شعار قسم ميدان

هل ستجعلنا الآلات بلا وظائف؟.. محاضرات تيد تجيبك

midan - تيد اكس
ستتفوق الآلات على البشر، هذا ما أوردته دراسة أجرتها جامعة أوكسفـورد وييل، حيث من يتوقع تفوقها على الإنسان في ترجمة اللغات بحلول عام 2024، وكتابة مقالات مدرسية في عام 2026، وقيادة الشاحنات في عام 2027، والعمل بتجارة التجزئة في عام 2031، بل ومن المتوقع أن يصل الذكـاء الاصطنـاعي إلى إمكـانية كتابة واحد من أفضل الكتب مبيعا بحلول 2049، وإجراء الجراحات في عام 2053! (1)

 

لذلك، ربمـا أكثر ما يثير المخاوف الآن، قبل المخاوف من احتمالية سيطرة الذكاء الاصطناعي على البشر، هو حتميـة سيطرة الآلات على الوظائف، وما سيتلو ذلك من تغيير هائل في تركيبة العالم الاقتصادية والاجتماعية. البعض يقول إن ثمة أزمة حقيقية في الأفق، بينما البعض الآخر يؤكد أن الذكـاء الاصطناعي سيساهم في خلق وظائف أكثر من الوظائف التي سيلغيها. وبين تكهنات الفريقين، يطـرح الخبراء على مسرح "تيد" مجموعة من المحاضـرات التي توضّح مستقبل "التوظيف" في المستقبل القريب.

 

كيف سنجني الأموال في مستقبل بلا وظائف؟

  

يبدأ "مارتن فورد" محاضـرته مقررا حقيقـة لا تقبل الجدال أو النقاش: الآلات قادمة، الآلات ستحتل الكثير جدا من الوظائف بدلا من البشر، الآلات ستقوم بعمـل مهام اعتاد البشر على عملها قرونا طويلة. هذه الحقيقة لا تشمل فقط العالم المتقدم، وإنما ستمتد أيضا لتشمل كل دول العالم بما فيها دول العالم الثالث، وستصبح حقيقة فاعلة بشكل كامل في الاقتصاديات العالمية خلال العقود المقبلة. سيكون الأمر أشبه بالهواتف الذكية والإنترنت، كل العالم يستخدم الهواتف الذكية والإنترنت.

 

النتيجة المباشرة لهذه المعلومة هو أن البشر سيفقدون ملايين الوظائف فعلا، أو هكذا يفتـرض مارتن فورد. الأمر يشبه كثيرا نفس قلق العمّال التقليديين عندما بدأ عصر التشغيل للآلات في المصانع، وهو ما أدّى إلى تناقص عدد العمال المسؤولين عن الإنتاج الصناعي وإن استمر وجودهم للمتابعة والمراقبة في بعض الوظائف.

 

على مسرح "تيد"، وعبر محادثة شوهدت أكثر من مليون و800 ألف مشاهدة يطرح مارتن فورد مجموعة من الأفكار بخصوص طرق ومسارات جني الأموال في مستقبل سينخفض فيه الاعتماد بشكل كبير على القوى البشرية العاملة، ويحل محلها الاعتماد على الآلة والذكاء الاصطنـاعي، فهل يجب أن نقلق، أم أن العالم في طريقه إلى خلق أنظمة مختلفة لجني الأموال في ظل صعود الآلة؟

 

الوظائف التي سوف نتركها للآلات.. والوظائف التي لن نتـركها

  

"هذه بنت أخي.. لطيفة أليس كذلك؟ اسمها ياوي، عمرها تسعة أشهر، والدتها طبيبة وأبوها محامٍ.. في الواقع، الوقت الذي  ستذهب فيه ياوي إلى الكلية ستكون وظائف والديها قد اختلفت بشكل كبير.. أو ربما اختفت! في عام 2013، قام باحثون في جامعة أوكسفورد بعمل دراسة حول مستقبل العمل، وكانت خلاصة الدراسة أن وظيفة من كل وظيفتين تقريبا معرّضة لخطـر الاستبدال بالآلات!".

 

في محاضـرته التي أُلقيت في عام 2016 وتعتبر من أكثر محاضرات "تيد" شهـرة حيث حققت أكثر من مليوني مشاهدة على المنصة الرسمية للموقع، يطرح أنتوني غولدبلوم محادثة هي مزيج من جرس إنذار من ناحية وشعور بالانبهار من ناحية أخرى. الكثيرون يتفهمون حتى لو كان تفهمهم هذا بالكثير من الضيقأن الآلات ستحتل بعض الوظائف الضرورية في المستقبل، ولكن ربما لا يتوقع البعض أن الآلات قد تتدخل في أكثر وظائف البشر حساسية. التشخيص الطبي مثلا، أو ربما مراجعة المقالات!

 

ومع ذلك، يذكـر غولدبلوم بُعدا آخر لن تتمكن الآلات أو الذكاء الاصطناعي من الاقتراب منه في المستقبل، وهي الوظائف الإبداعية. الوظائف التي يخلقها الإنسان بعقله وملاحظته والتي من الصعب أن تصل إليها الآلات مهما غُذّيت من معلومات وبيانات. لن تستطيع الآلات أن تبتكـر حملة تسويقية ناجحـة إبداعية محضـة طالما لم تُغذَّ بذلك. ولن تستطيع الآلات أن تلاحظ نتيجة جانبية لتجـربة معملية قد تجعلها تصل إلى نتائج أخرى، مثل معظم اختراعات البشرية.

 

إذن، الوظائف التقليدية القائمة على التكـرار بحسب تصوّر المتحدث ستأخذها الآلة. الوظائف غير التقليدية القائمة على التجديد والإبداع، لن تستطيع انتزاعها من البشر. ربما أهم ما في هذا الطرح هو أن يضمـن أبناء الجيل الحالي أن يحصلوا على وظائف إبداعية غير تكـرارية، وإلا قد ينافسهم في وظيفتهم آلة ما أو نظـام كمبيـوتري متطور!

 

كيف ستكـون وظائف المستقبل؟

   

بدأ أندرو ماكفي -عالم الاقتصاد- محاضـرته التي ألقيت في فبراير/شباط 2013، وحققت حتى الآن أكثر من مليوني مشاهدة، بدأها بنزعة تفاؤلية. كاقتصـادي، يقـر أندرو ماكفي أن حتمية دخول عصر الآلة المتعلّمة لمجال الوظائف غير قابلة للشك أو التأخير، حتى لو حاول قادة العالم تأخير هذه الحـركة لضمـان تأمين أسواق الوظائف. الآلة قادمة لا محالة، وقدومها هذا ليس شرا عظيما، بل هو أعظم ما حصل للبشرية منذ بداية الوعي البشري حتى الآن.

 

يقول في أحد أجزاء محاضرته:

"لمدّة 200 سنة، كان النّاس يتهمون التكنولوجيا أنها مسببة للبطالة منذ بدء تطبيقها في بريطانيا والعالم، واتضح طوال الوقت أنهم كانوا مخطئين. اقتصاديّاتنا بالبلدان المتقدّمة استفادت من التّشغيل الكامل للتقنية. ممّا يجعلنا نطرح سؤالا مهمّا: لماذا الأمر مختلف ومثير للقلق هذه المرة عندما نتحدث عن الآلة مرة أخرى وأثرها في السوق والاقتصاد؟ نعم، السبب في اختلافه هو أنّ الآلات قد بدأت تكشف في السنوات الأخيرة عن إمكانيّات لم تكن تمتلكها مطلقا في السابق: الفهم، التحدّث، الاستماع، الرّؤية، الإجابة، الكتابة، ولا تزال بصدد اكتساب مهارات جديدة".

 

في هذا الإطار الحتمي، تجبـر حركة التطور البشري البشر أنفسهم على تخليق وظائف جديدة في قطاعات مختلفة تعمل بالتوازي مع القطاعات التي ستحتلها الآلات. هذه الحركة ستحمل تقدما مهولا للبشرية قد يسارع بشكل مذهل حركة تقدمها مقارنة بكل القرون الماضية، حيث سيتفرغ البشر حتما في المجالات الأكثر إبداعية، سيزداد وعيهم بالتأمل، سيبتعدون عن مخاوف الأخطاء العابرة مثل تشخيص الأمراض والوظائف المملة، وسيصبح لهم مجال أكبر مفتوح في صناعات الترفيه والإبداع وخلق الأفكـار وفلسفتها.

 

بمعنى آخر، يرى ماكفي أن الوظائف في المستقبل ستتغير تماما لكنه تغيّر إيجابي، وليس بالضرورة وجود روبوت آلي في استقبالك أثناء دخولك أحد المطاعم أنه قد استلب وظيفة أحدهم. في الواقع هو استلب الوظيفة "المعتادة" لأحدهم، وترك له فرصة العمل في وظيفة أكثر إبداعية سيخلقها السوق له دون شك.

 

الآلات لن تأخذ كل الوظائف.. بل ستوفّر الوظائف!

  

في عام 1970، اعتُمدت ماكينة الصرف الآلي عالميا باعتبارها أهم ظهـور آلي لسحب الأموال والتعامل البنكي والمصرفي على الإطلاق. عندما أُطلقت هذه الخدمة كان المتوقع وقتئذ أنها بداية نهاية الموظفين داخل البنوك، باعتبار أن كل العملية مؤتمتة ولا تحتاج إلى عامل بشري. لكن المدهش، وبقدوم عام 2000 رُصدت زيادة تقدر بالضعف، من ربع مليون موظف إلى نصف مليون موظف مسؤول عن الصرافة في البنوك في كامل الولايات المتحدة تقريبا.

 

هذه الأرقام كان من الطبيعي أن تُثير علامة استفهام ضخمة: لماذا ما زال هؤلاء الصـرافون في البنوك يحتلون وظائف رغم أن الصراف الآلي قيد التفعيل؟ بل لماذا لم يتناقص عددهم إلى النصف بدلا من الزيادة إلى الضعف؟! بدا هذا التطور غير منطقي على الإطلاق، لكن تفكيـك هذه المعضلة ينطلق دائما من المحرك الذي يندفع عبره مفهوم الاقتصاد الإنسـاني: الإبداع والعبقرية من ناحية، والجشع للمال بلا حدود من ناحية أخرى. لذلك، كان تفعيل الصراف الآلي متوازيا مع الاندفاع الهائل لافتتاح فروع جديدة للبنوك، مما عوّض نقص الموظفين في بنوك بعينها، بزيادة عددهم في افتتاح بنوك أخرى.

 

في هذه المحاضـرة التي ألقيت على مسرح "تيد" كامبردج في سبتمبر/أيلول عام 2016 بواسطة الاقتصادي ديفيدو أتوتر، يركز فيها المتحدث على مفارقة أنه كلمـا ازداد الاعتماد على الآلة، زادت فرص العمل الوظيفية للبشر أصلا بالتوسع في إنشاء المزيد من الأعمال لكسب أماكن جديدة في الأسواق. بمعنى آخر، وفقا لطـرح هذه المحاضرة من المفترض أن يشهد المستقبل المزيد من فرص العمل وليس نقصا لها، وأن المستقبل سيحتوي تضخما أكبر في المجالات الوظيفية المتعددة حتى مع بزوغ عصر الآلة.

 

أزمة العمـالة في عام 2030

  

"نملك نحن الألمانيون سمعة معروفة في العالم عندما يتعلق الأمر بالإنتاجية.. في التسعينيات، عملت سنتين تقريبا في بوسطن، وعند رحيلي، أخبرني شريك كبير هناك بالحرف: أرسل لي المزيد من الألمانيين، إنهم يعملون كالآلات! (ضحك) كان ذلك سنة 1998.. بعد مرور سنوات عديدة، وبدخول عصر الذكاء الاصطنـاعي، أرجّح أن هذه المقولة سوف تنقلب قريبا إلى: أرسلوا لنا المزيد من الآلات، إنهم يعملون كالألمـانيين! (ضحك)"

 

في الوقت الذي ارتبط فيه عام 2030 برؤى اقتصادية طموحة في بعض الدول العربية، فإن الأرقام تؤكد أن ثمة أزمة عمّالية ضخمة تظهر في الأفق في ذلك العام. في هذا العام، وبناء على أرقام الاقتصاديات العالمية الحالية سيكون هناك عدد هائل من الوظائف أكثر من عدد المواطنين المتاحين لشغلها. هذه الحقائق ستكون في الدول ذات الاقتصاديات الضخمة في أوروبا وأميركا واليابان والدول المنتجة، مما يعني ضـرورة حتميـة لهذه الدول بالعمل على البحث عن بدائل لردم هذه الهوّة لديها، وتشغيل مصانعها ومكاتبها وخدمـاتها بالكفاءة نفسها.

 

سبب الأزمة أن ثمة انهيارا مخيفا في معدلات المواليد والشباب في العديد من دول العالم المتقدم، وهو ما سيطرح في المقابل تحركا في اتجاهين، إما التوسّع في استضافة المهاجرين ذوي الكفاءة وتشغيلهم في تلك الدول، وإما التركيز على الاستعانة بالآلات لتحل محل البشر في كل الوظائف التي سيحدث تناقص للبشر في شغلها. في الحالتين، الأمور تشير إلى أن هناك أزمة صناعية/اقتصادية/اجتماعية في الأفق، فهل من الأفضل الاستعانة بمهاجر بشري لشغل الوظيفة أو الاستعانة بآلة لإتمام الوظيفة بالكفاءة نفسها؟

 

المحاضرة حققت أكثر من مليون ونصف مشاهدة ألقاها الألمـاني "رانير شتراك" خبير الموارد البشرية الذي لخص فيها أن الأزمة المقبلة من وجهة نظره ليست في تدنّي عدد الوظائف، ولكن الأزمة في تفضيـلات شاغلي هذه الوظائف لصالح الدول والاقتصاديات وحركة التطور البشر.

 

كيف تبني شركة "إنسـانية" في عصر الآلات القـريب؟

  

الأمر شبه منتهٍ، خلال العشـرين عاما المقبلة من المتوقع أن تُستبدل نصف القوى البشرية العاملة ببرامج محوسبة وأجهزة آلية. وبالطبع الكثـيرون من مديري الشركات الكبرى يرحبون بشدة بهذه الفكـرة باعتبارها وسيلة مباشرة لزيادة الأرباح وتكثيف الإنتاج أكثر بكثير من البشر، فضلا عن سهولة إدارة الآلات أكثر من البشر أيضا. ومع ذلك، ينسى الكل أو يتنـاسى أن الآلة قد تكون أكثر إنتاجية بالفعل، ولكنها "أقل جمالا" بكل ما يعنيه الجمال البشري من معانٍ وتنوّع واختلافات.

 

في هذه المحاضرة يركز المتحدث تيم ليبرتشت المتخصص في مجال الإنسـانيات في وادي السيليكون على وصفـة مكوّنة من أربعة محاور يمكنها أن تضمن بيئات أعمال عظيمة في مستقبل يعج بالآلات والأنظمة المحوسبة التي ستكون أكثر إتقانا للعمل بلا شك ولكنها أقل آدمية. أطلق عليها المتحدث اسم "رومانسية العمل"، أي محاولة تصميم مؤسسات وبيئات أعمال تحتفي بالأصالة الإنسانية جنبا إلى جنب مع الوجود الآلي الجاف.

 

افعلوا الأمور الإنسـانية حتى لو لم تكن ضـرورية أو مبررة، اخلقوا حالة من الود الدائمة، اجعلوا جزءا من المكان قبيحا حتى يحمل طابعا إنسانيا بعيدا عن تنميق الآلة، وافعلوا ما تجدونه مناسبا لخلق بيئة دافئة في العمل. أربع ركائز أساسية يقتـرحها المتحدث بهدف إنشـاء "شركة إنسـانية" في عصر قريب يبدو أن الآلات والأنظمة سيكون وجودها مساويا للوجود البشري إن لم يكن زائدا عليه.

 

في النهاية، يمكن القول إن الآلات والأنظمة الحاسوبية ذات الذكاء المتفوّق قادمة لا محالة، وأن قدومها لا يمكن مواجهته والتصدي له سوى بالإذعان له باعتبار أن العالم كله يتحرّك في هذا الطريق. ومثل أي شيء آخر، سيكون له مزاياه في تحسين هائل لمستويات الحيـاة الإنسـانية كما لم نعهدها من قبل، وفي الوقت نفسه سيؤثر حتما على تناقص "وظائف معيّنة" واختفـائها، خصوصا ذات الطابع التكـراري، مفسحا المجال لخلق المزيد من الوظائف الإبداعية.