شعار قسم ميدان

صغيرة فاعلة خير من كبيرة فاشلة.. لماذا يجب أن توقف نمو شركتك أحيانا؟

ميدان - شركة 2222
لا يوجد رائد أعمال أو مؤسس مشروع أو حتى خبير اقتصادي، يمكن أن يجادل بأي شكل، أن "النمو" هو المؤشر الأساسي -والطبيعي كذلك- الذي تستهدفه أي شركة أو مؤسسة أو منظومة مهما كان مجال عملها؛ لأنه -ببساطة- الدليل الوحيد على نجاحها.

 

نمو الشركـات يمرّ بمراحل عديدة شاقة من استنزاف الوقت والمجهود وتعديل الخطط والفشل والمخاطرة؛ حتى تصل الشركة إلى الحد الأدنى من التماسك والصلابة التي تضمن وجوداً راسخاً لها في السوق، ومن ثمّ الدخول إلى مرحلة أخرى من النمو في الحجم والنشاط والتوسّع..
 

ومع نموّ الشركة، وزيادة حمّى المنافسة وتغيّرات السوق، تندفع الكثير من الشركات إلى الدخول تلقائياً في فكـرة "الدمج" والإدارة المركزية لأقسام الشركة، والسعي وراء تضخيم فريق عمـل موحّد يقوم بإنجاز الأعمال بشكل محدد؛ من أجل تقليص التكاليف من ناحية، وتجنّب أي أخطاء من ناحية أخرى..

 

ربما يبدو هذا التوجه طبيعياً وتلقائياً وتنتهجه الشركات للمزيد من الأمان والتوسّع الظاهري. ولكن بمرور الوقت، بات واضحاً أن هنـاك مشكلة حقيقية في مفهوم نمو الشركات قد تؤدي إلى عرقلة نجاحها وليس استمراره كمـا هو مفترض..
 

النمــوّ قد يهدد الكفـاءة!

undefined

تمرّ الشركات بمراحل مختلفة من النموّ، تبدأ كناشئة، ثم تتطوّر وتحجز مكانها في السوق، ثم مرحلة التوسّع إلى أن تتحول إلى منظومة كبـرى متعددة الأنشطة والاتجاهات.
 

كل مرحلة من هذه المراحل تأخذ سنوات، وكل مرحلة من هذه المراحل يظهر معها زيادة عدد الموظفين والأنشطة والمبيعات والأسواق، وبالتالي تظهـر أيضاً مجموعة من التحدّيات، مثل أزمات في القيادة، وأزمات في التواصل بين الموظفين، وأيضاً أزمات تمتد لمنهجية صنع القرار والتواصل بين المدراء داخل الشركة.
 

ومن أهم هذه الأزمات على الإطلاق، بدء شعور الموظف العادي بالغربة من فكـرة التسلسل الهرمي الضخم؛ حيث يبدأ في الشعور -ومع نمو الشركة المُطرد- أنه مُجرّد صخــرة صغيـرة في هـرم ضخم، لا أهميّة لوجوده إن استمــر متصلاً به، أو تم نزعه من مكانه!
 

وبالتالي -وهذا حتمي- ينعكس هذا النمو على "كفاءة" الموظف العادي بشكل واضح تماماً.الكثير من الشركات تصبح متصلّبة بعد أن تكبـر في الحجم ويتوسّع نشاطها التجاري. وهو أمـر أصبح معروفاً منذ فترة طويلة، وليس أمراً مُستجداً في عالم الإدارة. (1)
 

بمعنى آخر، النمو المتسارع للشركات، هو حتماً أمر مطلوب وعظيم خصوصاً في مراحلها الأولى؛ إلا أنه قد يتحوّل بمرور الوقت إلى ما يشبه السرطان الداخلي، قد يؤدي إلى تآكل الشركة داخلياً وخارجياً. لذلك، من أفضل الأمور الإدارية التي ظهــرت بتطوّر مفاهيم ريادة الأعمال تحديداً، وتحوّل الشركات الناشئة إلى شركات عملاقة في السنوات العشـر الأخيــرة، هو مبدأ: التوسّع مع البقــاء صغيــراً Growing without Getting Big) 1). 
 

الصغيــر أفضـل
تنتهج شكرة
تنتهج شكرة "ثري أم" مبدأ أنه كلما زاد حجم وحدة إنتاجية ما عن درجة معينة؛ فإنها تنقسم تلقائياً إلى مجموعة من الوحدات الفرعية (مواقع التواصل)

الاتجاه العالمي الحالي لإدارة الشركات يميل إلى مبدأ (تصغير الحجم Downsizing)، عن طريق بناء نظـام يتمركز حول "مجموعات صغيـرة" يمكن إدارتها بأسلوب أكثر مرونة. بعض الشركات تتحدث عن هذا الاتجاه باعتباره "استنساخا" كطريقة في النمو، وبعض الشركات تسمّي هذا الأسلوب "تقطيع" الشركة إلى قطع مختلفة، يجعلها لا مركزية، وتكون المُحصّلة في مصلحة الشركة ككل.
 

بغض النظـر عن الكلمة المستعملة التي تصف هذا الاتجاه؛ فالمبدأ واحد في جوهـره:

إعادة هيكلـة الشركة الكبيــرة وتحويلها إلى وحدات صغيرة ذاتيّـة الإدارة، تركّــز على أنشطة معينة للمنتج أو الخدمة، وفي نفس الوقت مرتبطة بالشركة الأم من خلال قيم مشتركة تضمن التماسك للكيان الكلّي.
 

في كتاب (البحث عن التميز In Search of Excellence) (2) الذي حاز أعلى المبيعات، وتمت إعادة طباعته عدة مرات باعتباره من أهم الكتب التي سلطت الضوء على طرق إدارة الشركات، أبرز الكاتب مجموعة من النماذج للشركات الأمريكية التي اتّبعت هذه الطريقة، للهـروب من مأزق النمو المُطرد تحت إدارة مركزية موحّدة.
 

أبرز هذه الأمثلة شركـة "ثري أم" (3M) الأمريكية العمـلاقة، التي كانت وما زالت تعتبـر إحدى أهم أمثلة الإبداع والابتكار في الصناعة الأمريكية. الشركة تنتهج مبدأ أنه كلما زاد حجم وحدة إنتاجية ما عن درجة معينة؛ فإنها تنقسم تلقائياً إلى مجموعة من الوحدات الفرعية.
 

هذه الوحدات الصغيـرة تكون إدارتها أكثر سهولة، أمامها مجال أوسع للكفاءة في الإنتاج، طاقمها الصغير يكون قادرا على استيعاب نظام العمل بشكل أوضح، وأيضاً تتمتع باستقلالية ومرونة كبيرة؛ حيث يظل العامل الفرد جزءا رئيسا من تلك المنظومة، وبالتالي فرصة أكبر لاكتشاف المواهب المميزة بين الفريق.
 

شركة مكوّنة من مجموعة شركات صغيـرة

"نحن في جوهرنا نتألف من شركات صغيـرة جداً"

هذه المقولة جاءت على لسان فرانك ستروناتش، رئيس مجلس إدارة شركة ماغنـا العالمية الكنديّــة، والتي تعتبر مثالاً توضيحياً مهمـا لمفهوم إدارة نمو الشركات التي تضعه كافة المؤسسات العالمية في حسبانها اليوم.
 

فرانك ستروناتش، رئيس مجلس إدارة شركة ماغنـا العالمية الكنديّــة (رويترز)
فرانك ستروناتش، رئيس مجلس إدارة شركة ماغنـا العالمية الكنديّــة (رويترز)

هذه الشركة الضخمة التي تأسست في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، ويعمل لديها الآن حوالي 152 ألف موظّف، وتحقق أرباحاً مليـارية هائلة، وتعتبر واحدة من أكبر الشركات الكنديّة العالمية، كانت -وما زالت- تعمـل بأسلوب: التوسّع مع البقاء صغيـراً.

دائماً كانت شركة ماغنا تستهدف الانقسام الذاتي السريع كلمـا تزايد عدد الموظفـين العاملين لديها، وفق استراتيجية إدارية لا تتزعزع. الحديث هنا ليس عن إنشـاء أقسام أو وحدات عمل جديدة فقط، بقدر ما هو "إنشاء مصانع صغيرة جديدة" تستوعب زيادة الطلب في الأسواق من ناحية، وزيادة إعداد العمّال والموظفين من ناحية أخرى.
 

لذلك، تم صياغة استراتيجية ماغنـا العالمية بخصوص حجم شركاتها وقطاعاتها على مبدأ:

"حين يكون لديـك ألف عامل في مصنع ما، يصبح كل منهم مجرّد رقم بلا أهمية. وهذا في أساسه لا يتفق إطلاقاً مع النفس البشرية التي تسعى دائماً للظهور والتميّـز" 

أما شركة "جونسون آند جونسون" العمـلاقة العريقة، فالواقع أنها من أكثر الشركات الضخمة التي استطاعت أن تواجـه "أزمة العمــلقة" إن جاز التعبير، من خلال تقسيـم هذه المؤسسة الهائلة إلى عدد ضخم من القطاعات المحدودة والتي تدرّ عليها بشكل جماعي ما يزيد عن 5 مليارات دولار سنوياً.
 

جونسون آند جونسون تحصد هذه الأرباح العملاقة سنوياً من خلال أكثر من 150 قطاعاً كبيراً، كل قطـاع يكوّن ما يشبه شركة متوسطة الحجم؛ يتراوح حجمها مابين 30 إلى 50 مليون دولار. وبداخل كل قطاع، مجموعة من القطاعات الفرعية الأصغر، الأمر الذي حوّلها إلى خلية نحل هائلة تضم آلاف الخلايا الصغيرة بداخلها.
 

هذه الحالة عبّر عنها نائب رئيس المبيعات في الشركة قائلاً:

"نحن نعمل في جونسون أند جونسون كما لو كنا مجموعة من الشركات الصغيرة، الأمر الذي يجعل الشركة دائماً عرضة لإعادة التنظيم المستمر بداخلها، وإعادة تقسيمها لمرات عديدة، ما يعني المزيد من إبداع الموظفين والمزيد من البحث عن عملاء جدد" (2)
 

ابتسامات الموظفين تتلاشى كلما زاد عددهم

undefined

بيل غور، رجل الأعمال الأمريكي الشهير الذي رحل عن عالمنا في منتصف الثمانينيات، كان من استراتيجيّته الدائمة أن يقوم بتأسيس مصنع جديد ينضم لمؤسسة (W.L.Gore) التي يملكها، كلما وصل عدد الموظفين في أحد المصانع إلى 200 موظف؛ لأنه لاحظ أن الابتسامة تبدأ في التلاشي على وجوه الموظفين كلما زاد عددهم عن هذا الرقم.

كان بيل غـور يؤمن تماماً أنه إذا أبقى الوحدة صغيـرة؛ فإنه سوف يجعل كل موظف وكل آلة وكل عامل يشعر بقيمته وأهميته في المكان، وإذا تركـه يكبر أكثر ممّا ينبغي؛ فإن ذلك الشعور بالأهمية سوف يتناقص، وأيضاً تبدأ شبكة من الروتينية البيروقراطية تغزو الشركة، ما يجعل النمو الذي تحققه محدوداً، مهما كان كبيراً على الورق.
 

هذه الاستراتيجية تسير عليها كافة الشركات تقريباً التي تنمو نموّاً سريعاً. شركة موتورولا لديها قاعدة تقول إن المصنع عندما يزداد عدد الموظفين فيه عن 1500 عامل؛ فإن الأمور تبدأ في التدهور، ويجب أن يتم تأسيس وحدة أخرى تعمل جنباً إلى جنب مع المصنـع القديم.
 

أما شركة جنرال موتورز الأمريكية العمـلاقة فمن ضمن قواعد التوظيف لديها أن لا يزيد عدد العمال في أي مصنع من مصانعها عن الألف عامل. (3)
 

هل هذا التصوّر صالح مع الشركات الناشئة؟

undefined

 

الشركات الناشئة -في بداية انطلاقها- تكون مؤلّفة من عدد محدود للغاية من العاملين فيها، وهو ما يجعل هذه القاعدة غير ممكنة خصوصاً في المراحل الأولى لنمو الشركة. ولكن من الضروري بالنسبة لرائد الأعمال أن يضع في اعتباره هذا المعنى الإداري شديد الأهمية بخصوص "حجم المؤسسة" خصوصاً مع بدء تنامي نشاط شركته وتوسّعها، أو حصولها على تمويل كبير يسمح لشركته أن تتوسع في الأنشطة والإجراءات التي تتخذها، وبناء فريق عمـل واسع.
 

من المهم والجوهري بالنسبة لروّاد الأعمال التركيز على مبدأ التصغير (Downsizing) لشركته بالتقسيم المستمر لفرق العمـل أو المشروعات المختلفة، وأن يتم التخلي بشكل تدريجي عن المركزية في اتخاذ القرارات وإدارة المشروعات كلما تضخّمت الشركة وتعددت أنشطتها، مع الحفاظ على الحد الأساسي من الترابط بين أقسام وفروع الشركة وإدارتها المركزية.
 

ومع ذلك، يجب أن تراعي أن هناك بعض الرؤى الإدارية تعترض بشدّة مع هذه الاستراتيجية وتعتبرها لا تتماشى مع النظرة الاقتصادية الضيّقة التي تقول إن دمج الأقسام والمصانع والوحدات له فعالية أكبر وتكلفة أقل على المدى القصير، وهذا صحيح إذا تم النظـر للمشروع من ناحية تكاليف مالية فقط.

أما على المدى البعيد؛ فمن المؤكد أن تجزئة الأعمال تؤدي إلى نتائج متميزة من حيث جودة العمل وتطويره وبناء الفريق واكتشاف المواهب المبدعة بشكل أكبر وأفضـل. تذكّر دائماً أثناء إدارتك لشركتك الناشئة أن مبدأ "المجموعة الصغيرة تعمل بشكل أفضل" هو الأساس الذي يضمن أن يكون كل موظف صغيـر في أي قطاع من قطاعات الشركة لديه المساحة الكافية للإبداع والشعـور بالمتابعة المُستحقة من الإدارة، وليس مجرّد رقم على الورق.

المصدر : الجزيرة