شعار قسم ميدان

الابتعاد عن منطقة الراحة.. استراتيجيات البقاء في القمة

midan - شركات
اضغط للاستماع
    
يُحكى أن أحد تلاميذ الرياضات القتالية ذهب إلى معلّمه في حفل ختامي ليحصل على الحزام الأسود بعد سنوات من التدريب الشاق الذي لا يرحم، جعله يصل إلى أعلى لياقة ممكنة تسمح له بتسلّم هذا الحزام.

قال له المعلم: قبل أن تحصل على الحزام يجب أن تجتاز اختباراً صغيراً، بأن تجيب على سؤالي: ما هو المعنى الحقيقي للحزام الأسود؟ ردّ التلميذ: الحزام الأسود هو نهاية الرحلة، وجائزة مستحقة على العمل الشاق الذي خضته خلال سنوات. فقال المعلم: أنت لست مستعداً للحصول على الحزام الأسود بعد.. عُد بعد عام.

مرّ عام، ثم عاد التلميذ وجثى على ركبتيه مرة أخرى أمام المعلم لاستلام الحزام الأسود. فأعاد المعلم عليه نفس السؤال: ما المعنى الحقيقي للحزام الأسود؟ فكان الرد هذه المرة: أنه رمز التميــز وأعلى إنجاز يمكن تحقيقه في فن القتال. فقال المعلم: أنت لست مستعداً للحصول على الحزام الأسود بعد.. عُد بعد عام!

مرّ عام، ثم عاد التلميذ ليجثو على ركبتيه أمام معلّمه للمرة الثالثة، فأعاد المعلم عليه نفس السؤال. فأجاب التلميذ: الحزام الأسود يمثّــل البداية.. بداية رحلة لا تنتهي تشمل النظام، والعمل، والبحث عن شيء أعلى دائماً مهما بدا أنه لا يوجد أفضـل مما تمّ تحقيقه!

فقال المعلّم: صحيح.. لقد أصبحت الآن مستعداً لتسلم الحزام الأسود، والآن تبدأ عمــلك!

 

النجاح دائماً مُقترن بعدم الرضا
الوصول إلى قمة النجاح أمرٌ شاق، والبقاء على قمة النجاح أمرٌ أكثر مشقّة (بكسلز)
الوصول إلى قمة النجاح أمرٌ شاق، والبقاء على قمة النجاح أمرٌ أكثر مشقّة (بكسلز)

معروف دائماً أن الوصول إلى قمة النجاح أمرٌ شاق، والبقاء على قمة النجاح أمرٌ أكثر مشقّة. هذه القاعدة تسري على الجميع، سواءً كأفراد أو كمؤسسات أو شركات. يبدو أنها قاعدة مُستمدة من قوانين الحياة نفسها ولا يمكن أن تتغير أبداً.

 

الواقع يؤكد أن بعض الشركات العالمية التي بدأت من الصفر ووصلت إلى قدر هائل من التضخم في العمل والشهرة والتميّز، لم تستطع الصمود وعادت مرة أخرى إلى الصفر. شركة "ياهو!" هي المثال الحاضر دائماً لهذه الشركات.

 

بينما بعض الشركات الأخرى تصمم بإصرار غريب على البقاء في القمّة والتميز، مهما مرّ الزمن وتغيّــرت الظروف. حالة دائمة من النجاح في مختلف الظـروف الممكنة، والقدرة على مواجهة صدمات الأسواق وتغيّرها البطيء والمفاجئ، كأنها تحوّلت إلى أيقونات من النجاح الدائم الذي لا يتزعزع.

 

السؤال الذي يفرض نفسه دائماً، كيف تستمر هذه الشركات في النجاح، ولا تهوي أبداً؟ وإن هوَت قليلاً، فهي تستدرك نفسها مباشرة، وتعود مرة أخرى سريعاً إلى المشهد. الإجابة باختصار، أنها شركات تعوّدت على "آليّـات عدم الرضا" تحت أي ظرف، مما جعلها تنتهج استراتيجيـة من أهم الاستراتيجيات الإدارية على الإطلاق، وهي "التحسين المستمــر".

 

التحسين المستمر
التحسين المستمر هو التطوير الذي لا يتوقف في عمليات ومنتجات الشركة، حتى لو بدا لها أنه لا مجال أكثر للتطوير، وأنه من الأفضل الارتكان إلى منطقة الراحة 
التحسين المستمر هو التطوير الذي لا يتوقف في عمليات ومنتجات الشركة، حتى لو بدا لها أنه لا مجال أكثر للتطوير، وأنه من الأفضل الارتكان إلى منطقة الراحة 

رغم أن مصطلح "التحسين المستمر" تم تبنّيه بشكل واسع في عالم الإدارة منذ الثمانينيات في القرن العشرين تقريباً، إلا أنه في الواقع كان الأساس الذي قام عليه مفهوم الإدارة العصري وارتبط بظهـور الشركات الكبرى في القرن التاسع عشر، حتى قبل صياغة المصطلح.

 

هذا المصطلح -التحسين المستمر- يعني بشكل مُختصـر التطوير الذي لا يتوقف في عمليات ومنتجات الشركة، حتى لو بدا لها أنه لا مجال أكثر للتطوير، وأنه من الأفضل الارتكان إلى منطقة الراحة بدلاً من الاستمرار في تحسين لا يستمر. بمعنى آخر، تحول مفهوم "التحسين المستمر" إلى أساس وقاعدة راسخة في منهجيات عمل الشركة وليس موجة تختفي سريعاً، أو تظهــر بسبب دواعي أو ظروف تضطـرّها إلى تحسين نفسها داخلياً وخارجياً.

 

التحسين المستمر يعني استثمار طويل المدى من أجل المستقبل، واستثمار في رفع كفاءة الموظفين، واستثمار في تطوير المُنتج حتى لو لم تبدُ هناك حاجة مُلحّة لتطويره، ويعني أيضاً تبني أفكار وتقنيات جديدة عصرية.

 

باختصار: عمل كل شيء استباقي ممكن، من شأنه جعل الشركة أقوى في الغد مما هي عليه اليوم.. حتى لو كان حاضر الشركة الحالي يدعو للهدوء والراحة.. الشركات المميزة تنجح بفضل عدم الرضا، لأنها تعرف ان الرضا يؤدي إلى الركود. والركود – حتماً – يؤدي إلى التدهور.

 

لا يوجد منافسين؟ فلنصنعهم!
قررت الشركة أن تنافس نفسها، عن طريق منافسة منتجاتها لبعضها البعض  (بكساباي)
قررت الشركة أن تنافس نفسها، عن طريق منافسة منتجاتها لبعضها البعض  (بكساباي)


في النصف الأول من القرن العشرين، كانت شركة
"بروكتر آند جامبل" (P&G) العمـلاقة تمرّ بأفضل أيامها على الإطلاق. شركة ضخمة وهائلة ومترامية الأطراف، لها نظام قوي، تقريباً مستحوذة تماماً على السوق. باختصار حتى لا أطيل في ذكـر مزاياها، شـركة بلا منافسين لديها كل الظروف التي تجعلها تأوي إلى منطقة الراحة والاستمتاع لفترة طويلة.

 

إلا أن المدراء التنفيذيين لهذه الشركة المميزة كانوا يشعرون بالقلق، لعلمهم الكامل أن عدم وجود منافسين في السوق حتماً سيؤدي إلى مخاطر "القنـاعة" ثم الركود المميت. فكانت النتيجة اقتراحاً ثورياً بدأ تطبيقه في الثلاثينيات من القرن العشرين، بأن يتم تنظيم المؤسسة العملاقة بشكل يجعل منتجات بروكتر آند جامبل تتنافس مع بعضها البعض، كما لو كانت منتجات شركات مختلفة!

 

الشركة بالفعل لديها أفضل المنتجات، أفضل قوة تسويقية على الإطلاق وقتئذ، وأفضل الموظفين. ومع ذلك لا يوجد منافسة خارجية كافية، فلماذا لا يتم إشعال نار المنافسة بين أفضـل ما لدى الشركة نفسها! تم تنفيذ هذا النظام في الثلاثينيات، وبالفعل كانت نتائجه رائعة في بقاء منتجات الشركة على القمة لعدة عقود لا تهتز تقريباً، وكل مُنتج جديد يهزم منتج آخر من نفس إنتاج الشركة!
 

الابتكار أو الاندثار
أطلقت موتورولا على سياسة التحسين المستمر الخاصة بها اسم
أطلقت موتورولا على سياسة التحسين المستمر الخاصة بها اسم "خريطة الطريق التقنية"، وكانت هي القاطرة الرئيسية التي حققت اختراقات ثورية للشركة أمام المنافسين

هذا الشعـار رفعته شركة "موتورلا" (Motorola) الأمريكية الضخمة، كاستراتيجيّة خاصة بها تهدف إلى "إجبـار" نفسها على التحسين المستمـر طوال الوقت، وإبعاد نظامها وهياكل عملها من منطقـة الركود بشكل كامل.

 

موتورولا قامت في الفترة ما بين السبعينات والثمانينيات، تحت قيادة "روبرت غالفين" مديرها التنفيذي النابه، بتدشين حركة ثورية تركز بشكل كامل على الابتعاد من منطقة الراحة الكاملة والتحول إلى منطقة التحسين المستمر.

 

قامت موتورولا إثر هذه الحركة بالاستغناء بشكل كامل عن إنتاج معدات وأجهزة كانت تغطي قدراً كبيراً من المبيعات، مثل بعض أجهزة التلفزيونات والمذياعات التي كانت رائحة وقتئذ، والتحوّل لصناعة مُنتجات أكثر دقة وأجهزة جديدة كلياً؛ فأجبرت نفسها بهذه الخطـوة أن تلتزم بتقديم منتجات جديدة ذات جودة عالية تعوّض الخلل الهائل الذي سوف يحدث جرّاء التخلي عن الإنتاج القديم!

 

أطلقت موتورولا على سياسة التحسين المستمر الخاصة بها اسم "خريطة الطريق التقنية"، وكانت هذه الخريطة هي القاطرة الرئيسية التي حققت اختراقات ثورية للشركة أمام المنافسين، وتمدد منتجاتها في الأسواق في السبعينات والثمانينيات.

 

النتيجة: حجزت موتورولا مكانة تاريخية بأنها أول شركة في العالم تقوم بإنتاج "الهاتف النقّال" عام 1973، وانجازات ثورية أدّت إلى نمو مبيعاتها من حوالي 215 مليون دولار في بداية الستينات، إلى 6,7 مليار دولار في نهاية الثمانينيات!

 

التحسين المستمـر يأتي من المستويات الأدنى
فرضت جنرال إلكتريك نظاماً مميزا بأن تقوم مجموعات من العاملين بمناقشة فرص التحسين المستمر داخل الأقسام المختلفة، ولا يُسمح لمدراء الأقسام بمشاركة هذه النقاشات. فقط يتم رفعها إليهم
فرضت جنرال إلكتريك نظاماً مميزا بأن تقوم مجموعات من العاملين بمناقشة فرص التحسين المستمر داخل الأقسام المختلفة، ولا يُسمح لمدراء الأقسام بمشاركة هذه النقاشات. فقط يتم رفعها إليهم

بعض الشركات التي أصبحنا نسمع عنها كأيقونات لا تنهار تقريباً في عالم المؤسسات الضخمة، تنتهج منهج أن التحسين المستمر يأتي بشكل أساسي من المستويات الأدنى في الشركة، وأن الإدارات العُليــا مُلزمة بتطبيق فرص التحسين التي يقدمها العاملون في الشركة.

 

كمثال، شركة "جنرال إليكتريك" العملاقة، تفرض نظاماً بأن تقوم مجموعات من العاملين بمناقشة فرص التحسين المستمر داخل الأقسام المختلفة أو على مستوى الشركة ككل، ولا يُسمح لمدراء الأقسام بمشاركة هذه النقاشات. فقط يتم رفعها إليهم، ويكونوا هم مُلزمين بإصدرار قرارات فورية بشأن هذه الاقتراحات، بشكل لا يمكّنهم من التهرب أو الاختفاء أو تحاشي المواجهة أو المماطلة!

 

وبالتالي، تكون منهجية التحسين المستمـر غير متوقّفة، لأنها دائماً تأتي من الداخل ولا تأتي بناءً على تقارير فوقية من الإدارة التي عادة تميل إلى الراحة والاستقرار ودراسة الأرقام والإحصائيات ودراسات السوق.

 

التحسيـن المستمر بعيــون أعداءنا!
بوينغ ألزمت نفسها بآلية التحسين المستمر والابتعاد عن منطقة الراحة والركود من خـلال استراتيجية
بوينغ ألزمت نفسها بآلية التحسين المستمر والابتعاد عن منطقة الراحة والركود من خـلال استراتيجية "أن نرى أنفسنا بعيون أعداءنا"

هذه الاستراتيجية المميزة تعمل بها العديد من الشركات الرائدة، وعلى رأسهم شركة "بوينغ" العمـلاقة لتصنيع الطائرات.. بوينغ ألزمت نفسها بآلية التحسين المستمر والابتعاد عن منطقة الراحة والركود من خـلال استراتيجية "أن نرى أنفسنا بعيون أعداءنا". في هذه الاستراتيجية يتم تكليف فريق متخصص من كافة المجالات، دورهم وضع استراتيجيات كما أنهم لو كانوا يعملون لصالح شركة منافسة تستهدف القضاء على بوينغ في السوق!

 

هذا الفريق يطرح الأسئلة طوال الوقت: ما هي نقاط الضعف لدى بوينغ والتي يمكن أن نستغلها؟ ما هي نقاط القوة؟ كيف نبعد بوينغ عن التمدد في هذا السوق؟  كيف سيكون رد بوينغ؟ وهكذا. فريق كامل دوره الوحيد أن يعمـل ويكثف جهوده وطاقاته ضد بوينغ، ثم يقدم كافة هذه التقارير إلى إدارة بوينغ، التي تقوم بدراستها وأخذ الحذر منها والتحرّك وفقاً لما جاء فيها، لأن هذه التقارير هي "أصداء ما يفكّـر فيه المنافسين"!

 

هذه الاستراتيجية تعتبر من أفضل الاستراتيجيات التي تلتزم بها الشركات الكبرى في العالم بهدف التحسين المستمر لخدماتها ومنتجاتها، والابتعاد عن مناطق الراحة.

 

استراتيجيـات أخرى
آلية
آلية "دفتر الهزائم"  كانت آلية بسيطة لكنها مميزة أيضاً، حيث يتم مراجعة الدفتر بشكـل سنوي لمتابعة أرقام المبيعات ومستوى الأداء في المتاجر، ومقارنتها بنفس الأسبوع بالضبط من العـام الماضي

أما سام والتون، المؤسس لمتاجـر "وول مارت" (Walmart) العمـلاقة، كان يستخدم آلية بسيطة أسمها "دفتــر هزائم الأمس"!

 

كانت آلية بسيطة للغاية ولكنها مميزة أيضاً، هذا الدفتـر يقوم بمراجعته بشكـل سنوي لمتابعة أرقام المبيعات ومستوى الأداء في المتاجر، ويقارنها بنفس الأسبوع بالضبط من العـام الماضي، ويجري مقارنة بها. هذا الدفتر البسيط كان يعتبـر حافز تلقائي لدفع مستويات العمل في متاجر وول مارت، وآلية تلقائيــة للتحسين المستمـر اتّبعها قائد الشركة، والتي كانت سبباً حتماً فيما وصلت إليه الآن.

 

شركة "نوردستورم" العريقة التي تأسست عام 1901، توفر دائماً للموظفين من كافة القطاعات أنظمة تدعم التحسين المستمر وتخرج الشركة من منطقة الركود التي ربما تقع فيها بسبب ضخامتها وانتشارها حول العالم. الشركة في إحدى مراحلها كانت تقيس نجاح كل موظف مقارنة بأقرانه بحساب "ترتيب المبيعات في كل ساعة"، وتربط أجر العامل وترقيته بمستوى إنجازه، لا بأقدميّته في الشركة، وهو الأمر الذي كان يجعل الموظف يبتعد تماماً عن الاسترخاء -بمعناه السلبي-، ويسعى دائماً لتحقيق أفضل مبيعات من خلال أفضل جهد ممكن.

 

منطقة الراحة.. منطقـة محظورة
قد تكون
قد تكون "منطقة الراحة" بالنسبة للكثير من الرياديين الشباب في المنطقة العربية حلماً صعب المنال، باعتبار أن المنافسة على أشدها

قد تكون أصلا "منطقة الراحة" بالنسبة للكثير من الرياديين الشباب في المنطقة العربية حلماً صعب المنال، باعتبار أن المنافسة على أشدها وأن الظروف الاقتصادية أصلاً التي تمر بها معظم الدول العربية تؤدي بمعظم المشاريع في التواجد في "منطقة القتال" طوال الوقت.

 

ولكن من المهم جداً بالنسبة لأي صاحب مشروع أن يضع في ذهنه تصوّرات تحمي مشروعه الناشئ من الركود. لا يوجد استراتيجيات معيّنة يمكن إتباعها لتنفيذ مبدأ التحسين المستمر، لأن ما يصلح في مشروعك قد لا يصلح في غيره. ولكن بشكل عام يجب أن تؤخذ في الاعتبار وتكون من قمة الأولويات.

 

إذا كنت صاحب مشروع، أو شريك في بناء أو إدارة شركة، اسأل نفسك دائماً:

ما هي آليات التطوير المستمر التي يمكن تنفيذها لضرب حالة الركود والخمول المحتملة؟

ما هي رؤيتك للمستقبل، وكيف تحسّن الحاضر لتصل إلى هذه الرؤية؟

هل تفهم أنت وكل العاملين في الشركة أن "الوصول لمنطقة الراحة" ليس هدفاً أصلاً، وإنما المطلوب الوصول لمرحلة من الاستقرار تمهّد لك الانتقال إلى مرحلة أخرى؟

هل تفهم جيداً أن "منطقة الراحة" تعني بشكل كامل موجة ركود شاملة، قد تؤدي إلى مشروعك بالاختفاء تدريجياً حتى الزوال؟

باختصار، تذكـّر قصة الحزام الأسود التي أوردناها في بداية التقرير. الحصول على الحزام الأسود لا يعني الراحة والخمول، بقدر ما يعني "بداية مرحلة جديدة".

المصدر : الجزيرة