ما أثر الانقطاع المستمر على عقولنا؟
حاليًا؛ أصبحت أيامنا مليئة بالمشتتات المستمرة التي تفصلنا عمّا نقوم به، يرجع ذلك إلى التمادي في التطور التكنولوجي وظهور الهواتف الذكية والحواسيب المحمولة والأجهزة اللوحية وتوغل التقنيات الرقمية وارتباطها بكل ما نقوم به. فتعددت الإعاقات والمشتتات التي تدفعنا إلى الانقطاع المستمر عن مهامنا، قد تتمثل تلك الإعاقات في رسائل البريد الإلكتروني أو الرسائل النصية والمكالمات الهاتفية أو حتى الاجتماعات المتتالية التي أصبحت أيسر من ذي قبل بسبب التكنولوجيا الرقمية والبرمجيات المخصصة لذلك.
حتى في بيئات العمل بلغت المعوقات ذروتها؛ وأصبحت الشركات تشجع موظفيها -دون قصد- على القيام بأكثر من مهمة في آنٍ واحد، فبدأت بعض المؤسسات بخلق مساحات مكتبية مشتركة ومفتوحة لكافة موظفيها اعتقادًا منهم بأن ذلك سيعمل على خلق روح عمل جماعية تسهم في تقدم العمل ورفعته؛ لكن على العكس قد تسمح هذه المساحات المشتركة بالحوارات الجانبية المرتجلة البعيدة كل البعد عن مهام العمل، فيجد الشخص نفسه مستمرًا في الانقطاع والتنقل بين المشاركة في الحوارات المرتجلة مع زملائه وبين تأديته مهام العمل وهو ما يؤثر سلبيًا على عقله ويجعله أكثر عرضة لمتلازمة الدماغ المتناثر.
قد يرى البعض أن الانقطاع المستمر شيء طبيعي يحدث لنا في غالبية الوقت أثناء القيام بأي مهمة؛ لكنه من المؤسف أننا لا ندرك تأثير هذا الانقطاع على أدمغتنا، فالتعرض المستمر للمعوقات أو المشتتات يدفعنا إلى الانقطاع المتتالي أثناء أداء مهمة ما، والتعرض المتتالي للانقطاع يجعل أدمغتنا قابلة للتكيف والتأقلم على ذلك حتى يصبح الانقطاع -مرارًا وتكرارًا- أثناء أداء المهمة الواحدة أمرا اعتياديا؛ بل واجب الحدوث. وبالتالي عند أداء أي مهمة بعد ذلك -مهما كانت- نجد أنفسنا ننقطع عما نؤديه دون أدنى داع إلى ذلك فقط للتكيف مع الانقطاع الذي أصبحت أدمغتنا مدمنة عليه. يُطلق على الحالة المتمثلة في إدمان الانقطاع عند أداء أي مهمة متلازمة الدماغ المبعثر (المتناثر) نسبةً إلى تلازم الانقطاع في عقولنا وتشتيت الدماغ ليصبح في حالة من التناثر وعدم التركيز المستمر. (1)
حيث تشير الدراسة -ذاتها- إلى أن من يعانون من تبعثر الدماغ هم -في الأساس- لا يمتلكون القدرة على حجب المعلومات غير الهامة، وهو ما يجعل الذاكرة غير قادرة على معالجة كافة المعلومات التي تتعرض لها؛ مما يؤدي في النهاية إلى تلاشي بعض المعلومات الهامة والتي قد نكون في حاجة لها. فتجاهل بعض المعلومات التي نتعرض لها أمر هام حتى نتمكن من التركيز على المُدخلات الأخرى الأكثر أهمية، ذلك لنستطيع تذكرها فيما بعد. قد يرجع كل ذلك إلى التكنولوجيا الحديثة لأنها هي المسئول الأول عن إعادة توجيه أدمغتنا لنصبح مدمنين على الانقطاع، فصرنا ننتظر الرسالة النصية أو البريد الإلكتروني القادم بفارغ الصبر. وبالتالي فيعتبر تبعثر الدماغ عرضًا طبيعيًا للحياة الرقمية الحديثة التي نعيشها الآن، والتي تطغى فيها المعلومات بصورة أكبر من اللازم. (3)
يعتقد الكثيرون بأنهم قادرون على أداء العديد من المهام في آنٍ واحد؛ حيث يمكنهم التركيز على كافة المهام التي يقومون بها والتنقل بينها بسلاسة دون التشتت أو فقدان التركيز؛ لكن هذا غير صحيح على الإطلاق. فبالرغم من أن هناك حوالي 2% من البشر لديهم القدرة على القيام بالمهام المتعددة كهبة وراثية؛ إلا أن طبيعة أدمغتنا مبرمجة من أجل التركيز على القيام بشيء واحد في وقت واحد وليس القيام بالعديد من المهام في الوقت ذاته. وبالتالي فاعتقاد البعض بأنهم متعددو المهام هو اعتقاد خاطئ؛ لأنهم في الواقع يجدون أنفسهم يتجولون ذهابًا وإيابًا بين المهام التي يعملون عليها ولا يستطيعون التركيز الفعلي على كل المهام في نفس الوقت. (4)
فعلى سبيل المثال؛ نفترض أن أحدنا يقوم بأداء مهمة ما، وأثناء ذلك أتته مكالمة هاتفية وقام بالرد عليها وهو ما زال مستمرًا في مهمته الأولى، هذا الموقف يعتبر مثالا مبسطا لتعدد المهام؛ حيث يعتقد الشخص بأنه يقوم بأداء المهمتين في الوقت ذاته. لكن ليس هذا ما يحدث فهو لا يقوم بأداء المهمتين في الوقت نفسه، فواقعيًا يقوم الشخص بتحويل انتباهه من أحد أجزاء الدماغ إلى جزء آخر -وهو ما يستغرق الكثير من موارد وخلايا المخ- حتى يستطيع الشخص تحويل تركيزه بين المهمتين؛ حيث تقل موارد المخ المكرسة لأداء المهمة الأولى من أجل زيادة الموارد المكرسة للتركيز في المهمة الأخرى، وهو ما يؤثر بالطبع على الأداء وجودة العمل المُنتَج في النهاية. (5)
وكشفت دراسة أخرى أجريت في جامعة ستانفورد أن القيام بأداء عدة مهام في وقتٍ واحد يُعتبر أقل إنتاجية من أداء مهمة واحدة فقط. فقد وجد الباحثون أن الأشخاص الذين يتعاملون مع كم كبير من المعلومات خلال أداء المهام المتعددة لا يستطيعون مواصلة الانتباه وتذكر المعلومات، أو الانتقال من مهمة إلى أخرى عكس أولئك الذين يقومون بأداء مهمة واحدة في وقت محدد. وهو ما يؤدي بالتبعية إلى متلازمة الدماغ المتناثر بسبب التعرض لكمٍّ مهول من المعلومات دون القدرة على ترشيحها واختيار المعلومات الهامة وتجاهل الأخرى. (7)
كما تؤكد ذلك الدكتورة "ساندرا بوند" المؤسِّسِ والمدير العام لمركز "الصحة العقلية" بجامعة تكساس في دالاس؛ حيث تقول إن تعدد المهام يُنتج تفكيرًا ضحلًا ويقلل من الإبداع ويزيد من الأخطاء كما يقلل قدرتنا على حجب المعلومات غير المتعلقة بالمهام التي نؤديها، وذلك لأن أدمغتنا لم يتم بناؤها على تعدد المهام، وبالتالي مع مرور الوقت من الممكن أن يؤدي تعدد المهام إلى مستويات عالية من التوتر والاكتئاب وانخفاض قدراتنا الذهنية. لذا فإن تعدد المهام يُعتبر مُسببًا رئيسا لحدوث تبعثر الدماغ عن طريق دفع العقل للانتقال ذهابًا وإيابًا من مهمة إلى أخرى أثناء العمل على أكثر من مهمة. بالإضافة إلى خفض قدرتنا على التغاضي عن المعلومات غير المتعلقة بما نقوم بتأديته؛ مما يؤدي في النهاية إلى متلازمة الدماغ المتناثر.(8)
فيشعر الشخص بعدم الرغبة في التحرك لبدء شيء ما على الرغم من أنه يريد تحقيقه بالفعل، ويستمر في المماطلة وترك المهام المنوطة به. فيستغرق أضعاف الوقت المُقدر للخروج من المنزل؛ حيث يترك الأشياء الأساسية التي يحتاجها خلفه، فيخرج ويعود من وإلى المنزل مرات متكررة نظرًا لنسيانه هاتفه أو محفظته أو نسيانه لإحدى تقارير العمل الواجب تسليمها. كما يُعاني من مشاكل في الالتزام والتنظيم بين الحياة الشخصية والعمل والقيام بالواجبات المنزلية. بالإضافة إلى ذلك يصبح الشخص غير قادر على تذكر الأشياء الأساسية مثل المواعيد مع الأطباء أو العائلة والأصدقاء، ويجد نفسه يتناول كميات كبيرة من الكحول أو الكافيين، أو حتى الطعام ومشاهدة البرامج التلفزيونية دون أي هدف. (10)
كذلك من أهم الخطوات في التخلص من متلازمة الدماغ المتناثر هو الابتعاد التام عن تعدد المهام والالتزام بأداء مهمة واحدة في وقت واحد، فلا تحاول زيادة وتيرة القيام بمهامك عبر أداء أكثر من مهمة في وقت واحد، هذا لن يجدي نفعًا وستجد نفسك تنجرف بعيدًا عن المهام الواجب تأديتها. وبالتالي يكمن علاج التخلص من هذه المتلازمة في اتباع العادات التي تؤدي إلى تعزيز الإنتاجية بقدر الإمكان، ويمكن الاطلاع على أهم العادات الواجب اتباعها لتعزيز الإنتاجية من خلال تقريرنا؛ هل تسعى لحياة أكثر إنتاجية؟ اتبع هذه العادات.