شعار قسم ميدان

تاريخ الطب.. التداوي كفعل إنساني بين الماضي والحاضر

midan - medicine

"انتصارات الطب الحديث ومحنه لايمكن أن تفهم إلا بإطار تاريخي(1)"

إن أفضل توصيف لعصرنا الحالي -على مستوى الوعي الجمعي- هو كونه "عصر مصادرة التصورات"، فكل الأسئلة غالباً ما تكون لها إجابة واحدة تُصدَّر على أنها الإجابة الصحيحة، كيف لا وهي نتاج رحلة البشرية عبر التاريخ ونتاج التقدم الموعود! فكما يقول الدكتور جلال أمين في كتابه خرافة التقدم والتخلف(2) إن لكل عصر خرافاته وأساطيره وخرافة عصرنا الحديث هي التقدم (progress)، فنحن نعتقد بأن تاريخ الإنسان هو تاريخ تقدم متصل من الأسوأ إلى الأفضل، فالحاضر لا بد أن يكون أفضل من الماضي والمستقبل أفضل منهما جميعاً.

 

وهذا الاعتقاد أصبح راسخاً لدرجة أنه لم يعد يحتاج أي تبرير لإثباته. فعلى مستوى الطب الذي هو موضوعنا هنا لم يعد بإمكاننا تخيل خطأ الطريقة التي نتبعها الآن في التعامل مع أجسادنا، ولم يعد يخطر ببالنا -ونحن نعاود الأطباء ونبتلع المسكنات- بأن الطب الحديث وتوصياته ليست بالضرورة الطريقة الوحيدة ولا الأفضل التي يمكن أن نستخدمها للعلاج.

وهنا تتساءل رغدة رشاد(3) وهي طبيبة مصرية وعاملة بمجال صحة الحوامل "أين أصبح موقع الحكمة والبديهيات الفطرية في التعامل مع أجسادنا، وكيف أصبحنا غير قادرين على التعامل حتى مع وظائف أجسادنا الطبيعية والتي تحدث بشكل متكرر منذ آلاف السنين مثل الحمل والولادة؟". ورغدة بالتأكيد ليست وحيدة في تساؤلاتها؛ بل إن التساؤلات عن مآلات الاستمرار في التعامل مع أجسادنا بنفس الطريقة التي يعتنقها الطب الحديث، وعن إمكانية إيجاد حلول تجنبنا الآثار السلبية هي أسئلة مطروحة وملحة في العالم أجمع. فنحن -الآن- أسرى لمفارقة (صحة أفضل وحياة أطول؛ لكن مع قلق طبي أعظم)(4).

 

لمحة تاريخية.. طبيعة المرض وشكل التداوي

مما قيل في الأطباء قديماً:(5)

لو غضبت روح على جسمها           أصلح بين الروح والجسم
كأنه من لطف أفكاره                   يجول بين اللحم والعظم

  undefined

 
بالنظر في التاريخ نجد أن التطور لم يطل فقط الممارسات الطبية؛ ولكنه طال -أيضاً- المرض نفسه، فتغيُّر نمط حياة الإنسان في الأزمان المختلفة صاحبه -بالتأكيد- تغيُّرٌ فيما يصيبه من أمراض. بحسب تاريخ كامبريدج للطب(6) فإن انتقال الإنسان من نمط حياة الصيد والتنقل الدائم؛ حيث التجمعات الإنسانية صغيرة العدد والغذاء الذي يعتمد عليه الناس بسيط المكونات، انتقال الإنسان من هذه الطريقة في الحياة إلى نمط الحياة الزراعية؛ حيث كبرت التجمعات البشرية وزاد استئناس الحيوانات كان بداية اتساع نطاق الأمراض وتعدد أشكالها. ثم نشوء المدن المكتظة، وبدء التصنيع والانتقال للعالم الجديد؛ فكلما تعقد الوجود الإنساني تعقدت معه العوامل المؤثرة في صحة الناس وزادت أعدادها.

 

وتماشياً مع فطرة الإنسان في حفظ حياته، وإزالة الألم الذي يقوض راحته فقد حرص طوال تاريخه على إيجاد الوسائل التي تعينه على ذلك؛ أي أن التداوي جزء أصيل من حياة البشر وتاريخهم. ورغم مرور التداوي بأطوار تاريخية وتطور قوانينه وأساليبه وحتى مع اختلاف بعض أسسه وأدواته بين الأمم؛ إلا أنه كان في معظم تاريخه لا ينفصل عن الحكمة الإنسانية بما تشمله من دين وفلسفة. فكان الإنسان محتفظاً بخصوصيته ويتم التعامل معه على أساس طبيعته الثنائية من الروح والجسد، وإن كان لهذه النظرة بعض الآثار السلبية من حيث اختلاطها ببعض الخرافات أو النظرة الكنسية المعيبة للألم في العصور القديمة؛ غير أن المحاولات بقيت مستمرة للتخلص من هذه العيوب كما عند الفيلسوف اليوناني أبقراط ومن بعده جالينوس، ثم علماء المسلمين الذين كانوا قنطرة انتقال التراث العلمي اليوناني إلى أوروبا.

 

نظرة الطب الحديث للجسد.. كيف تشكلت؟
 

" الأشخاص الأكثر بدانة يكونون أكثر عرضة للموت المبكر من النحاف"(7)
(إحدى حكم الفيلسوف أبقراط والذي يقال له أبو الطب)

 

لا يمكن نفي الاستمرارية في المعرفة الطبية، فعلى الرغم من التقدم الطبي الدائم والمتسارع إلا أن معظم المعلومات الأساسية يمكن ردها إلى أصول من التجربة التاريخية والعلم القديم. ولكن كانت هناك نقطة تحول؛ تغيرت عندها رؤية الطب كعلم لجسد الإنسان وتغيرت طرق التعامل معه. فمع بدء سيادة المادية العقلانية في القرن السابع عشر، وتوسع عمليات التشريح أصبح الجسد يعامل معاملة الآلة، واعتُبر المرض وقتها عطلا ميكانيكيا يصيب آلة الجسم. "وباعتبار أن الإنسان جزء لا يتجزأ من الطبيعة /المادة لا وجود له خارجها، وأنه لا جوهر مستقل له عنها، وباعتبار أن ثمة قانونا واحدا يسري على جميع الظواهر الإنسانية والطبيعية، إذن فمن الممكن دراسة ظاهرة الإنسان مثلما تُدرس أية ظاهرة أخرى في العالم الطبيعي، كما أنه من الممكن أن تطبق عليه نماذج العلوم الطبيعية"(8).

  undefined

 
وأصبحنا لسوء الحظ نرى أجسادنا كآلات هشة ومعيبة وغير مترابطة، ونظن أننا في حاجة إلى كافة أنواع الدعامات لكي نتماسك. وقد كان رينيه ديكارت الفيلسوف والعالم الفرنسي (1569-1650) رائد هذه الطريقة في التفكير، وقد قامت فلسفته الطبيعية بإخضاع الجسم بشكل كامل للتحليل العلمي.(9)

ومع التطور الكبير في مجال الكيمياء الحيوية واكتشاف التفاعلات المختلفة التي تحدث داخل الجسم، وزيادة القدرة على التعامل مع كل تفاعل بشكل منفرد ودقيق، أصبح كل جزء من أجزاء الجسد يعامل معاملة منفردة وصار ممكناً -وفق هذه النظرة- معالجة المرض بتعديل مكونات الجسد بالتدخل في هذه التفاعلات، "فالأمل هو أن يستطيع الطبيب -مثله مثل ميكانيكي السيارات أو السباك- أن يعالجنا بسد أنبوبة مثقوبة هنا، أو إزالة جزء معيب هناك، أو بأن يصب بعض العناصر الكيميائية المساعدة لزيادة فاعلية التشغيل"(10).

وهكذا فبزيادة المعرفة عن تفاصيل الجسد زاد التخصص، وأصبح كل طبيب مسئول عن التعامل مع جزء واحد من هذه الأجزاء؛ وانعكس هذا الأمر على فهم الإنسان لطبيعة جسده وعلى كيفية تعامله معه "وفقدنا بذلك الثقة في الحكمة الطبيعية للجسم وفي قوته. عندي نقص في كيمياء المخ، أحتاج المزيد من الهرمون، أنا  في حاجة إلى مضادات الاكتئاب.. إلخ، هذه النظرة هي بدعة حديثة ووهم اكتسبناه ويرجع بجزء كبير منه إلى التأثير القوي للصناعات الطبية والإعلانات"(11). وهذه الحقيقة لا تخفى -بالتأكيد- على أي عامل في المجال الصحي؛ فالمال أصبح متنفذا في إنتاج الدواء، وتسويقه، وتقديمه للأطباء، واختياراتهم في وضع الخطط العلاجية، وشيوع استخدام بعض الأدوية بالنسبة لغيرها.

ولم تتغير -فقط- النظرة لجسم الإنسان؛ ولكن تغيرت -أيضاً- النظرة لماهية المرض ومسبباته، فالنظرة الميكانيكية للجسم أنتجت مفهوم المرض العضوي، والذي يعالج بدواء يقوم بتعديل تفاعلات مخصوصة داخل الجسم والتي تسببت في حصول هذا المرض. وكذلك امتدت النظرة الداروينية في التعامل مع الطبيعة إلى اعتبار أن أي وجود للكائنات الدقيقة مثل البكتيريا التي قد تسبب المرض هو خطر مباشر علينا مواجهته والتخلص منه، فزادت بذلك ثقافة التعقيم والتي نراها في شيوع العلامات التجارية لمنتجات التعقيم المتداول استخدامها بين الناس حالياً، وكذلك سيطرة المضادات الحيوية على عملية التداوي بشكل واسع جداً.

 

ما الذي نخشاه من الطب الحديث إذن؟
undefined
 
"إلى أين أيها الطب؟!" هكذا تساءل الطبيب الإنجليزي الشهير توماس هوردير عام 1949. (11) الحديث عن الماضي والحاضر يأخذنا بالتأكيد  للحديث عن المستقبل، فما الذي يثير كل هذه المخاوف والتساؤلات عن الطب وطريقته في التعامل مع الجسد وتطوراته المستقبلية؟، ألا ينقذنا الطب -الآن- ويخفف من آلامنا؛ وهذا هو المهم بالنسبة لنا كبشر.؟

 

نحن لسنا آلات
هذه الحقيقة الأولية -والتي تناساها الطب في ممارساته لفترة طويلة- قد عادت للبروز على السطح مرة أخرى. فالنظر إلى معاناة المرضى باعتبارها مجرد مشاكل يمكن حلها، والتعامل مع مكونات الجسد على أنها عينات مخبرية كان لها بالغ الأثر على ثقة المرضى في الطبيب كمداوٍ حقيقي لآلامهم، ودفع بالكثير منهم لإعادة التفكير في اللجوء مرة أخرى للصور المختلفة من الطب التقليدي.

بالإضافة إلى أن مبدأ كبت الأعراض الذي يتبعه الطب الحديث في التعامل مع الأمراض؛ حيث يتم علاج كل مرض على حدة قد أدى إلى مشاكل كثيرة في استخدام الدواء. فمريض واحد يعاني من عديد الأمراض المزمنة قد يصل به الأمر لتناول من 5 إلى 10 أنواع من الأدوية يومياً؛ مما يؤدي إلى استحالة السيطرة على كافة التفاعلات الداخلية لهذه الأدوية وتقليل آثارها الجانبية. وهنا تبرز الحاجة للعودة للنظر للجسد بصورة كلية مرة أخرى، ورصد التفاعلات بين النفس والجسد، وملاحظة أثر كل منهما في المرض والعلاج. ثم أليس الانتشار الدائم والمستمر للأنواع الجديدة من الأمراض قد يكون دليلاً على أن هناك خللاً ما في تعاملنا مع مسببات هذه الأمراض ومع أجسادنا؟! أي؛ لا الأمراض المزمنة عولجت بشكل كامل، ولا ظهور أنواع جديدة من الأمراض تم منعه.. ألا يستحق هذا منا -كبشر- الوقوف عنده والتساؤل؟

  

إن مبدأ كبت الأعراض الذي يتبعه الطب الحديث في التعامل مع الأمراض؛ حيث يتم علاج كل مرض على حدة قد أدى إلى مشاكل كثيرة في استخدام الدواء. قد تؤدي إلى استحالة السيطرة على كافة التفاعلات الداخلية لها وتقليل آثارها الجانبية
إن مبدأ كبت الأعراض الذي يتبعه الطب الحديث في التعامل مع الأمراض؛ حيث يتم علاج كل مرض على حدة قد أدى إلى مشاكل كثيرة في استخدام الدواء. قد تؤدي إلى استحالة السيطرة على كافة التفاعلات الداخلية لها وتقليل آثارها الجانبية
  

ومما يثير القلق والتساؤل -أيضا- مستقبل البحث الطبي، "فهناك الكثير من المخاوف من القوى الغريبة للطب في ظل انتشار الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية"(12). وهذه المخاوف تنقسم إلى مخاوف أخلاقية؛ حيث يبرز النقاش عن حفظ خصوصية الإنسان، وطبيعة الخلق، وكونه كائنا حرا مختارا. وكذلك مخاوف تتعلق بمبدأ العدالة بحفظ إمكانية حق التداوي للجميع، فزيادة كلفة العلاج بشكل دائم تقلل شريحة البشر القادرة على التداوي.

 

في الطب كما في باقي العلوم، وكما هو الحال على جميع مستويات الحياة الحديثة يبرز سؤال الغائية بشكل ملح "الطب -كما يبدو- أضحى سجين نجاحه، فبعدما استطاع التغلب على العديد من الأمراض الفتاكة وأثبت قدرته على إيقاف المعاناة والألم، أصبحت أهدافه مشوشة وأقل وضوحاً من ذي قبل. ما هي أهداف الطب؟ متى يقف عن التطور؟ هل هدفه الأوحد هو المحافظة على حياة الناس أطول مدة ممكنة؟ أم أن هدفه جعْل الناس يعيشون حياة صحية؟ أم أن الطب لا يعدو كونه مهنة خدمية همها تلبية رفاهية عملائها على غرار ما تفعله عمليات التجميل؟"(13)

 

كل هذه الحقائق والتساؤلات حول الطب جديرة -بالتأكيد- بأن تؤخذ في الاعتبار حين نفكر في أجسادنا كجزء من كوننا بشراً، وبأن تضعنا أمام مسئوليتنا في التعامل مع هذا الجسد، واختيار طريقة مداواته الأفضل والأنسب لطبيعته.

المصدر : الجزيرة