شعار قسم ميدان

النوم يعزز الحل الإبداعي للمشكلات

midan - sleeping man

عام 1920، في الليلة التي سبقت أحد عيد الفصح، أفاق أوتو لوي من نومه، وقد استحوذت على تفكيره فيما يبدو فكرة مهمة. استخرجها على قصاصة ورق ليغطّ في النوم بعدها على الفور. عندما أفاق مجددا، وجد خربشاته عصية على التشفير. لكن لحسن الحظ، عاودته الفكرة في الليلة التالية. كان الرسم لخبرةٍ بسيطة برهنت نهايةَ المطاف على أمر لطالما افترض لوي حدوثه: خلايا الأعصاب تتصل ببعضها عبر تبادل الكيميائيات، أو الناقلات العصبية. إثبات تلك الفكرة هو ما حصد له جائزة نوبل في الطب عام 1936.

   

 بعد قرن تقريبا على إغفاءات لوي المصيرية، تظهر العديد من التجارب أن النوم يعزز الحل الإبداعي للمشكلات. حاليًا، قامت بيني لويس من جامعة كارديف رفقة اثنين من زملائها بفرز ومزج تلك الاكتشافات في نظرية جديدة تفصّل الصلة بين النوم والإبداع. بالتحديد، فإن فكرتها تفسر كيف يعمل طوريّ النوم الرئيسيين – الريمي (حركة العين السريعة) واللا ريمي (حركة العين غير السريعة) –  سويا على مساعدتنا في إيجاد الروابط غير الملحوظة بين حلقات المعرفة المسبقة لدينا، وعلى اكتشاف حلول مبتكرة للمشكلات المؤرقة.

     

undefined       

في بداية نومك، فإنك تدخل مرحلة النوم اللا ريمي. ويتضمن هذا مرحلة خفيفة تستغرق معظم وقت الليل، ثم فترة من سبات أثقل بكثير تدعى نوم الموجة البطيئة (SWS)، وذلك عندما تقذف ملايين الخلايا العصبية بقوة وفي الوقت نفسه، كما لو كانت كورسًا إغريقيا خلويا (نسبة للخلايا). "إنها شيء لا تراه في حالة الاستيقاظ مطلقا"، بحسب لويس. "إنك في حالة سيكولوجية موغلة في النوم وستكون مستاءً إنْ إيقظت من نومك".

   

 خلال تلك الحالة، يعيد الدماغ عرض الذكريات. مثلا، الخلايا العصبية ذاتها التي قذفت عندما جال الفأر في أرجاء المتاهة خلال اليوم ستنشط عفويا عندما ينام في الليل، بالتتابع نفسه تقريبا. هذه الدورات المعادة تساعد في ترسيخ وتثبيت الذكريات المشكّلة حديثا، وصهرها في المعرفة الموجودة سلفا. لكن لويس تعلل أنها أيضا تساعد الدماغ في استخلاص العموميات من التفصيلات، وهي فكرة دعمها آخرون.

   

"لنقل أنك تعيد عرض ذكريات حفلات أعياد الميلاد"، تقول لويس. "وكانت هذه الذكريات جميعًا، تتضمن الهدايا، قالب الحلوى، وربما بعض البالونات. في هذه الحالة، فإن المناطق التي تمثل هذه الأشياء في الدماغ ستنشط بقوة أكبر عن المناطق التي تمثل الحضور في كل حفلة، أو أي مزايا أخرى".  بمرور الوقت، قد تتلاشى التفاصيل من الذاكرة، ويتبقى طيفها. "هكذا قد تبني تصورك لما قد تكون عليه حفلة عيد ميلاد أحدهم". (وحاجج بعض العلماء بأن الحلم هو التمظهر الواعي لهذه العملية: إنه عمليا دماغك يشاهد نفسه بينما يقوم بإعادة عرض وتحويل ذكرياته الخاصة).

   

هذه العملية تحدث طيلة الوقت، لكن لويس تحاجج بأنها تبلغ ذروتها في حالة نوم الموجة البطيئة تحديدا بفضل اتصال وثيق بين جزئين في الدماغ. الأول هو الحصين، وهو منطقة تأخذ شكل حصان البحر وسط الدماغ وتلتقط ذكريات عن الأحداث والأمكنة. والثاني هو القشرة الحديثة، وهي الطبقة الخارجية من الدماغ، والتي  بين أشياء أخرى، هي المكان الذي تُخزَّن فيه ذكريات الحقائق، والأفكار، والمفاهيم.  فكرة لويس هي أن الحصين ينبّه القشرة الحديثة لإعادة تشغيل الذكريات التي تكون متصلة من ناحية الثيمة أو الموضوع، والتي تقع في المكان نفسه أو تشترك في تفصيل معين. هذا يسهل كثيرا على القشرة الحديثة استخلاص الثيمات المشتركة.

      

      

الطور الآخر للنوم، وهو الريمي، مختلف جدا. ذلك الكورس الإغريقي الذي غنته الناقلات العصبية بشكل متزامن خلال النوم اللاريمي يتخلَّف إلى جعجعةٍ نشاز، مع نشاط أجزاء مختلفة من القشرة الحديثة، بشكل عشوائي تقريبا. في هذه الأثناء، يتدفق أسيتيل الكولين، وهو ناقل عصبي – ذاته الذي تعرف عليه لوي في عمله المستلهم من النوم- إلى الدماغ، مشوِّشا على الاتصال بين القشرة الحديثة والحصين، ومستبدلا كليهما بحالة مرنة، تكون الاتصالات بين الناقلات العصبية فيها مشكلة بطريقة أسهل، ومقوّاة أو مُضعفة. هذه المزايا، كما تقترح لويس، تسمح للقشرة الحديثة بالبحث غير الواعي عن العناصر المتشابهة بين المفاهيم التي يبدو وأنها غير متصلة ببعضها البعض، مثل، لنقل، الطريقة التي تدور فيها الكواكب حول الشمس والطريقة التي تدور فيها الإلكترونات حول نواة الذرة. "لنفترض أنك تعمل على مشكلة ولا تجد لها حلا"، تقول. في النوم الريمي، ستقوم القشرة الحديثة بإعادة تشغيل عناصر مجردة ومبسطة [من تلك المشكلة]، لكن أيضا هناك أشياء أخرى سيتم تنشيطها بشكل عشوائي. وهو ما سيقوّي الملامح العامة المشتركة بين هذه الأشياء. عندما تستيقظ في اليوم التالي، فإن تلك التقوية الطفيفة ربما تسمح لك برؤية ما كنت تعمل عليه بطريقة مختلفة. وهو ما قد يسمح لك بحل تلك المشكلة. 

    

"الكثير من تلك الأفكار كانت موجودة سلفا"، بحسب لويس و"قد جادل البعض بأن نوم الموجة البطيئة هام للإبداع بينما جادل آخرون بأن الإبداع وليد النوم الريمي. ونقول أن كليهما على نفس الدرجة من الأهمية. جوهريا، النوم اللا ريمي يستخرج المفاهيم، والنوم الريمي يوصلها ببعضها بعضا.

   

إنها وبشكل حاسم، تكمّل بعضها بعضا. الدماغ النائم يمر عبر حلقة من النوم الريمي واللاريمي كل 90 دقيقة أو نحوها. على مدار ليلة – أو عدة ليال – يتكرر اتحاد الحصين والقشرة الحديثة وانفصالهما، بالتزامن مع سلسلة من تجريد [الذكريات] والربط [بينها]. "هذا التناظر سيكون أشبه بباحثين يعملان على حل المشكلة ذاتها سويا، ليقررا فيما بعد أن يفكر فيها كل واحد بشكل منفصل، ومن ثم العودة للعمل عليها سويا مرة أخرى"، كما تكتب لويس. 

     

undefined     

"والخلاصة الواضحة هي أهمية الحصول على النوم الكافي إن كنت تواجه مشكلة متعسرة"، كما تردف لويس. "لاسيما إن كنت تحاول العمل على أمر يتطلب التفكير الخلاق، ربما عليك ألا تتعجل فيه".

 تستند بعض أجزاء هذا الإطار إلى بيانات قوية، في حين تظل بعض التخمينات بحاجة للاختبار. على سبيل المثال، ليس هناك دليل كاف يدعم تخمين لويس القائل بأن الحصين ينبه القشرة الحديثة لكي تعيد عرض الذكريات المرتبطة [بالمشكلة] خلال النوم اللاريمي. "إنني أدرك أنها درجة من المط"، كما تعترف، لكنها تلاحظ "أنه في عدة دراسات، اتضح أن نوم الموجة البطيئة يحسن القدرة على تمييز المفاهيم المشتركة.  في مهمة مستخدمة على نطاق واسع، يتعين على الناس تعلم عدة كلمات – ليل/ عتمة/ فحم – تتمحور حول ثيمة غير مرئية. إن ناموا بعدها، فإنه من المرجح لهم أن يتذكروا (زيفا) أنهم تعلموا أيضا الكلمة الثيمّة – في هذه الحالة ستكون الكلمة "أسود". ومع ذلك، تلاحظ جيسيكا باين من جامعة نوتردام  في احدى تجاربها أن نوم الموجة البطيئة كان له أثر معاكس.

   

لكن، باستثناء هذا "الخلاف البسيط"، تشعر بيني بأن لوي محق بالمجمل، لاسيما فيما يتعلق بدور النوم الريمي في مزج المعرفة المفاهيمية "بطرق يمكن أن تكون مثمرة وخلاقة"، كما تقول، وتضيف "أعتقد أن الفكرة العامة ستكون مشرقة".

  

هناك نقطة ضعف أخرى في إطار لوي تجدها أكثر إشكالية: يمكن للناس أن يحرموا من النوم الريمي دون المعاناة من أي مشاكل نفسية واضحة. على سبيل المثال، فقد أحدهم، معظم نومه الريمي إثر إصابة في الدماغ: إنه "محام مجتهد ويكتب الأحجيات لصحيفة محلية"، تقول لويس. "وهذه مشكلة بالنسبة إلينا".  

      

undefined

    

"إنني على ثقة بأن الأمر ليس  صحيحا 100%"، تضيف ضاحكة، "لكننا حصلنا على عدد من النتائج التي تدعم الأمر بقوة". لقد حاول فريقها حث المتطوعين النائمين على إعادة عرض ذكريات خلال نوم الموجة البطيئة والنوم الريمي، ووجدوا تأثيرات مختلفة في كل منهما. ويفترض بهذه النتائج أن تنشر في المستقبل القريب. وفي الوقت الحالي، يعمل الفريق أيضا على تطوير طرق لدعم أو إحباط مرحلتي النوم لرؤية كيف يمكن لهذا التأثير في مهارات حل المشاكل لدى الناس. هذا كله جزء من مشروع يمتد لخمس سنوات، ولا يزالون في السنة الأولى.

   

 لويس تعمل أيضا مع مارك فان روسوم من جامعة نوتنغهام لإنشاء ذكاء اصطناعي يتعلم الطريقة التي يفكر فيها الدماغ النائم، خلال مرحلة "الاستخلاص ومرحلة ربط الأشياء ببعضها بعضا". كما تقول.

   

"إذا، فأنت تقومين ببناء ذكاء اصطناعي يمكنه النوم"؟ سألتها.

وأجابت بـ "نعم".

  

وأتساءل.. هل يعقل أن نرى في المستقبل خرافا كهربائية؟

——————————————————

ترجمة (فرح عصام)

(الرابط الأصلي)