شعار قسم ميدان

هل الزمن وهم؟

time - هل الزمن وهم
من صفات الزمن الإتجاهية، فهناك الماضي "الأحداث الملقاة في غياهب الطفولة والمراهقة"، وهناك "الآن"، تلك اللحظة التي تحدث "حالا".
حسنًا، من أين نبدأ حينما نود أن نتحدث عن الزمن؟، إنه ذلك الكيان العجيب الذي نتابعه يستمر فلا نعرف "أين هو؟"، هل يمر بداخلنا؟ خلالنا؟ ينبع من نقطة ما هناك في العمق؟ هل يمر فوقنا أو أسفلنا؟ حينما تدق الساعة وينبض القلب وتتحرك خطواتنا نحو بدايات جديدة في الحب أو العمل الممل نسأل: هل يتواجد هذا الشيء بشكل منفصل خارج العالم ليصبح كنهر يجري بينما نحن السفن والقوارب؟ أم أنه فقط هو طريقتنا كبشر للتعبير عن شيء ما؟ ربما للتعبير عن وجودنا ذاته؟

في كل الأحوال، دعنا نترك التفلسف جانبا ونبدأ في تعلم القليل عما يعرفه العلم عن الزمن، ربما قد يساعدنا ذلك في فهم أهم الأشياء في حياتنا وأكثرها غموضا، يمكنك أن تنزل للشارع الآن فترى الجميع ينطلق من نقاط لنقاط أخرى بشكل يعتمد بالكامل على الزمن، فأنت تذهب من العمل للمنزل، أو من التمرين للقاء الأصدقاء، أو من الجامعة لمساق اللغة الألمانية بأحد المراكز، تتمحور حياتك حول كل تلك المواعيد وتود دائما أن تنضبط فيها قدر الإمكان بلا أي تأخير، لكنك في النهاية تتعامل -وجميع البشر- مع الزمن كسهم منطلق للأمام منتظم منفصل عن ذاتك يقع "هناك" في الخلفية.
 

مسرح نيوتن
 

كان ذلك هو تصور نيوتن عن الزمن، إذا كان الكون هو مسرح ضخم فإن قطع الديكور الثابتة وأرض المسرح في الخلفية هي الزمان والمكان بينما يتحرك أبطال المسرحية وتتشابك أحداثها بشكل منفصل تتحكم فيه قوانين نيوتن للحركة، خلال تلك الأحداث يتفق1 الممثلين في مسرح نيوتن على ثلاثة نقاط أساسية:
 

  • ترتيب أحداث المسرحية، فالحدث "س" -وليكن لحظة فتح ميّ للصفحة الأولى من رواية "على ونينو" في الإسكندرية – يمكن أن يتم في أي وقت يشاء، لكن أبطال المسرحية سوف يتفقون جميعا على أن هذا الـ "س" قد حدث قبل أو بعد أو بالتزامن مع "ص"- وليكن لحظة ذهاب عبد الرحمن إلى البلكون لمتابعة النجوم في القاهرة، فلا يمكن مثلا أن يتفق مجموعة من الممثلين على أن "س" حدث أولا وتختلف مجموعة أخرى مع ذلك الرأي لتقول أن "ص" حدث أولا ثم يقول آخر أن كل من المجموعتين خطأ، لقد "حدثا في نفس الوقت".
     
  • الفواصل الزمنية بين الأحداث، وذلك -هو الآخر- أمر يبدو بديهيا، فساعة تمر عليك نائما في المنزل لا تختلف عن ساعة يقضيها صديق مقرب على الطائرة أو ساعة يقضيها رائد فضاء في مركبة منطلقة الآن إلى المريخ. سوف تتفق مع صديق للقاء في مطعم ما عند السابعة، ويمكن لكل منكما اتخاذ طريق مختلف أو وسيلة مواصلات بسرعة مختلفة عن الآخر لكنكما سوف تصلان في السابعة معا.
     
  • الفواصل المكانية بين الأحداث، بمعنى أنني سوف أقيس المسافة التي أقطعها للمنزل يوميا كعشرة كيلومترات، هي نفس المسافة التي سوف يقيسها شخص آخر ثابت أو متحرك بسرعة مختلفة عن سرعتي.
     

حتى ذلك الحد كانت هناك ساعة واحدة للكون كله، ساعة منضبطة، منفصلة عن الوجود، منتظمة الحركة، مرتبة الأحداث على كل النطاقات، ينساب الوقت في اتجاه واحد ويتطور الكون بأبعاده الثلاثة خلاله، استمرت تلك الفكرة كقاعدة في خلفية الفيزياء حتى جاء ألبرت أينشتين في مقدمة القرن العشرين ليضع النظرية النسبية التي تحطم -حرفيا- هذا المفهوم، لكي نفهم ما يقصده أينشتين بقوله أن "الفاصل بين الماضي، الحاضر، والمستقبل هو وهم عنيد مستمر" دعنا نتعلم القليل عما يعنيه زمن النسبية.
 

مفارقة التوأم: كلما ازدادت سرعتك لتقترب مثلا من سرعة الضوء يتباطئ الزمن في الساعة خاصتك فتمر عشر دقائق عليك بينما تمر خمس ساعات على صديق يتواجد على الأرض.

الكون كقطعة من الكيك

تنطلق النسبية من نقطة ارتكاز أساسية وهي ثبات سرعة الضوء في كل الأطر المرجعية، بمعنى أن كل الراصدين مهما اختلفت سرعاتهم سيقيسون سرعة الضوء بنفس القيمة: 300 ألف كم/ث. كانت تلك الكارثة كفيلة بإزالة قداسة الزمن والمكان النيوتني لإضفائها على هذا الثابت الجديد، سرعة الضوء، فلكي نحافظ على قوانين الفيزياء صحيحة في كل الأطر المرجعية سوف نضطر إلى التلاعب في قيم كالزمن والمسافة بين الأحداث، إذا كان مسرح نيوتن الخشبي متكون من الزمن والمكان، فإن تلك الخلفية الثابتة في مسرح أينشتين هي سرعة الضوء.
 

كلما ازدادت سرعتك لتقترب مثلا من سرعة الضوء يتباطئ الزمن في الساعة خاصتك فتمر عشر دقائق عليك بينما تمر خمس ساعات على صديق يتواجد على الأرض، انها مفارقة التوأم الشهيرة، كذلك سوف تنكمش المسافة بينك وبين النجم/الكوكب/ أو أيا كان ما تود زيارته فتصبح خمس سنوات ضوئية مثلا بدلا من 15، ويؤدي بنا ذلك إلى نتيجة مفادها أن لكل راصد في الكون زمن خاص به يتعلق فقط بسرعته، ولا يمكن لراصدين يتحركون بسرعات مختلفة أن يتفقوا على الوقت في ساعة كل منهم بهم أو المسافات التي يقطعها كل منهم.

مفارقة التوأم الشهيرة، تذهب الأخت في رحلة بسرعة قريبة من سرعة الضوء لتعود فتجد أن أختها قد أصبحت عجوزة بينما لازالت هي في عمر الشباب (الجزيرة)
مفارقة التوأم الشهيرة، تذهب الأخت في رحلة بسرعة قريبة من سرعة الضوء لتعود فتجد أن أختها قد أصبحت عجوزة بينما لازالت هي في عمر الشباب (الجزيرة)

الأغرب من ذلك أنه في بعض الحالات2 لا يمكن لكل الراصدين الإتفاق على ترتيب الأحداث، فيكون "س" قبل "ص" عند مجموعة منهم، والعكس عند مجموعة أخرى، هنا قد يكون "ماضي" راصد ما قد يكون "مستقبل" راصد أخر، و"حاضر" أحدهم قد يكون "مستقبل" أخر، لتحقيق فهم أفضل لتلك الفكرة دعنا نسأل: هل هناك أي شيء يتفق حوله الراصدين؟
 

نعم، انه ما نسميه الفاصل الزمكاني Space-time Interval، وهو يساوي -بتبسيط مخل3– الفاصل المكاني بين حدثين مطروحا منه الفاصل الزمني بينهما، يشبه الأمر أن تعطي أحدهم ثلاث قطع حلوى في الصباح وتعطي رفيقه خمس قطع، ثم في المساء تعطي الأول خمس قطع والآخر ثلاثة، قد يختلف كل منهم حول عدد القطع في الصباح والمساء لكن في نهاية اليوم يتفق الجميع على رقم واحد: 8 قطع. بالمثل، قد يقيس كل من الراصدَين مسافات وأزمنة مختلفة بين الحدثين "س" و "ص"، لكنهما حينما يدرجا تلك النتائج في معادلة الفاصل الزمكاني يحصلان على نفس القيمة مهما اختلفت سرعاتهم.
 

جميل جدا، لكن كون ماضي أو مستقبل حدث ما هو حاضر آخر -مثلا- يدفعنا لتساؤل شديد الأثر عن معنى ذلك، كيف يكون "مستقبل" ما أو "ماضي" ما "حاضرين"؟ هنا يظهر على خشبة المسرح هيرمان مينكوفسكي فيقول أنه بدلا من اعتبار أن الكون له ثلاثة أبعاد تتطور في الزمن، يصبح الكون كاملا هو نسيج رباعي البعد متكون من فضاء رياضي تتجمع فيه الأبعاد الثلاثة مع الزمن كبعد رابع، لكن هناك مشكلة كبيرة: أين ذهب الزمن؟

دعنا نتصور تاريخ الكون كاملا من لحظة الإنفجار الكبير كقطعة كيك ضخمة، كل شريحة نقطعها من هذه القطعة تمثل الكون كله في لحظة محددة (الجزيرة)
دعنا نتصور تاريخ الكون كاملا من لحظة الإنفجار الكبير كقطعة كيك ضخمة، كل شريحة نقطعها من هذه القطعة تمثل الكون كله في لحظة محددة (الجزيرة)

 

الإجابة القصيرة: لا يوجد زمن، في تلك الجزئية تحديدا نحتاج أن نتخلّى قليلا عن إدراكنا البديهي، فالبعض يتصور أن الزمكان هو النسيج الذي يتكون من ثلاثة أبعاد مكانية وبعد زمني يمتد من نقطة بداية وينطلق كسهم في الخلفية، لكن الفكرة ليست كذلك، دعنا نقولها بتلك الطريقة:
 

إذا كان الكون هو فضاء رباعي البعد، يجعل ذلك من التعامل مع الزمن والمكان كأمر واحد، فكما نتعامل مع المكان على أنه موجود هناك على اليمين وعلى اليسار وأمامك وخلفك، وكما نتعامل مع الكون على أنه كاملا موجود بفضائه الواسع، فالزمن هو الآخر -كاملا- موجود، لقد أصبح الزمن جزء ملتصق بتركيب الكون، لكي نفهم ذلك دعنا نتصور تاريخ الكون كاملا من لحظة الإنفجار الكبير كقطعة كيك4 ضخمة، كل شريحة نقطعها من هذه القطعة تمثل الكون كله في لحظة محددة، لكنها لحظة محددة بالنسبة لراصد محدد. لننظر إلى قطعة الكيك الكونية تلك من أعلى، ونحدد 9 أحداث كما بالتصميم التالي

بالنسبة لراصد ثابت (B) سوف يحدث أن تتزامن الأحداث 2 و5 و8 معا، لكن راصد متحرك بسرعة في اتجاه ما سوف يرى أن 1 و5 و9 تتزامن معا. (الجزيرة)
بالنسبة لراصد ثابت (B) سوف يحدث أن تتزامن الأحداث 2 و5 و8 معا، لكن راصد متحرك بسرعة في اتجاه ما سوف يرى أن 1 و5 و9 تتزامن معا. (الجزيرة)

 

بالنسبة لراصد ثابت (B) سوف يحدث أن تتزامن الأحداث 2 و5 و8 معا، لكن راصد متحرك بسرعة في اتجاه ما سوف يرى أن 1 و5 و9 تتزامن معا، إذن ما قد يكون ماضي بالنسبة للراصد B وليكن الحدث 9 سوف يكون حاضرا بالنسبة للراصد C. يتسبب تحركك في تغير هندسة قرائتك للزمكان بحيث ينثني لتثبيت معامل سرعة الضوء في كل الأطر المرجعية، حينما يحدث ذلك الانثناء يختلف ترتيب الأحداث بالنسبة لك.

صورة توضيحية
 

يعني ذلك أن كل شيء حدث، أو يحدث، أو سوف يحدث، موجود بالفعل، لنتصور أن الكون هو رواية ضخمة بها 1000 حدث، نتفق جميعا على ذلك، وكل راصد يمسك بنفس الرواية التي تحتوي على نفس الأحداث الألف، لكنهم جميعا يختلفون على ترتيب الأحداث بداخلها، وموضع حدوثها، وأعداد الصفحات التي تمر بين كل منها، لكن الرواية/الكون – زمكانيا – موجود بالفعل. لكن، لماذا إذا لا نستطيع أن نرى إلا شريحة واحدة منه؟ لماذا يظهر الزمن كسهم منطلق إلى الأمام دائما؟
 

من أطلق سهم الزمن؟
undefined

إن أهم صفة نلاحظها في الزمن هي الإتجاهية، فهناك الماضي، تلك الأحداث الملقاة في غياهب الطفولة والمراهقة، وهناك "الآن"، تلك اللحظة التي تحدث "حالا"، وهي لحظة غاية في الخصوصية بالنسبة لنا، ها هي تعود من جديد. والمستقبل، ذلك الذي لا نعرف شيئا عنه بعد. لكن قوانين الفيزياء لا تعرف ذلك التتابع، بالنسبة للقانون الفيزيائي فإن التحرك في الزمن يشبه التحرك في الفضاء، لا يوجد أعلى أو أسفل مثلا، كذلك يمكن للقانون الفيزيائي أن يعمل دائما في كلا الاتجاهين5، يمكن له أن يتنبأ بمستقبل نظام ما وأن يتصور ماضيه، لكن في حياتنا اليومية هناك فرق جوهري واحد يمكن رصده بين الماضي والمستقبل.
 

حينما أعرض عليك فيلم قصير لكأس به ماء يسقط أرضا ويتحطم، وآخر لكأس ماء محطم تتجمع أجزاؤه لتصنع كأسا به ماء من جديد، هل يمكن أن تحدد أي الفيلمين يُعرض بشكل معكوس؟ بالطبع، لا يمكن لكأس ماء مكسور أن يجمع أجزاؤه من جديد، فالأشياء تنزع دائما لمزيد من الفوضى وليس للانتظام.
 

يقولون أن الوقت يساوي نقود، لنتصور أن الزمن بالفعل هو ورقة فئة مائة دولار، تلك الورقة لا تكتسب أهمية في ذاتها كورقة ولكن فيما تمثله كطريقة لتبديل أشياء أخرى ببعضها البعض.

ينص القانون الثاني للديناميكا الحرارية على أن الإنتروبي Entropy -عدم الانتظام-  دائما في ازدياد ضمن نظام مغلق، يمكنك ملاحظة ذلك بسهولة في سيارتك، حيث لا تُستخدم كامل الطاقة الناتجة من البنزين لتحريك السيارة لكن بعضها يُفقد في صوت الموتور، والبعض في ارتفاع درجة حرارة المحرك، والبعض في الاحتكاك ما بين التروس. لكن هل يمكنك جمع كل تلك الطاقة المفقودة مرة أخرى لإعادتها؟.
 

لا، تتخذ الإنتروبي اتجاه واحد دائما وهو الازدياد، هنا يرتبط ازدياد الإنتروبي بسهم الزمن، حينما نرى مشهدين لنظام ما أحدهما في درجة أعلى انتظاما فيمكن تحديد أيهما كان الماضي وأيهما هو مستقبله، وحينما نسأل عن النقطة في تاريخ الكون التي احتوت أقل درجة من درجات عدم الإنتظام سوف تكون الإجابة هي "الإنفجار العظيم"، فما الذي يمكن أن يكون أكثر انتظاما من نقطة الكثيفة للغاية؟ ربما كان الإنفجار العظيم -إذن- هو حامل سهم الزمن الذي أطلقه للأمام، لكننا لا نعرف الكثير بعد عن سبب تلك اللحظة أو لما كانت قليلة الإنتروبيا أو حتى سبب انطلاق السهم، وهو ما يعطل فهمنا الكامل للزمن، في الحقيقة هناك الكثير من وجهات النظر والتفسيرات فلسفيا وعلميا لموضوع الزمن، لازالت الأسئلة أكثر من الإجابات، يمكن اعتبار ميكانيكا الكم كارتداد نحو نيوتن فهي تتعامل مع زمن منفصل في الخلفية وتلك أحد المشكلات الكبيرة التي تواجهنا في تكميم الجاذبية.
 

يقولون أن الوقت يساوي نقود، لنتصور أن الزمن بالفعل هو ورقة فئة مائة دولار، تلك الورقة لا تكتسب أهمية في ذاتها كورقة ولكن فيما تمثله كطريقة لتبديل أشياء أخرى ببعضها البعض، كذلك الزمن، لا يمثل شيئا في ذاته لكنه قد يكون طريقتنا الخاصة للتعامل مع الأحداث في الكون، إنه -ربما- وهم، لكنه كورقة فئة مائة دولار، يساوي الكثير. 
———————
 
مصادر:
1- plato.stanford.edu
2- سوف يتفق الراصدين دائما على ترتيب الأحداث التي يفصلها من الوقت ما يسمح بحدوث علاقات سببية، Time-like intervals
3- لغرض التبسيط و تجنب البلبلة فقط أذكرها هكذا، لكن القيم تكون مربعة و سرعة الضوء تكون مضروبة في الفواصل الزمنية
4- الكون الأنيق – براين جرين
5- The cosmic origin of time arrow – sean carol – scientific American june 2008
 
المصدر : الجزيرة