شعار قسم ميدان

محاضرات ملهمة ترشدك نحو التصالح مع الموت

ميدان - تيد Ted

"بعض الناس يموتون في الخامسة والعشرين. ولكنهم يُدفنــون وهم في الخامسة والسبعين"

(بينجامين فرانكلين)

 

لا شك أن هذا الاقتباس التاريخي على لسـان فرانلكين(1) -أحد أبرز الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الذي تزيّن صورته ورقة المائة دولار- يعتبر من أشهر الاقتباسات المتداولة التي تتناول معنى شديد العمق فيما يخص الحياة والموت معا. معظم البشر منشغلون بطرح السؤال النابع عن المجهول: هل ثمة حيـاة بعد الموت؟ ولكن القلة منهم يحذرون مما هو أشد وطأة من هذا التساؤل: الموت قبـل الموت.

 

وسواء اختلفت طريقة التعامل مع الموت ما بين محاولة التجاهل التام أو الخوف المرضي، إلا أنه في النهاية يظل أمرا واقعا لا محالة. قد تبدو حقيقة مُقبضة كئيبةk إلا أنها في المقابل قد تحمل في طياتها معنى الحياة ذاتها، وهذا ما أشار له العالم الأميـركي الأشهر "نيل ديغرايس تايسون" في أحد لقاءاته عندما سُئل عن الموت.

 

 

الموت هو الذي يجعلك تستيقظ صباحا عازما على فعل شيء ما جديد، أو الالتزام باتخاذ إجراءات فورية دون تأجيل من بينها التعبير عن مشاعرك لمن تحبّهم. تخيل أن أمامك الوقت مفتوحا بلا سقف الموت، وقتئذ كل شيء سيكون قابلا للتأجيل، كل شيء سيبدو غير مهم أو غير ضـروري. الحياة ذاتها ستفقد كل قيمتها.

 

على مسرح تيد، ألقيت مجموعة من أكثر المحاضرات إلهاما وتميزا تتناول أفكـارا مختلفة عن الموت، تحوّله من هاجس لا يرحم صاحبه قلقا وخوفا إلى دافع حقيقي للإنجاز والحيـاة بشكل صحيح.

 

قبل أن أموت أريد أن..؟!

 

في المعتاد، يشارك البشر تجاربهم وخبراتهم مع الآخرين بوسائل محددة؛ منشور على الفيسبوك أو تغريدة على تويتر، ربما بأغنية أو فيلم أو حتى كتاب ورواية. هذه الوسائل رغم توافرها في أيدي الجميع حاليا، إلا أنها تستدعي أيضا بعض التحضيـر والتجهيز وتنميق الكلمات والعبارات والصور قبل إصدارها، ما يفقدها -في معظم الأحيان- عنصر التلقائية التي تحمل مصداقية أكبر.

 

في نيو أورليانز بأميركا حيث تعيش المتحدثة كاندي تشانغ قامت بعمل تجربة مثيرة؛ مرت بجوار واحد من أكبر الحوائط المركزية في المنطقة، وكتبت: قبل أن أموت، أريد أن…؟  تركت المجال مفتـوحا للجميع بأن يكتبون ما يريدونه، ووضعت للعابرين مجموعة من الطباشير يمكنهم التعبير من خلالها. انصـرفت، لتعود في اليوم التالي وتجد الحائط قد امتلأ عن آخره تقريبا بالآمال والطموحات والأحلام والآلام والأفكار.

 

على مسرح تيد، تشرح كاندي تشانغ عبر محاضرتها الشهيرة التي حققت أكثر من خمسة ملايين مشاهدة ملامح هذه التجربة ومغزاها، كيف يفكر الناس في الموت؟ ما الذي يرغب فيه الناس فعلا قبل الرحيل عن الحيـاة؟ ما الرسائل التي يحاول الناس إيصالها للآخرين قبل رحيلهم عن الحياة ومسراتها وأحزانها وآمالها ومشاكلها؟ تستعرض المتحدثة مجموعة من الإجابات على الحوائط التي ملئت عن آخرها والتي في مُجملها تعبر عن أبسط رغبات النفس الإنسـانية على الإطلاق، والتي تحمل مزيجا ما بين خوف ورجاء وطموحات وآلام وأحزان.

 

بمعنى أكثر اختصارا، محاضـرة تمثّل كشّافا عن رغبات الناس الأساسية فيما يودون أن يشهدوه في حياتهم قبل رحيلهم عن العالم.

 

قصصٌ أربع نخبر أنفسنا بها عن الموت

 

متى كانت أول مرة أدركت فيها أنك سوف تموت؟ يبدأ الفيلسـوف ستينف كيف محاضـرته بهذا السؤال المُقبض مستهلا حديثه في المحاضرة التي ألقيت في العام 2013، وحققت مشاهدات مليونية لامست سقف الثلاثة ملايين مشاهدة. الحقيقة أن هذا السؤال نابع من دراسة الفيلسوف الأكاديمية التي تركز على محاولة فهم السعي المحموم للبشر للحيـاة لفترة أطول، ومسعاهم للخلود حتى رغم علمهم أن الحياة مليئة بالآلام والمشاكل والأزمات.

 

في المحاضـرة يبدأ المتحدث في طرح مجموعة من الاستفسـارات الشيقة: لماذا يخاف البشر من الموت ولماذا يتمردون على حتميته؟ يقفز من هذه الأسئلة على استعراض 4 قصص مشهورة عبر الحضارات والثقافات المختلفة يرددها الناس بمختلف أديانهم وخلفيـاتهم لتفسير الموت وتبرير حدوثه، بعض هذه الروايات تكون مبررا لنا لكي نتحكم في رهبة الموت ونبتلعها، وبعضها الآخر يطرح المزيد من الأسئلة القلقة عن هذه الظاهرة التي لا يمكن الهروب منها.

 

يبرز ستيفن كيف جدلية الفيلسوف الإغريقي إبيكاروس بأننا نخشى شيئا لن نراه. يقول: "الموت لا شيء بالنسبة لنا جميعا، لأننا عندما نعيش لا يتواجد الموت، وعندما يأتي الموت نكون قد ذهبنا بالفعل". وهي عبارة صيغت لاحقا على لسان فيلسوف آخر قال: "الموت ليس حدثا من الحياة أصلا، نحن لا نعيش كي نختبر الموت". وهي عبارات تشير إلى أن الحيـاة والموت أشبه بليل ونهار كل منهما له مظاهره وشواهده، ولا يمكن أن يجتمعا معا.

 

الطابع الفلسفي للمحاضـرة يميل طول الوقت للتحفيز والتشجيع وتجاوز رهبة الموت. ربما تعد هذه المحاضرة من أهم المحاضرات التي يمكن أن يشاهدها ذوُو الخوف الزائد من الموت باعتبار أنها تحمل فلسفة متفائلة لها طابع واقعي.

 

ما الذي يجعل الحياة تستحق العيش في مواجهـة الموت؟

 
"عاش زوجي المريض (بول) بعد تشخيصه بالمراحل الأخيرة للسرطان لمدة
22
شهرا، كتب فيها مذكـراته في مواجهة الموت، وشهد إنجاب ابنتنا، وعشنا معا أيامه الطبية الصعبة. إلى أن جاء اليوم الذي أخذوا فيها بول إلى المستشفى للمرة الأخيرة، عندئذ التفت إليّ في النهاية وقال لي: أنا جاهز. علمت أنه لم يكن فقط قرارا شجاعا، بل كان القرار الصحيح. رفض بول وضع جهاز التنفس الصناعي، وكانت اللحظة الأهم بالنسبة له أن يحمل ابنتنا الصغيرة ويحتضنها فترة طويلة. بعد تسع ساعات فارق (بول) الحيـاة".

 

بهذه الكلمات المأساوية تفتتح "لوسي كالانيتي" محاضـرتها التي تعتبر من أكثر محاضرات تيد مزجا بين الألم والأمل. المحاضرة ألقيت في نهاية العام 2016 على مسرح تيد، وحققت مشاهدات لامست سقف المليوني مشاهدة كونها تتحدث عن واحدة من أكثر الأمور ألما ورعبا للناس: كيف يمكنك أن تعيش أيامك وأنت تعرف أنك سوف تموت؟ كيف تستمتع وتشعر بالسعادة والحيوية وأنت يغمرك هذا الشعـور؟

 

في المحاضرة تركز لوسي على مفهوم أن المعاناة أصلا هي التي تمنح الحيـاة معنى، وأن حيـاة بلا معاناة هي بالضرورة حياة بلا معنى. التجربة والفهم والوعي يحدث من خلال المعاناة، بل والسعادة والهدوء والرضا أيضا يخرج من رحم المعاناة في النهاية. المـوت هو النقطة الأخيرة التي يدرك الجميع أنه ذاهب إليها، فيسعى -بعد أن يتخطى الخوف منه- لأن يستفيد من كل لحظة في سبيل إسعاد نفسه والآخرين وغرس القيم والمعاني الجوهرية في حيـاتهم. ربما إذا غاب الموت غاب المعنى عن كل تفاصيل الحياة.

 

من أفضل محاضرات تيد وأكثرها تأثيرا لشرح جوانب مختلفة عن مفهوم الموت وأهميته رغم كل ما يتسبب فيه من آلام وخوف وقلق وأحزان. ربما يحمل في طياته المعنى الأهم للحيـاة ذاتها.

 

ما يهم فعلا في نهاية الحيــاة

 

في تلك المحاضرة من تيد التي تجاوز عدد مشاهداتها حاجز الستة ملايين مشاهدة، وتعتبر من أكثر المحاضرات التحفيزية التأملية مشاهدة على موقع المنصة، يطرح الطبيب بي جاي ميلر الذي فقد كلا ساقيـه مجموعة من الأفكار والتأملات بخصوص لحظات النهاية. لحظات نهاية الحياة التي مرّ ويمرّ وسيمرّ بها كل شخص طال بقاءه في الحياة أو قصر.

 

ما الذي يهمك أن تجده في نهاية حياتك؟ ما الأمور التي ستشعرك بالرضا عن مُجمل حياتك عندما تبدأ شمس الحيـاة في الغروب، وتجد نفسك على أعتاب الشيخوخة؟ في تلك المرحلة، تظهـر حالة نفسية معروفة أقرب إلى اجترار الذكريات السعيدة منها والتعيسة، قصص النجاح والإخفاق، الأمور التي تدعو للندم بمجرد تذكـرها، والأمور التي تدعو للندم لعدم فعـلها. حالة الفلاش باك المعتادة التي يمرّ بها كل من يتقدم به العمـر التي تقود في النهاية إلى سؤال أكبر: ما المغزى من هذا كله طالما الحياة سوف تنتهي في يوم من الأيام.

 

المحاضـرة عبارة عن مواقف حياتية مرّ بها الطبيب أثناء رحلة عمله الطويلة، يسرد من خلالها عبر حديث مؤثر مجموعة من لحظات النهاية للمرضى الذين رآهم، وكيف انعكست هذه المواقف على حياته الشخصية وطريقة تفكيره حيال الموت بمعنى أكبر وأعمق بكثير من الفكرة الشائعة عنه. ثم يطرح مجموعة أفكار وأسئلة للمشاهد ربما تساعده أن يعيش حياته الحالية بشكل صحيح.

 

ما تعلمتــه من قراءة 2000 نعي وفــاة

 

يبدأ لاكس نارايان يومه بداية غريبة نوعا ما، حيث يقوم بإعداد البيض المقلي وتصفّح صفحة الوفيات! هذا النمط اليومي الذي يتخذه لاكس كان سببا في محاضـرته الهامة التي ألقاها على مسرح تيد في بداية العام 2017، وحققت مشاهدات مرتفعة لامست سقف المليون ونصف مشاهدة، وقدر كبير من التفاعل، ربما بسبب فكـرتها الغريبة والعميقة أيضا.

 

من تصفحه الدائم لصفحة نعي المتوفين في الصحيفة، لفت نظره أن نهاية العظماء والمشاهير يتم اختزالها في عدة أسطر من كلمات محدودة. عندما قام بدراسة الأمر بشكل أكبر، والتركيز على مضمون الكلمـات بعد تفريغها من حروف الجر والتعريف، ظهـرت له مجموعة محددة من الكلمـات تنعي العظمـاء والمشاهير الذين حققوا نجاحات في حياتهم، اتفقوا جميعا على هذه الكلمات وإن اختلفت مجالاتهم وتوجهاتهم وحتى إنجازاتهم.

 

المحاضـرة تسوق فكـرة مدهشة في مجملها، وهي أن حيـاة كل منا في النهاية مجرد مجموعة من الكلمات التي تصف رحلته. إما كلمـات مؤثرة صادقة مكتوبة بعنـاية، وإما كلمـات مستهلكة بلا معنى مكتوبة بغرض الاستهلاك الاجتماعي لا أكثر.

 

فلنتكلم قليلا عن المــوت
 

 

"بينما أعطي هذا الخطاب، وخلال العشر دقائق، مئة مليون من خلاياي ستموت. وما يزيد عن ألفي خلية من خلايا دماغي، خلال مسار اليوم، ستموت و لن تعود.. لذا يمكنك القول إن الموت ليس أمرا لاحقا، بل هو أمر مستمر نتعرض له كل يوم"

 

على مدار ثلاثة عقود تقريبا، وكطبيب قضى معظم حياته العملية في قسم طب الطوارئ والحالات الحرجة، شاهد بيتر سول الموت بعينيه في أكثر من أربعة آلاف حالة. هذا العدد الكبير من التجارب، حوّل الموت بالنسبة له من حالة مخيفة غامضة إلى حالة مثيرة للاهتمام تستدعي منه أن يضع تصورات بخصـوص الوصول إليه بأفضل شكل ممكن وأقل ألم ممكن.

 

لا نستطيع التحكم في الموت، فهو المصير الوحيد لنا جميعا كما هو مصير الحيوانات والنباتات وحتى الكواكب والنجوم والمجرات. هذه الحقيقة مثيرة للضيق أو الغضب، ولكن تتلوها لحظة التحرر والتركيز على "ما تود أن تفعله قبل أن تموت" أولا. وثانيـا، كيف يمكن الوصول إلى مرحلة الموت الهادئ المريح بأقل قدر من المعاناة سواء من المرض العضوي أو المشاكل العصبية والنفسية.

 

في هذه المحاضرة التي قارب عدد مشاهداتها المليون مشاهدة، يقرر بيتر سول بعض الحقائق عن الموت بشكل علمي منهجي جاف خال من العواطف، ثم يطرح تصورات -أقرب إلى التفكير بصوت عالٍ- مبنية على هذه الحقيقة المطلقة قد تجعلها أخفّ وطأة ومدعاة أكبـر للنجاح والاستقرار والالتزام بأنماط حيـاتية أكثر صحية وخيرية.

 

كيـف تعيش قبل أن تمــوت؟

 

أخيرا، واحدة من أشهر المحاضـرات المُلهمة المحفزة على الإطلاق، ألقاها عبقـري التقنيـة الأشهـر "ستيف جوبز" في العام 2005 في حفـل تكريم لجامعة ستانفـورد العالمية الشهيرة التي تعتبر من أكبر وأهم جامعات العالم. المحاضـرة حققت على منصّـة تيد الرسمية أكثر من 8 ملايين مشاهدة، فضلا عن انتشارها في كافة وسائل التواصل الاجتماعي كواحدة من أشهر وأهم الخطب الإرشادية التي ألقـاها ستيف جوبز للشباب والخريجين تحديدا، والتي تحتوي على نصائح مركـزة حتما تساهم في جعل حيـاتهم أفضل.

 

"الحق يُقال، إنني لم أحصل على شهادة جامعية قط، لذلك فأنا أعتبر كلمتي هذه اليوم بمثابة تجربة جامعيـة لي لم أختبرها مسبقا. وسبب عدم حصولي على شهادة جامعية، له قصـة".

 

على مدار حياته مرّ ستيف جوبز بأزمات ومشاكل وفرص استطاع أن يحوّلها جميعها إلى درجات في سلم تطوره الشخصي والمهني والريادي، توّجه بتفــاحته التي خلدت اسمه كواحد من أبرز الأسماء التاريخية التي قدمت نقلة كبـرى للبشرية في مجال الاتصالات والأجهزة الذكية.

 

في هذه المحاضـرة المؤثرة يحكي جوبز عن 3 جوانب في حياته تشمل لقطات من طفولته وشبابه ومراحل تشكل الأفكـار وبدء شركته وإخفاقاته ونجاحاته. في نهاية المحاضـرة يشرح جوبز أن كافة هذه الجوانب كانت سببا في جعله يشعر بأنه "عاش" حياته فعلا بكافة جوانبها قبل أن يموت، وأن الحياة لا تعني فقط المرح والمتع والسعادة بقدر ما هي تشمل تجربة متكـاملة أدّت إلى ما هو عليه.

 

بعد فترة قصيرة من هذه المحاضرة، حققت أبل نقلة كبـرى في إنتاجاتها بظهور الأيفون في العام 2007، ثم الأيباد في العام 2010، واعتبرت -حتى الآن- هي العرّاب الأساسي لسوق التقنية في العالم. رحل جوبز عن الحياة بعد إلقاء هذه المحاضر بستة سنوات تقريبا في (أكتوبر/تشرين الأول2011).

 

في النهاية، الموت رغم كل مآسيه وأحزانه وآلامه قد يكون فعلا الدافع الوحيد للإنجاز ولترك أثر ما. ربما أفضـل من عبّر عن هذا المعنى هو ستيف جوبز نفسه عندما قال في كلمته الشهيـرة:

 

"أتذكّــر أنني سوف أموت قريبا، أعتبــره أهم أداة تساعدني في الخيارات الكبرى في حياتي، لأن كل شيء، كل التوقعات، كل الفخر، كل ملامح الخوف من الإحراج أو الفشل، كل شيء سيختفي في النهاية عندما تحل لحظة الموت، باستثناء الأمور التي تهم فعلا هي التي سوف تبقى"(2).

المصدر : الجزيرة