شعار قسم ميدان

"تمكين المرأة".. إشكاليّة مصطلح ووعورة تنفيذ

German Defense Minister Ursula von der Leyen (2-R) visits the Julius Leber military barracks in Berlin, Germany, 17 November 2016. The barracks is hosting a first aid training program for Syrian women.

المرأة؛ القضيّة التي لم يبقَ كيانٌ هنا وهناك إلَّا أعلنَ تصدّيه لنصرتها وانتزاع حقوقها من بين شدقِ الأفاعي الظالمة، كما يُدَّعى، وما أكثرَ الدَّعوى وأقلَّ الصّدق فيها، فكم زاودَ عليها المزاودونَ واتَّخذوا قضيّتها سُلّمًا لتلميعِ صورةٍ حضاريّة تسعى لأن تكون نموذجًا عالميًّا، وكم تحذلقَ كثيرونَ في ميادين القولِ ومنابر الاستعراض الرسميّة وغير الرّسميّة صارخينَ بالمطالبة بإنصافها؛ مغرقينها بشعاراتٍ لا تراعي خصوصيتها .
 

وما بينَ تغييبٍ عن المشهدِ كلّيَّةً وحضورِ صوريٍّ لدفعِ التهمة  تتشابكُ الرؤى ويكملُ الآخرونَ دورهم في التّشويش مما يجعلنا أمام حاجة ماسة إلى تحرير ما اشتبه من المصطلحات ووضع الأمور في نصابها، ولعلّ من أكثر القضايا والمصطلحات تردادًا فيما يتعلق بانتزاع المرأة حقَّها الطبيعي في غابةِ التهميش المريرِ هو مصطلح" تمكين المرأة" الذي أخذناه عن غيرنا باليمين.
 

"التمكين".. نشأةً ومعنى
دراسة  جذور المصطلحات وتحديد مفاهيمها  ليس ترفًا ثقافيًّا إنما تترتب فائدة عملية وعلمية  على معرفته ليس أقلها إزالة اللبس الحاصل من تبني مصطلحات وأفكار لا تشبهنا؛ ونحن إذ نكرر مصطلحات الآخر ونرددها داعين إلى تطبيق مفاهيمها من دون تمحيص أو معرفة بالجذور الثقافية والاجتماعية والبيئة السياسية التي أنشأت مصطلحًا ما[1]،[2]، وحددت مفاهيمه، وتكونُ وظيفتنا استخدامه وفق المعنى المتبادر لنا بناء على العرف في استعماله فإننا نوقع أنفسنا بمأزق من حدين:

الأول: أننا ننتزع شتلة الآخر من تربتها لنزرعها في غير بيئتها متوهمين أنها ستؤتي أكلها.

والثاني: أننا بالشعارات والمصطلحات الفاقعة نلزم أنفسنا أمام الرأي العام بما لا ندركُ معناه عندهم ولا نستطيعه كما يريدونه.
 

undefined

 

خرج مصطلح "تمكين المرأة" من عباءة هيئة الأمم المتحدة ومن بيئة تتناسب بالضرورة مع معاني هذا المصطلح والصيحات المنادية لتطبيقه وإذا ما رجعنا إلى مصطلح "التمكين" المُترجم عن وثيقة الأمم المتحدة بالإنجليزية وجدناه  (Women Empowerment)، و (Empowerment) تعني استقواء. في حين أن المرادف لكلمة تمكين في اللغة الإنجليزية هو كلمة (Enabling).
 

واستقواء المرأة (Women Empowerment)، يعني تقوية المرأة لتتغلب على الرجل في الصراع الذي يحكم العلاقة بينهما، وفقا لطبيعة العلاقة بين الجنسين في الثقافة الغربية التي أفرزت ذلك المصطلح،
 

ويتماشى ذلك التفسير مع الحركة النسوية الراديكالية التي تبنت مبدأ الصراع بين الجنسين -الإناث والذكور- انطلاقًا من دعوى أن العداء والصراع هما أصل العلاقة بينهما، ودعت إلى ثورة على الدين، وعلى اللغة، والثقافة، والتاريخ، والعادات والتقاليد والأعراف، بتعميمٍ وإطلاقٍ، وسعت إلى عالمٍ تتمحور فيه الأُنثى حول ذاتها، مستقلة استقلالاً كاملاً عن عالم الرجال[3]

ترجع جذور مفهوم "التمكين" إلى  الستينات من القرن الماضي؛ إذ ارتبط بالحركات الاجتماعية المطالبة بالحقوق المدنية والاجتماعية للمواطنين، وبعدها استُخدم بمعاني عدة ومجالات مختلفة، كالاقتصاد، والعمل الاجتماعي والسياسي.
 

وقد تشعّب المفهوم ليطال التعبير عن عملية فردية يكون المرء فيها مسؤولًا عن نفسه ومسيطرًا على حياته ووضعه، ويعد التمكين عملية سياسية لمنح المجموعات المهشمة حقوقهم وتوفير العدالة الاجتماعية لهم.
 

 ثم عاد مصطلح التمكين للظهور بقوة في التسعينات عقب إعلان مؤتمر القاهرة للسكان والتنمية في 1994م[4]، ثم في المؤتمر العالمي الرابع للمرأة في بكين 1995م[5] حيث دعا المؤتمر إلى إزالة العقبات التي تعطل تمكين المرأة في الجانب الاقتصادي؛ وذلك لتتمكن من ممارسة دورها الاقتصادي وتتفاعل مع السياسات الاقتصادية، وبعدها طار المصطلح في الأُفق واستخدمته المؤسسات الدولية والبنك الدولي في لغتهم وخطاباتهم، وتعالت الأصوات مطالبةً بـ  "تمكين المرأة" في مناحي الحياة للنهوض بالمجتمع وتنميته.
 

مؤتمر بكين للمرأة 1995م (رويترز)
مؤتمر بكين للمرأة 1995م (رويترز)

وههنا قولٌ لا مناص منه فهو قطب الرَّحى الذي ندور حوله؛  إنَّ مصطلح "تمكين المرأة" مستمد من ثقافة (الجندر) الكلمة المستخدمة أكثر من مئتي مرة في وثيقة مؤتمر بكين للمرأة 1995م، وقد بدأ الجدل بشأن هذا المفهوم منذ أواخر السبعينات وهو مفهوم منبثق من عمق الحداثة الأوربية والأمريكية.
 

 و جندر (Gender) كلمة إنجليزية تعبر عن الاختلاف والتمييز الاجتماعي للجنس[6]، وهو الجنس المتعلق بمكونات الذكورة والأنوثـة بالدرجة الأولـى، وقد استعير من البيولوجيا كما أنه الوجه الاجتماعي الثقافـي للانتماء الجنسـي، ومن خلاله تأتي الدعوة إلى رفض التمييز والفروق البيولوجية والتاريخية والاجتماعية بين الذكر والأنثى  عند إناطة الأدوار بهما[7]، على مبدأ أنه "لا يولد الإنسان امرأة، إنما يُصبح كذلك"  كما تقول الفيلسوفة الوجودية (سيمون ديبو فواغ) في  كتابها "الجنس الثاني".
 

فهو دعوى حقيقية إلى التجريد الجنسي، واتباع الرغبات والميول والتحلل من الالتزام الفرداني وتحقيق الذات، وإن كانت النتيجة عائلة مكونة من جنسين متشابهين، أو كانت النتيجة التخلص من كل الروابط الأسرية فلا ضير أيضًا.
 

ومن فكر/ثقافة الجندر وُلِدَ مصطلح "تمكين المرأة" الذي بدأنا بالقول إن ترجمته الحرفية "استقواء"، فتمكين المرأة وفق الأجندة السابقة لا يكون من خلال السعي لتزويدها بالكفاءة اللازمة وتوفير الفرص الحقيقية لها لتحقق ما تصبو إليه من تقدم علمي ومهني يخدم دورها الأسري والاجتماعي والذاتي دون تعارض مع تشريعات دينها وثقافة مجتمعها وحضارتها، بل من خلال تطبيق التحاصص  النسبي الذي يجعلها مساوية للرجل بكل شيء بل يجردها من انتمائها الجنسي وميولها الفطرية لتكون أقوى وجوديًّا.
 

ولا بد من التعريج على المجالات التي دعي إلى "تمكين المرأة فيها":

1. التمكين الاقتصادي:

undefined

 

أنتجت الحركة النسوية في السبعينات مصطلحا جديدا صاغته ديانا بيرس وهو تأنيث الفقر (Feminization of Poverty)، ويقصد به ارتفاع معدلات الفقر عند النساء بسبب انشغالهن بأعمال لا أجرة عليها كالأمومة ورعاية الأسرة، في حين ينشغل الرجال بأعمال مأجورة مما أدى إلى تمركز المال في أيدي الرجال مقابل افتقار النساء، وهذه الظاهرة وليدة الأسرة التي يعمل ربها وتنصرف زوجته لأعمال البيت، فكان لا بد – والحال هذه- من الدعوة إلى التساوي المطلق وإلغاء القوامة سعيًا لتمكين المرأة اقتصاديًّا.

 

2. التمكين السياسي للمرأة:

undefined

التمكين السياسي داعم للتمكين الاقتصادي والاجتماعي، فهو يصب مباشرة في تغيير القوانين بدفع المرأة إلى المشاركة السياسية على نطاق واسع وتخليصها من فكرة دورها التقليدي (زوجة، أم) لكونه عائقًا أساسيًّا في ممارستها السياسية.
 

ومن هنا جاء نظام الكوتا لفرض نسبة للنساء في البرلمانات ضمانًا لإدماج منظور الجندر في القوانين والتشريعات وإلغاء كافة الفوارق بين الرجل والمرأة.
 

3. التمكين الاجتماعي:

undefined

الاستقواء السياسي والاقتصادي مساران لتحقيق الاستقواء الاجتماعي، وذلك انطلاقا من الفكر النسوي الراديكالي الذي يمثل الفلسفة الحاكمة للاتفاقيات الدولية الخاصة بالمرأة والطفل.
 

لقد تبنت النزعة الأنثوية (النسوية) مبدأ الصراع بين الجنسين -الإناث والذكور-؛ ويترجم د.عبد الوهاب المسيري النسوية (feminism) بـ «التمركز حول الأنثى»، وهو يذهب في كتابه «قضية المرأة بين التحرر والتمركز حول الأنثى» إلى أنه يجب التفريق بينهما؛ فبينما تحاول حركات تحرير المرأة، انطلاقًا من مفهوم الأسرة، أن تحسِّن وضع المرأة داخل المجتمع، تحاول حركات التمركز حول الأنثى -انطلاقًا من مفهوم الفرد المطلق- أن تفصلها عنه[8].
 

والسؤال المشروع الآن هل نستطيع السعي إلى تأهيل نسوي اجتماعي واقتصادي وسياسي بعيدًا عن جذور فكرة التمكين واعين بأصول المصطلح ومآلاته؟
 

التأهيل بديل التمكين عربيًّا (المغرب نموذجًا)
باتت مساحتنا العربية تنقسم إلى بلاد طالها مد ثوري فغير أولوياتها ونظم عملها، وبلاد على ما هي عليه تحاول أن تواكب وتجيب عن الأسئلة الكبرى التي ولَّدتها ثورات الربيع دون انخراط بلادها بتلك الثورات، ومن تلك البلاد البعيدة ظاهريًّا عن فعل ثوري يطالب بتغيير أصل الحكم الحالي كان الاختيار واقعا على المغرب وعلى تجربة نسوية عريقة فيها مع منظمة "تجديد الوعي النسوي" والتي تقوم على أمانتها العامة الأستاذة إيمان لعوينا عضو المرصد الوطني للعنف ضد النساء والباحثة في العلوم السياسية والمجتمع المدني، وقد تحدثت لميدان عن المنظمة التي أُعطيت هذا الاسم منذ نشأتها قبل 21 سنة ، حيث لم يكن مصطلح تمكين مطروحًا بشكل قوي في المنظومة الكونية، إذ كان حديث الظهور بعد مؤتمر بكين والمنظمة تأسست في هذه السنة 1995 م، وعارضت المصطلح وتبعياته على اعتبار أنه تنزيل عملي لفلسفة النوع الاجتماعي وهذه التسمية ضد منظومتنا القيمية والفكرية، ثم بدأنا نتوجه لمؤتمرات الأمم المتحدة خصوصا لجنة تتبع وضع المرأة وأصبحنا أعضاء في الايكسوك ، فاستوعبنا أكثر المصطلح وصار لنا فيه وجهة نظر كما تقول الأستاذة إيمان.

 
undefined         

وتضيف الأستاذة أن المصطلح متعلق أساسًا بالعمل على الرفع من قدرات المرأة علميًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا ودماجها في التنمية المستدامة وهنا يلتقي المصطلح مع اسم منظمتنا بحيث أن المنطلق هو تمكين المرأة علميًّا وفكريًّا وتعليميًّا، فإذا ما جددنا وعيها وبقي مرتبطًا بهويتها فإنها تصبحُ قادرة على طرق كل أبواب التمكين الأخرى سواء اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية بكل ثقة ومسؤولية.
                        

وبناء على هذا التكييف لمصطلح " التمكين " فإن "منظمة تجديد الوعي النسوي" ترى أن تأهيل المرأة جزء من التمكين، والتمكين أعمّ وأشمل؛ فهو متعلق أصلًا بتملّك الآليّات وهي التعليم والصحة والمشاركة السياسية والحق في الوصول إلى الثروة و و.. الخ          
            

أما التأهيل فهو متعلق بمجال محدد فقط، وعلى سبيل المثال لا الحصر تأهيل المرأة تعليميًّا يُقصد به إعداد برامج لمحاربة الأمية أو إعادة إدماجها في التَّعليم النِّظامي لتستكمل مسارها أو توفير بنية تعليمية مستقبلة موازية..    

لابد للقائمات على العمل النسائي المستقل في بلاد الثورات  السعي إلى الاستقلالية في العمل والابتعاد عن الأجسام المختلطة بحيث تتضح الرؤى وتكون أكثر نُضجًا
لابد للقائمات على العمل النسائي المستقل في بلاد الثورات  السعي إلى الاستقلالية في العمل والابتعاد عن الأجسام المختلطة بحيث تتضح الرؤى وتكون أكثر نُضجًا
              

ومن خلال مسيرة طويلة في العمل النسوي تطلعنا السيدة إيمان على حال المرأة في الوطن العربي التي تتجاذبها تيارات عدة إمَّا غلو وتشدد ورضوخ لمنظومة فكرية منغلقة، وإمَّا تيار علماني يتماهى مع المنظومة الكونية لحقوق الإنسان جملة وتفصيلا ، في حين تسعى  منظمة تجديد الوعي أن تلتزم  خطًّا فكريًّا بين البينين، وتدافع عن قضايا المرأة بحمولة قيمية وهوياتية منطلقها الأساس عالمية الإسلام و قيمه الحضارية، مع انفتاح على المنظومة الكونية وتقبل ما فيه خير للإنسانية وللأسرة والمرأة حسب لعوينا.       
                

كما تنشط المنظمة في الجانبين الحقوقي والفكري الثقافي  أمَّا عن مجالات عملها ففي الجانب الحقوقي /الفكري الثقافي تحديدا تقول الأستاذة إيمان:                      

"نساهم في صياغة القوانين عن طريق آلية الترافع وتقديم المذكرات القانونية للجهات المسؤولة في المغرب، كما أننا نشتغل على قضايا الثقافة وتجديد الفكر النسائي من خلال طروحاتنا المندمجة بين الأصالة والمعاصرة"
 

وفي نهاية حديثها لميدان وضحت لعوينا أنه لابد للقائمات على العمل النسائي المستقل في بلاد الثورات  السعي إلى الاستقلالية في العمل والابتعاد عن الأجسام المختلطة بحيث تتضح الرؤى وتكون أكثر نُضجًا، كما أن والأولويات يجب أن تكون بتحديد خط نضالي محدد للعمل به فلا يجب أن تستغرق النساء أنفسهن بتخصصات مختلفة بحيث نجدهن يعملن في المجال الإنساني الخيري والتربوي والاجتماعي وغيرها في آن، كذلك لا بد من الانفتاح على الآخر من خلال بناء الشراكات والتعاون والمشاريع المشتركة، كما يجب التركيز على توثيق الإنجاز وتخليد ذاكرة العمل وبناء الفريق المتكامل والمتعاون وتوزيع المهام بدقة.
 

التغيير المجتمعي وإشكالية المصطلح (سوريا نموذجًا)
الحركات الثورية التي داهمت المجتمعات العربية ولا سيما الحركات العنيفة، فككت بنى المجتمعات وخلقت حاجة إلى بنى جديدة تستوعب الحالة العامة وينبثق منها مؤسسات وأجسام مهمتها ترشيد الفوضى الاجتماعية والنهوض بالمجتمع المتشظّي والإجابة عن الأسئلة الجديدة المتوالدة إبان هذه الثورات، بعد حجرٍ على الفكرِ وبُعد للمرأة عن العمل الميداني الحقيقي وإرادة لها أن تبقى مكممة الفم مقيدة العقل.

 

في سوريا حيث الحركة الثورية أكثر فتكًا بنسيج المجتمع وتكويناته، وحيث الأسئلة كبرى والاحتياجات أكبر بدأت تنشأ مؤسسات نسائية متنوعة المشارب والاتجاهات مهمتها تأهيل المرأة السورية على أصعدة عدة.
 

وبعد هذه الثورة وبين " التمكين " و"التأهيل" و "تجديد الوعي"  وجدت المرأة السورية نفسها أمام تحديات كبيرة من جانبين كما أفادت الأستاذة رغداء زيدان لميدان:
 

1 ـ مع ظروف الحرب التي نشرت البطالة والفقر أضحت المرأة السورية بحاجة للعمل، ومن المعلوم أن هناك كثيرا من النساء السوريات لم يكن عندهن تجربة عمل سابقة ولا مهارة، ولا يحملن شهادة علمية، هؤلاء كنّ بحاجة لعمل وتدريب وتأهيل، وهناك قسم كن يعملن لكنهن اليوم وبسبب النزوح أو الهجرة بتن أمام تحدي البحث عن عمل يتقنه، أو الخضوع لتدريب جديد وممارسة عمل آخر لم يقمن به من قبل.
 undefined

هنا برزت الحاجة لمؤسسات وبرامج تدريبية تساعد المرأة السورية على الإنتاج والعمل وكفاية نفسها بعيداً عن الاستغلال وذل السؤال، وبالفعل ظهرت مؤسسات كثيرة قدمت مثل هذه التدريبات لكن بنطاق محدودة وطريقة بدائية بعيدا عن الاحترافية وجهل بقواعد المهنية المطلوبة في هكذا مشروعات، ولذا لم تكن قادرة على تقديم التدريب المطلوب لشريحة واسعة من النساء ذوات الاحتياج كون الكارثة السورية هائلة وواسعة من جهة، وكون مؤسسات الإغاثة اعتمدت على العمل الإغاثي لا التنموي من جهة ثانية، وخصوصاً في ظروف المخيمات وحركات النزوح التي تكررت في أكثر من منطقة بسورية.
 

2 – القضية السورية المتشابكة سياسيا وعسكريا وما فيها من تداخلات داخلية وإقليمية أفرزت تعقيدا اجتماعيا كانت المراة السورية إحدى أبرز ضحاياه ووضعتها أمام أسئلة سياسية واجتماعية بل ووجودية كبيرة، فرضت الحاجة الماسة لبرامج توعية سياسية وتنمية اجتماعية وأخلاقية وثقافية وفكرية لتوعية المرأة، وتأهيلها للمشاركة في أحداث الثورة وصنع مستقبل سورية.
 

كما عملت المنظمات الأممية والمنظمات الداعمة على فرض حالة "تمكين صوري" للمرأة السورية سياسياً واجتماعياً، عبر نظام الكوتا والمحاصصة الشكلية الذي يقوم على تحديد نسبة معينة للمشاركة النسائية بهيئات المعارضة السياسية ومنظمات المجتمع المدني، وكانت هذه المشاركة منذ بدايتها وحتى الآن مجرد صورة تجمّل صورة الرجل المنفتح المتفضل دون أن تعطي للمرأة السورية القدرة على المشاركة الحقيقة في رسم الأحداث الخاصة بالقضية السورية، ولم تبرز هذه المشاركات الديكورية الطاقات الخلاقة النسائية ولم تتح إظهار ما تتمتع به من نضج سياسي أو ثقافي أو اجتماعي.
 

وترى الأستاذة رغداء أن المرأة السورية بحاجة لتوعية وتدريب يؤمنان لها تمكيناً حقيقاً فاعلا يتجاوز الصورة إلى التأثير في المضمون والقرار، من خلال المشاركة في المؤسسات السورية المختلفة مشاركة تسهم في الحفاظ على كيان المجتمع سويا وبنيان الأسرة قائما وشخصية المرأة منفتحة واعية تتصدر المشهد وتكون لها الريادة في الفعل لا الصورة وحسب، وتسهم إسهاماً فاعلاً في التأثير في واقع سورية ورسم مستقبلها بوصفها بلدا مهددا تهديدا وجودياً.

 

(الأوروبية)
(الأوروبية)

وشأن أيِّ وليدٍ كانت هذه الأجسام غضة من حيث التجربة السابقة وآليات العمل والأهداف المرجوة، ونظرا للتهجير الكبير الذي مُني به الشعب السوري وتوزعه على دول جوار سوريا والدول الأوروبية وانقسام الشعب من حيث التوزّع الجغرافي إلى شعب داخل سوريا وآخر خارجها ومن حيث التوزع السياسي إلى معارضة وموالاة ومحايد؛ نجد أيضًا أن هذه الأجسام النسائية تشكلت في الداخل والخارج بخطى خجولة.
 

وفي سؤال عن تلك الأجسام المؤسساتية النسائية الناشئة في تركيا خصوصًا؛ كونها الوجهة الأكبر للسوريين المهجّرين بعد الثورة وعن منطلقاتها ورؤيتها وآلياتها العملية المتبعة لخدمة المرأة وعن الأجسام المؤسسية التي كانت حاضرة ومؤثرة بشكل أكبر تحدثت الأستاذة رغداء لميدان: في تركيا اليوم مؤسسات نسائية كثيرة، ولكن الملاحظ الأهم أن ظهور هذه المؤسسات النسوية كان بتشجيع خارجي، وليس بناءً على حاجة واقعية، رغم وجود مثل هذه الحاجة بالفعل. لذلك نرى أن تلك المؤسسات وباعتمادها على الدعم وبحثها عن التمويل تبتعد عن التخصص وتخضع لتحكّم الممول والداعم في توجهاتها وسياساتها العامة، وتطرح مشاريع عمل واسعة وخيالية أحياناً، لا تستطيع تلبية متطلباتها، فيأتي التنفيذ صورياً، تمثّل مخرجاته بأرقام، وبالتأكيد لا يمكن التحقق من مخرجات هكذا أعمال عن طريق الأرقام، التي لا تعد أداة موضوعية للتقييم والقياس.
 

وتضيف السيدة زيدان أن هذه المؤسسات تفتقر إلى الكوادر المتخصصة القادرة على التخطيط السليم والمدروس والمستقبلي، بعيداً عن الشللية والفئوية والمناطقية وإملاءات الداعم أو شروطه اللازمة للتمويل.
 

وأما عن مدى التواؤم والانسجام بين هذه الأجسام النسائية العدة التي من المفترض أنها تخدم المرأة السورية وتسعى لتأهيلها فإنه لا يوجد تنسيق وتنظيم للعمل بين هذه المؤسسات النسوية، التي تتشابه مشاريعها وأدوات تنفيذها وخططها وحتى سيئاتها وحسناتها، ولكن يختلف داعموها ووجوه القائمات عليها، ولعل هذا أهم سبب في هدر الجهود وعدم وجود خطة تكاملية فاعلة لتوعية المرأة السورية في تركيا وتدريبها وصولاً نحو تأهيلها لتقوم بالتمثيل الحقيقي الواقعي للمرأة السورية في هذا البلد.
 

والملاحظ كذلك الانعزال والتمحور حول الذات الذي تعيشه تلك المؤسسات النسوية السورية في تركيا، حيث تفتقر إلى برامج الإدماج والاندماج في المجتمع التركي او التواصل الحقيقي مع المؤسسات النسائية العربية الأخرى التي تنتشر في تركيا، وتفتقر إلى العلاقات المؤثرة مع فعاليات المجتمع التركي، لتحقيق مكاسب مشتركة للنساء السوريات والعربيات والتركيات على حد سواء، وخصوصاً أن إمكانية مثل هذا التعاون ليست بعيدة المنال، ويمكن القول إن فقد الثقة الذي تشعر به المرأة السورية وظهورها بمظهر الضعيفة المحتاجة التي تأخذ ولا تعطي وتتاثر ولا تؤثر، وهو ما ركّزت عليه وسائل إعلامية كثيرة، كان عائقاً كبيراً أمام تحقيقها مكانة هامة في مجتمع كالمجتمع التركي الذي تربطه بالسوريين علاقة تاريخية قديمة ومتجذرة.

حال المرأة السورية مازال يصدق عليه تلك العبارة التي قالها زياد رحباني في أحد مسرحياته:
حال المرأة السورية مازال يصدق عليه تلك العبارة التي قالها زياد رحباني في أحد مسرحياته: "كل ما بتسألني كيفك باتزكر إني مش مليح"!

الأسماء تختلف واللافتات تتعدد، لكن أساليب العمل تتشابه وتتشاكس وتتنافس، ومازالت الاعتباطية والارتجالية وعدم التخطيط المدروس وغياب التنسيق هو المسيطر على عمل هذه المؤسسات.
 

أما حال المرأة السورية فمازال يصدق عليه تلك العبارة التي قالها زياد رحباني في أحد مسرحياته: "كل ما بتسألني كيفك باتزكر إني مش مليح"!.
 

يبدو لنا أنّ الأكثر في جدوى في التعامل مع مفهوم التمكين هو المواءمة بينَ المصطلح الوافدِ والثقافة الاجتماعيّة، فلا تكون العلاقة بين المرأة والرجل صراعا تسعى المرأة من خلاله إلى التمحور حول ذاتها وتستقوي على الآخر تحت غطاء التمكين، ولا هو مقبول أن تبقى المرأة بلا شخصية ولا استقلال في خضوع مطلق للذكورية الطاغية، فالتأهيل الاحترافيّ وبذر الوعي العميق ونشر الفكر المستنير والبناء النفسي والاجتماعي وصناعة الشخصية المستقلة على مستوى الفرد والمؤسسة ثائرة على التقاليد البالية ومعلية للقيم؛ كل ذلك هو السبيلُ إلى تحقيق التمكين وتحويله من مجرّد شعارٍ إلى واقع عمليّ وسلوكٍ يرفد المجتمع بطاقات خلّاقة تبشّر بثمارٍ يانعة لمستقبلٍ مرتجى.

المصدر : الجزيرة