شعار قسم ميدان

أجساد العبيد.. هل يبرر الأطباء استخدام الإنسان كفأر تجارب؟

midan - رئيسية تجارب

كانت أسماء النساء اللواتي تم إجراء التجارب عليهن: لوسي وأناركا وبيتسي. كانت هناك نساء أخريات، لكن بتن في طيّ النسيان. كان الجرّاح الذي أجرى تجاربه عليهن شخصية يظهر اسمها في الكتب المدرسية الطبية، والذي تم نحت تماثيل عديدة تجسده، وهو: جيمس ماريون سيمز الذي لُقِّب بـِ "أبو طب أمراض النساء والولادة". وقد مارس التقنيات الجراحية التي جعلت منه مشهوراً على النساء المستعبدات: لوسي، أناركا، بيتسي، وغيرهن من النساء غير المعروفات. قام بإجراء 30 عملية جراحية على أناركا وحدها، وكل ذلك دون تخدير مذ أنه لم يكن واسع الانتشار بعد. اخترع أيضاً المنظار المهبلي الحديث، إضافة إلى "وضعية سيمز" للفحوصات المهبلية، وكلاهما استخدم لأول مرة على هؤلاء النساء.

     

الطبيب جيمس ماريون سيمز (مواقع التواصل الاجتماعي)
الطبيب جيمس ماريون سيمز (مواقع التواصل الاجتماعي)

   

ولطالما كان تحقيق سيمز لكل هذا قد أكسبه الإشادة بعمله واستحسان الجميع؛ لكن مؤخراً فقط بدأ تضمين وصوله لذلك من خلال تجاربه على النساء المستعبدات في قصته. وفي مواجهة الجدل المتزايد، نقلت مدينة نيويورك تمثالاً يكرّمه خارج سنترال بارك.

 

وجاءت هذه الخطوة بعد عقود من الجهود المتضافرة من قبل المؤرخين والعلماء والنشطاء لإعادة النظر في ميراث سيمز. لم يكن العاملون في القطاع الطبي -وخاصة أخصائيو الأمراض النسائية- يتحلوا دائماً بتقبّل الانتقادات من الخارج؛ وكان سيمز واحداً منهم. إن إدانته -كما يدعي محاموه- هو إدانة للطب في أمريكا في منتصف القرن التاسع عشر.

 

أول تحدٍ جدي للاحتفاء بسيمز جاء في كتاب صدر عام 1976 من قبل المؤرخ ج. جيه. باركر-بينفيلد بعنوان "فظائع نصف المعرفة" The Horrors of the Half-Known. وضع باركر-بينفيلد "سياسة سيمز المغامرة للتدخل الجراحي في الأعضاء التناسلية للمرأة" بموازاة طموحه الكبير ومصلحته الذاتية. كتب باركر-بينفيلد إن الرجل الذي اعترف ذات مرة: "إذا كان هناك أي شيء أكرهه، فهو التحديق في أعضاء الحوض الأنثوي"، كان الرجل الذي استغرق في تخصصه في الأمراض النسائية ينغمس في هوس أحادي (تميز الهوس الأحادي الفكري للمريض بهاجس واحد أو أكثر من الأوهام) بمجرد أن أدرك أنه تذكرته إلى الشهرة والثروة.

 

رداً على ذلك، وخلال الاجتماع السنوي لجمعية الأمراض النسائية في الولايات المتحدة عام 1978، أخذ الأطباء يدافعون بقوة عن كتاب سيمز ضد كتاب باركر-بينفيلد. وكان أكثرهم حماسا هو لورانس هيستر جونيور الذي صرّح: " لا أقف لإعادة تقييم جيمس ماريون سيمز، ولكن لأثني عليه". ثم أعلن أن مؤسسته -الجامعة الطبية في كارولينا الجنوبية- والتي التحق بها سيمز أيضاً، وكان يجمع 750 ألف دولار لمنصب هيئة تدريس موهوب سمي تيمناً بجيمس ماريون سيمز (كنوع من التكريم).

   

undefined

   

في دفاعٍ أكثر هدوءاً، طلب الطبيب إروين كايزر من الجمهور أن ينظر في كيفية مساعدة سيمز في النهاية للنساء المستعبدات اللواتي أجرى تجاربه عليهن. كانت الجراحة التي أجراها على لوسي وأناركا وبيتسي وغيرهن من النساء المستعبدات لإصلاح الناسور المثاني المهبلي (وهو قناة ناسورية غير طبيعية تمتد بين المثانة والمهبل تسمح بتسريب لا إرادي مستمر للبول في قبو المهبل) وهو أحد المضاعفات للمخاض الطويل. عندما يستمر ضغط رأس الطفل لفترة طويلة جداً في قناة الولادة، يمكن أن تموت الأنسجة بسبب نقص الدم، وتشكّل ثقبًا بين المهبل والمثانة. قد تكون الحالة محرجة، لأن النساء اللواتي يعانين من ذلك غير قادرات على التحكم في التبول. وقال كايزر: "أصبحت النساء المصابات بالنواسير منبوذات اجتماعياً. على المدى الطويل، كان لديهن أسباب تجعلهن ممتنات لأن سيمز عالجهن من تسرب البول". وخلص كايزر إلى أن سيمز كان: "نتاج عصره".

 

بالطبع، لم يهدِّئ هذا الانتقادات. على مدى العقود القليلة التالية لذلك، واصل العلماء انتقاد ممارسة سيمز تجاربه على النساء المستعبدات. أصبحت القصة معروفة بشكل كافٍ ليتم ضمّها إلى قائمة من الأمثلة التي ذُكرت بشكل شائع -بما في ذلك تجارب تجربة توسكيجي للزهري* وهنريتا لاكس**- حول كيفية استغلال النظام الطبي الأمريكي للأميركيين الأفارقة.

 

غير أن الكتب المدرسية الطبية كانت بطيئة في ذكر الجدل حول ميراث سيمز. توصلت دراسة أجريت في عام 2011 إلى أنهم استمروا في الاحتفال بإنجاز سيمز دون انتقاد في كثير من الأحيان. كتب المؤلفون: "على النقيض من الجدال القوي لميراث سيمز في النصوص التاريخية وحتى في الصحافة الشعبية، ظلت الكتب الطبية والمجلات ثابتة إلى حد كبير في تصويرها لسيمز كمبتكر جراحي".

 

في السنوات الأخيرة، كان أحد أبرز المدافعين عن ميراث سيمز هو لويس وول، وهو جراح وعالم أنثروبولوجيا (علم الإنسان) في جامعة واشنطن في سانت لويس. سافر وول إلى إفريقيا لأداء جراحة الناسور المهبلية التي ابتدعها سيمز، وشاهد بشكل مباشر الفرق الذي أحدثته في حياة النساء. وكتب في ورقة بحثية عام 2006: "لقد انتقص نقاد سيمز المعاصرون من المعاناة الهائلة التي تلم بضحايا الناسور". أردف موضحاً: "تشير الأدلة إلى أن مرضى سيمز الأساسيات كنّ مشاركات مستعدات للمشاركة في تجاربه الجراحية لعلاج مأساتهن، وهي حالة لم يكن يوجد أي علاج قابل للتطبيق في ذلك الوقت". كما دافع وول عن سيمز بتهمة رفضه إعطاء التخدير فقط إلى المرضى ذوي البشرة السوداء بقوله أنه لم يكن التخدير منتشراً على نطاق واسع بعد في عام 1845، وكان الأطباء الذين تلقوا تدريباً دون تخدير يفضلون أحياناً أن يكون مرضاهم مستيقظين.

   

undefined

  

هناك جدل حول ما إذا كانت ممارسات سيمز الجراحية شنيعة على نحو غير معتاد بالنسبة لزمنه. لكن ممارسته في إجراء جراحات على النساء المستعبدات بالتأكيد لم تكن أمراً غير اعتيادي. لقد كتب عنها علانية، وهو ما يجدر ملاحظته حيث تم اعتباره أمراً عادياً.

 

أوضحت ديردري كوبر أوينز -وهي مؤرخة في كلية كوينز، جامعة مدينة نيويورك- في كتابها "العبودية الطبية" Medical Bondage، أن سيمز تمكّن من التقدم بسرعة كبيرة، لأنه كان لديه إمكانية الوصول إلى الأجساد: أولاً، كانت النساء المستعبدات في الجنوب، وفي وقت لاحق كانت النساء الايرلنديات الفقيرات عندما انتقل إلى نيويورك. أشارت أوينز: "كانت هذه المؤسسات موجودة في هذا البلد، وهي التي سمحت بالوصول السهل إلى أجساد النساء المستعبدات [و] أجساد النساء الفقيرات، حيث سمحت لبعض فروع الطب المتخصص بالتقدم والنمو وأعطت الشرعية لهذه الفروع". وكثيراً ما كتب تاريخ الطب كتاريخ الرجال العظماء، تريد أوينز أن تحول التركيز المسلط على الأطباء الذين تم وصفهم كأبطال ليتم تسليط الأضواء بدلا من ذلك على المرضى المنسيين.

 

لقد بدأ جزء من ذلك بالحدوث فعلاً، فالأضواء التي تم تسليطها على سيمز بدأت بالخفوت: في عام 2006، أزالت جامعة ألاباما في برمنغهام لوحة رسمت سيمز كأحد "عمالقة الطب في ألاباما". في فبراير/شباط، أعادت الجامعة الطبية في كارولينا الجنوبية تسمية المقعد الذي تم تكريمه لِجيمس ماريون سيمز بهدوء، وهو المقعد الذي أعلنه الطبيب هيستر بعد أن تم نشر كتاب "فظائع نصف المعرفة". حتى أن محاضر اجتماع مجلس الأمناء حيث حدث إعلان إعادة التسمية، لم تذكر اسم سيمز، بل اكتفت بذكر الاسم الجديد للمقعد الموهوب. أكد متحدث باسم الجامعة الطبية في كارولينا الجنوبية في رسالة إلكترونية إلى مجلة ذا أتلانتك The Atlantic: "تم اتخاذ القرار اعترافاً بالطبيعة المثيرة للجدل والاستقطاب لهذه الشخصية التاريخية على الرغم من مساهماته في المجال الطبي".

   

الجامعة الطبية في كارولينا الجنوبية تسمية (مواقع التواصل الاجتماعي)
الجامعة الطبية في كارولينا الجنوبية تسمية (مواقع التواصل الاجتماعي)

   

ويجري نقل تمثال جيمس ماريون سيمز الذي كان معروضاً في سنترال بارك في نيويورك إلى مقبرة غرين وود في بروكلين، حيث دفن سيمز. حسبما ذكرت صحيفة نيويورك تايمز، سيتم خفض قاعدة التمثال إلى قاعدة أدنى وعرض لافتة توضح تاريخ التمثال. قد تكون هناك فرصة الآن لاستخدام التمثال لإخبار القصة الكاملة: لإخبار قصص لوسي وأناركا وبيتسي وغيرهن من النساء المستعبدات ودورهن في تاريخ الطب.

  

——————————————————–

الهوامش

* تجربة توسكيجي للزهري هي تجربة سريرية شائنة السمعة أقيمت بين عامي 1932 و 1972 عبر خدمة الصحة العامة الأميركية لدراسة التطور الطبيعي لحالات الزُّهري غير المعالج في الرجال السود في ريف ولاية ألاباما. وقد أُخبروا أنهم كانوا يتلقون رعاية صحيّة مجانية من الحكومة الأميركية.

** هنريتا لاكس هي أمريكية من أصل أفريقي، تعتبر مصدراً غير متعمد للخلايا الخالدة (المستمدة من خلاياها السرطانية) التي تمت زراعتها بواسطة جورج أتو جاي مما أدى إلى إنشاء أول خط للخلايا الخالدة يعرف حالياً بخط خلايا هيلا (HeLa) والذي يعتمد عليه الكثير من البحوث الطبية.

——————————————————–

ترجمة: آلاء أبو رميلة

هذا التقرير مترجم عن: The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان