه، "وبعد دقائق معدودة يدخل محقق جديد ويبدأ بسؤال السجين عن صحته، وحياته الشخصية، وعن أبنائه، ووظيفته ودخله المادي، وبعد ذلك يقول الضابط: لقد قررنا إطلاق سراحك. ثم ينظر في الساعة ويقول: اليوم لا يوجد وقت لإطلاق سراحك، ولكن غدا صباحا سيفرجون عنك، ثم يخرج تاركا السجين لأفكاره وأحلامه، ثم يدخل مرة أخرى ليلا، ويقول له: هناك بعض المسائل أنت أخفيتها عنا، وهي الآن لا تضرك بشيء لأن قرار الإفراج عنك جاهز، وأرسلنا إلى إدارة السجن حتى يفرجوا عنك صباحا. ويظل المحقق هكذا يراوغ المعتقل المسكين حتى يخرج منه بشيء، فيسجله عليه تهمة أخرى ويستمر الاعتقال". (14)

 

تاسعا.. التحقير والتجويع والإذلال

 

يلجأ المحقق كثيرا إلى ذلك الأسلوب حتى يكسر إرادة المعتقل، ودفعه إلى الانهيار وإقناعه أن الاعتراف حتمي، فيحرم المحقق المعتقل من الطعام والشراب، فيشعر بجفاف في الحلق، وتنبعث رائحة كريهة في الفم، ويصاب بالدوار والدوخة بعد اليوم الثاني، ولا يستطيع النوم، ولا يقدر أن يقف على قدميه، وينتابه شعور بثقل الرأس، وهبوط في قواه، واصفرار في وجهه، وضمور في بطنه وارتخاء في عضلاته، وشعور بالإرهاق العصبي، "ويستغل المحقق أسلوب التجويع كأسلوب غير مباشر، حيث يكلف الجندي الحارس عندما يوزع وجبات الأكل صباحا وظهرا ومساء حرم هذا السجين من تناول الطعام لعدة أيام متواصلة، وأحيانا يتم وضعه في زنزانة انفرادية كي يسرع في انهياره وإرهاقه العصبي، وشل تفكيره، ودفعه إلى الاعتراف كمخرج وحيد".

 

يحاول المحقق أن يحطم نفسية المعتقل وأن يغرس المذلة في قلبه وأن يهز قناعاته فيعمد إلى إهانته وتحقير أفكاره وإشعاره أنه شيء حقير لا قيمة له، "ويحاول المحقق أن يهين المعتقل بالبصق عليه أو حلق شعر رأسه أو وجهه، أو حلق جزء وترك جزء، وقد يطلب منه أن يمشي مقلدا الكلب أو أن يمشي على أربع". حين يتجاوب المعتقل مع تلك الأمور الصغيرة ويخضع لها، سيتجاوب مع ولخدع الأكبر، فعملية التحقيق "عبارة عن جملة من التأثيرات والإيحاءات النفسية وليست عملية تعذيب مادي لمجرد الأذى الجسدي، بل تهدف للإيلام النفسي وغسل العقل وتغيير القناعات وكسر الإرادة وتدمير روح الإنسان.