شعار قسم ميدان

بين مكتبة جرير وأرامكس.. دروس ملهمة لإنشاء مشاريع ناجحة

ميدان شخصيات و شركات
في الغالب، عندما يبدأ الريادي العربي في البحث عن نماذج ملهمة لشركات أو أفكار أو مشروعات حققت نجاحاً كبيراً، فإنه -بشكل تلقائي- يجد نفسه غارقاً في قصص نجاح الشركات العالمية.. الحقيقة أن هذا التوجّه -رغم أنه يعتبر إجحافاً شديداً لقصص نجاح الشركات العربية- إلا أنه مفهوم رغم كل شيء. باعتبار أن الأضواء العالمية كلها يتم تسليطها على المشروعات الضخمة القادمة من الغرب والشرق، والتي بدأت كمشاريع ريادية صغيرة.

 

ويبقى تسليط الأضواء على النماذج العربية محدوداً. على الرغم من أن هذه النماذج تحديداً تحوي في طياتها إفادة أكبر بكثير من النماذج العالمية؛ لأن قصص النجاح تلك جاءت من رحم نفس الظروف والأجواء والمشاكل والعقبات التي يمرّ بها كل ريادي عربي.

ثمة قصص نجاح حقيقية تدعو للفخر تحققت في العالم العربي خلال السنوات الماضية، تولّد منها علامات تجارية كبيـرة نسمعها ونعرفها جميعاً، ونقف أمامها بكل الاحترام والتقدير؛ ولكن معظمنا يجهل كيف بدأت.. والأهم: كيف استطاع أصحابها تحقيق هذا النجاح ؟! هنا؛ نسلّط الضوء على بعض المشروعات / النماذج / الشخصيات العربية التي تستحق أن يتم دراسـة أسباب نجاحها.

 

عرض لا يمكن رفضـه
موقع طلبات(مواقع التواصل)
موقع طلبات(مواقع التواصل)

 

أربعة شباب كويتيين متحمّسين، قرروا في العام 2004 أن يفتتحوا عملاً تجارياً خاصاً بهم بتمويل بسيط إجمالي قدره 4 آلاف دينار من كل منهم. هذا التمويل مكّنهم من استئجار مكتب صغير، وتأسيس موقع إليكتروني جيد. كان المشروع التجاري يحمل اسم ( طلبات دوت كوم ). (1)

البداية كانت متواضعة جداً. تم توظيف موظفين برواتب متواضعة، وبدأ الشباب التحرّك بصعوبة لتنفيـذ فكـرة مشروعهم، وهي الربط بين المطاعم الكويتية والعمـلاء من خلال الاشتراك في الموقع. كان التحرّك صعباً للغاية في تلك الفترة؛ باعتبار أن الشركات والمطاعم لم تكن تولي هذا الاهتمام بشبكة الإنترنت، في وقت لم يكن فيه فيسبوك أو تويتر أو يوتيـوب، فضلاً عن واتساب أو إنستغرام. كانت الشبكة محدودة الاستخدام جداً، وإن بدت بوادر ثورة تقنية هائلة في الطريق.

 

باختصار، كانت النتائج مخيّبة للغاية، وبات واضحاً أن المشروع في طريقه للفشل. إلا أنهم قرروا أن يعيدوا التجربة مرة أخرى؛ ولكن بتغيير أسلوب الإدارة والتسويق. فلجأوا مرة أخرى إلى المطاعم، وأقنعوهم أن الاشتراك مجاني، وأنه لن يتم تحصيل أية أموال منهم، سوى رسوم الخدمة عند قدوم الطلبات الفعلية، وهي رسوم بسيطة للغاية تقدر بـ 200 فلس من العميـل، و200 فلس من المطعم. باختصار: عرض لا يمكـن رفضه..
 

في العام الأول، لم تكن الطلبات اليومية تتجاوز الثلاثين طلباً كحد أقصى.. في العام الثاني ارتفعت إلى ستين، وفي العام الثالث وصلت إلى 200 طلب يومياً. حتى بدأت (طلبات دوت كوم) تحقق نجاحاً ملحوظاً؛ جعل أول عرض للاستحواذ يصلهم بقيمة 100 ألف دينار كويتي؛ وهو مبلغ هائل إذا قورن برأس المال الذي تم البدء به.

 

إلا أن أحد المؤسسين رفض الاستحواذ، وقام بشراء حصة شركائه الأربعة، واستمر في المشروع حتى وصل عدد الطلبات اليومية إلى ألف طلب يومياً، ما جعله يتوسّع في منطقة الخليج؛ ليستهدف السوق السعودي. ليصل عرض الاستحواذ الثاني ولكن بقيمة 360 ألف دينار كويتي هذه المرة، الأمر الذي جعل صاحبه يوافق على الصفقة.

ثم، مع الانتقال إلى إدارة جديدة، توسّعت طلبات دوت كوم ليتم الاستحواذ عليه مرة أخرى بقيمة 880 ألف دينار كويتي عام 2010.. وفي بداية 2015، قامت شركة (روكيت إنترنت) الألمانية الضخمة بالاستحواذ على موقع طلبات دوت كوم بقيمة هائلة وصلت إلى 170 مليون دولار أميركي، ما اعتبر واحدة من أكبر الصفقات في هذا الوقت. كل رحلة النجاح هذه قائمة على مبدأ واحد قام به الشباب الأربعة: مبدأ العرض الذي لا يمكن رفضه.. (2)
 

البداية من مكتبة صغيرة
كل الأمور كانت تشير إلى أن (محمد العقيل) سيجد طريقاً وظيفياً وأكاديمياً مرموقاً.. التحق بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن، وتخرّج منها مهندساً، ثم سافر إلى الولايات المتحدة؛ ليحصل على درجة الماجستير من جامعة بروكلي، ليعود للرياض مهندساً متميزاً، من البديهي أن تتصارع عليه الشركات والمكاتب الاستشارية الكبرى فى المملكة. أمان وظيفي كامل، وشهادة أكاديمية مميزة يحلم بها أي شاب، ومستقبل واعد.. ومكتبة صغيـرة. (3)

محمد العقيل مؤسس مكتبة جرير (مواقع التواصل)
محمد العقيل مؤسس مكتبة جرير (مواقع التواصل)


مكتبة صغيـرة قام بإنشائها فى أحد أحياء الرياض، يعمل فيها عاملان اثنان فقط، كونه مهتما بالقراءة.. وأيضاً تبيع بعض المستلزمات المدرسية، والصحف والمجلات.. هذه المكتبة رغم مساحتها الصغيرة، ورغم وقته المنشغل ببناء مسيرة وظيفية ناجحة، إلا أنه كان يديرها بشكل جيد جداً، الأمر الذي جعله يفتتح لها عدة فروع بدأت تنال شهرة تدريجية تحت اسم : مكتبة جرير.

 

كانت الأهداف من وراء هذه المكتبة هو تصميم كتب عربية بنفس جودة الكتب الأميركية في الطباعة والغلاف والمحتوى. مع طريقة الإدارة المميزة، وبدء المكتبة في ترجمة وإصدار كتب ومطبوعات مميزة على المستوى العالمي والإقليمي، بدأت تنتشر بشدة في السعودية ثم الخليج، ومنه إلى بقية العالم العربي. وبالتوازي، بدأ محمد وإخوته بتأسيس مجموعة شركات أخرى تحمل نفس العلامة التجارية في مجال التسويق، ثم الأثاث، فالمجالات الاستثمـارية وغيرها.. حتى أصبحت جرير شركة متعددة المجالات..
 

في العام 2003، قرر العقيـل وإخوته بيع جزء من أسهم الشركة وطرحها للاكتتاب العام، وإدراجها فى السوق المحلي. ما رفع قيمتها السوقية اليوم إلى ما يقرب من 15 مليار ريال سعودي، وحوالي 3 آلاف موظف.. كل هذه الإمبراطورية جاءت من مكتبة صغيرة بدأت بعاملين اثنين في أحد شوارع العاصمة الرياض.(4)
 

إبداع النمذجة

فادي الغندور مؤسس شركة أرامكس (مواقع التواصل)
فادي الغندور مؤسس شركة أرامكس (مواقع التواصل)

في رأيي، ما زالت شركة (أرامكس) الأردنية تعتبر على قمة أبرز الشركات العربية المُلهمة لأي شاب ريادي يسعى أن يتحوّل مشروعه من المحلية إلى العالمية. مؤسس أرامكس، فادي الغندور سافر إلى جامعة جورج واشنطن لدراسة العلوم السياسية، فتأثر بقصة نجاح فيدرال إكسبريس (فيديكس)، شركة النقل العالمية الكبرى، الأمر الذي جعله يرى فيها فرصًا حقيقية واعدة لدى عودته إلى بلاده. (5)
 

في الثمانينيات، كانت الشركة الوحيدة العاملة في مجال النقل في الشرق الأوسط هي شركة "دي إتش إل" (DHL) بلا منافس تقريباً، ما اعتبرها الغندور فرصة جيّدة للدخول في هذا المجال الملييء بالفرص، فجاءت شركة (أرامكس) للوجود سنة 1981.. برأس مال محدود بدأت تشهد عملياتها في الأردن، ثم العواصم العربية، ثم بدأت تتواصل مع شركات نقل عالمية كبرى مثل فيديكس وشركات أخرى، لإقناعهم بالتعاون معهم.. يقول في إحدى لقاءاته: (6)
 

"هدفنا كان بسيطا جدا ومباشرا، لذا نجح بسرعة كبيرة. لقد قلنا للشركات الأميركية:

 لماذا تتركون الساحة لمنافسكم دي أتش أل (DHL) في منطقة الشرق الأوسط، في الوقت الذي شركتنا مقرها في المنطقة، ونعرف الشرق الأوسط وشمال أفريقيا جيدا ؟

 سنؤسس شبكة مستقلة ونكون ذراعكم، ويمكننا توصيل وشحن ما شئتم من بضائع ! "

وبفكرة ذكية كهذه، وإدارة متميزة، استطاعت أرامكس النمو بشكل سريع في الثمانينيات، وأصبحت ذراعاً لشركات عالمية في المنطقة، حتى إنها أصبحت تُعرف بين الشركات العاملة في هذا المجال بأنها (شركة بريد لشركات البريد العالمية)!
 

ثم جاءت مرحلة التوسّع.. بدأت أرامكس في اجتذاب الخبرات الفنية العالمية في مجال صناعة النقل حول العالم، خصوصاً من شركائها العالميين، بهدف تطوير شركته ودعمها؛ حيث بدأ نقل أطقم عمل كاملة إلى الولايات المتحدة للتعلم والتدريب.. في الوقت نفسه، توسّعت أرامكس بالاستحواذ على شركات صغيرة فى مصر وتركيا والخليج، وتعزيز تعاونها مع شركات دولية تستهدف منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا..
 

في التسعينيات، قامت شركة إيربورن الأميركية بشراء حصة في أرامكس بعد أدائها المميز في الشرق الأوسط، ومن ثم تم طرح الشركة في اكتتاب عام في سوق ناسداك العالمي باعتبارها أول شركة عربية على الإطلاق يتم إدراجها فى السوق الأميركي. ومع الكثير من الإدارة المبدعة في علاج الأزمات -وقد مرت الشركة بأزمات حادة بالفعل- إلا أنه ومع قدوم العام 2005 تم إدراج الشركة أيضاً فى سوق دبي المالي، وتوسعت بشكل كبير في المنطقة والعالم لتتحول من شركة إقليمية إلى شركة عالمية كبرى.
 

اليوم تعمل أرامكس في أكثر دول العالم، وتحقق إيرادات عالمية تفوق المليار دولار – بنهاية 2015-، وتبلغ قيمتها السوقية 1.18 مليار دولار.. ما زالت حتى الآن أرامكس نموذجاً عربياً مُلهما في إبداع النمذجة، واصطياد الصفقات، والقدرة على التطوير الذي جعلها تصل لمصاف الشركات العالمية.
 

راعي الأغنام المليـاردير
ميلود الشعبي مؤسس مجموعة يينـا القابضة (مواقع التواصل)
ميلود الشعبي مؤسس مجموعة يينـا القابضة (مواقع التواصل)


لا يوجد في المملكة المغربية خصوصاً، والعالم العربي بشكل عام، من لا يعرف (ميلود الشعبي)، واحد من أشهر مليارديرات المغرب والمنطقة العربية.. 
ولد في منطقة شعبية شديدة الفقر قرب مدينة الصوير المغربية عام 1930، ولم يكن في الإمكان أن يتلقى تعليماً نظامياً في العام 1930 بسبب ظروفه الاقتصادية شديدة التواضع، فقط اكتفى بأن ينال تعليماً بسيطاً في المسجد الصغير في قريته. (7)
 

مرّ ميلود بأيام مأساوية من الجوع مع أسرته شديدة الفقر؛ لدرجة أن أحد إخوته قد مات متأثراً بالجوع الشديد.. بمرور الوقت، عمـل ميلود راعياً للأغنام.. ثم انتقل إلى مراكش باحثاً عن عمـل، ومنها إلى مدينة القنيطرة التي ذهب إليها عبر تذكـرة سفر اشتراها له أحد المسافرين الذي أشفق عليه. وهناك وجد فيها عملاً مناسباً بالنسبة له: عامل بناء.
 

هذه المهنة المتواضعة جعلته يلم بشكل كبير بخصوص تجارة البناء وتفاصيله، فقام بافتتاح شركة مقاولة محدودة جداً عام 1948 بما لديه من مدخرات متواضعة، وكان يعمل معه عاملان دورهما الوحيد هو إقناع العمـلاء بالتعامل العقاري معهم.. وبمرور الأيام، حققت شركته الصغيرة نمواً تدريجياً جعلها شركة جيدة في السوق العقاري المغربي.
 

حتى جاء منتصف الستينيات، قرر فيه ميلود بإطلاق مصنع صغير للسيراميك، كامتداد لاهتمامه بمواد التشييد والبناء، فحقق نمواً ممتازاً، أتاح له التصدير خارج المغرب بعد عدة سنوات من افتتاح الشركة إلى بعض الدول العربية المجاورة.
 

بدأ راعي الغنم الطموح في السعي وراء الدخول في شراكات مع شركات فرنسية كبيرة إلا أن الفرنسيين رفضوا تماماً، من بينهم شركة (دولبو ديماتيت).. وبعد عدة سنوات، وبقدوم الثمانينيات، استحوذ ميلود بالكامل على هذه الشركة التي رفضت يوماً أن تشاركه!

 

ثم قام بتأسيس مجموعة يينـا القابضة -تعني أمي باللغة الامازيغية-، وأصبح ميلود الشعبي واحداً من أشهر رجال الأعمال في المغرب، الأمر الذي أتاح له التوسع السريع في إنشاء شركات مختلفة تتنوع بين الكارتون، وصفقات البتروكيمياويات، وشركات الكابلات، وسلاسل المحال والمتاجر والمولات، وحتى سلسلة فنادق فخمة..
 

في العام 2016 فارق ميلود الشعبي الحياة بعد أن تجاوز الثمانين، وهو يملك ثروة تجاوزت الثلاثة مليارات دولار، ويملك مجموعة قابضة تضم أكثر من 70 شركة يعمل بها أكثر من 20 ألف موظف، ويحجز مكاناً في تصنيف الفوربس كواحد من أغنى الشخصيات فى العالم.(8)
 undefined

قصص النجاح العربية التي يمكن أن تكون نموذجاً مُلهماً لروّاد الأعمال الشباب لا تنتهي. نحن بالفعل يعيش بيننا نماذج لا يمكن وصفها بأقل من رائعة، ساهموا في تحقيق إنجازات كبرى لا تقل إلهاماً عن النماذج العالمية -إن لم تكن أروع-..!
 

ولكن الضوء المُسلّط على هذه المشروعات والتجارب والشخصيات ما زال خافتاً، على الرغم من أن هذه النماذج تحديداً تمثـل المعيار الأكثر أهميـة بالنسبة للريادي العربي، كونها نابعة من نفس الظروف والبيئة ونوعية التحديات.حتماً سيكون لدينا المزيد بخصوص نماذج عربية أخرى مميزة في تقارير أخرى.

المصدر : الجزيرة