شعار قسم ميدان

ما وراء "كايبر".. من يلقي إلينا بالمذنبات؟

ميدان - مذنب

حسنًا، كان ذلك ملفتًا للنظر، يقول طفل صغير في السادسة من عمره بلغة بسيطة تتلخص في أن "هناك شخص ما ضخم -أو ربما اثنين- يقف بعيدًا في آخر المجموعة الشمسية، ويمسك -كلاعب بيسبول- بيديه كرات الصخر والثلج ويلقي بها إلينا بين حين وآخر، فيمر بنا مذنب كـ هالي"، كانت تلك هي الفرضية التي صاغها ابني الأكبر بعد تفكير طويل حينما سألته عن سبب تواجد المذنبات، كانت الأحجية التي عرضتها عليه معقدة للغاية في الحقيقة، دعنا نتقصّى بعض التحديات التي تواجهنا خلالها حينما نحاول حلّها معًا.

هنا نوعان(1) من المذنبات التي مرّت بنا على مدى تاريخنا، نوع ذا مدار يتخذ لفّة حول الشمس في مدة أكبر من مائتي عام، مذنبات طويلة المدة، مثل هياكوتاكي (Hyakutake) وهالي بوپ (Hale-Bopp)، وآخر يتخذ دوّرة حول الشمس في أقل من مائتي عام (مذنبات قصيرة المدة) مثل تيمبل2 (Tempel) وإنكي (Encke)، وتقسم تلك بدورها إلى نوعين: (تحت العشرين وفوق العشرين عاما).

 

النوع قصير المدة غالبا ما يكون في نفس مستوى المجموعة الشمسية، أما الآخر طويل المدة فيميل عليه بشكل كارثي ربما، أضف لأحجيتنا أن هذه المذنبات تدور في مدارات منحرفة للغاية عن المركز بحيث تقترب بشدة من الشمس في حضيضها ثم تنطلق لما يبدو أنه خارج المجموعة الشمسية في أوجها، والغريبة أنها تعود من جديد، لماذ هي غريبة؟

لأن تلك المذنبات -ببساطة- بينما تمر بالشمس تفقد الكثير من مادتها، يعني ذلك أنها بعد مرحلة ما تفنى تماما، لكن المذنبات تأتي إلينا منذ تكون المجموعة الشمسية -حوالي 4.5 مليار سنة، ويعني ذلك أنها ليست نفس المذنبات في كل مرة، هناك دائما وافد جديد، إذن من أين يأتي كل ذلك القصف؟ هل فعلا يقف أحدهم هناك ليلعب بنا؟!

صورة للمذنب هالي بوب، شاهده كل سكان العالم تقريبا بالعين المجردة حينما اقترب في 1997 (مواقع التواصل)
صورة للمذنب هالي بوب، شاهده كل سكان العالم تقريبا بالعين المجردة حينما اقترب في 1997 (مواقع التواصل)

 
بالطبع لا، ذلك فقط ما يمكن أن يتصوره طفل صغير لا يعرف بعد عن العلم الكثير لكنه يضع إجابات مبدعة بالفعل، نحن نعرف أن حزام كايبر(2)، الذي يقع في نفس مستوى المجموعة الشمسية تقريبا مع سمك أكبر، يمتد بالفعل إلى مسافة تدور حول 48 وحدة فلكية ونعرف أيضًا أن المذنبات قصيرة الأمد تأتي إلينا من أبعاد تدور حول نفس المسافة تقريبا، إذن يمكن أن يفسر ذلك ببساطة مصدر ذلك النوع من المذنبات، خاصة وأننا نعرف بالفعل مدى التوتر الحاصل في تلك المنطقة بسبب تأثيرات الكوكب نيبتون.

سحابة أوورت

أما عن المذنبات طويلة المدة فقد تصل المسافات التي تأتي منها في الخلف إلى آلاف الوحدات الفلكية وتميل على مستوى المجموعة الشمسية بكل شكل وصورة، يعني ذلك أن هناك منطقة أخرى(3)، أبعد من كايبر في الخلف، هي ما يرسل تلك الطلقات المخيفة، تلك المنطقة هي ما نسميه سحابة أوورت (Oort Cloud)، وسميت كذلك نسبة إلى يان أوورت الفلكي الألماني وأول من افترض وجودها سنة 1950، حينما قام بدراسة 19 مذنبا طويل المدة، الآن يدرس الفلكيون أضعاف هذا العدد من المذنبات، لكن إلى الآن لم نرصد أيا من أجرام تلك السحابة بسبب بعدها الشديد وصغر أحجام أجرامها.

 
تحتوي سحابة أوورت(4) ربما على ما يقترب من تريليوني جرم بقطر أكبر من كيلومتر واحد، تبلغ مداراتها ربما ملايين السنين،  وتمتد إلى ما قد يصل إلى 100 ألف وحدة فلكية -أي تقطع ثلث المسافة لأقرب النجوم لنا بروكسيما قنطورس- ويعني ذلك أنها تتخطى حاجز الهيليوسفير (Heliosphere)، المنطقة التي ينتهي عندها تأثير الرياح الشمسية لنبدأ بالفعل في الدخول إلى الفضاء البين-نجمي، وهذا بالفعل هو المكان الذي وصلت إليه مركبتا فويجر الآن حيث تقعا على بعد يقترب من 120 وحدة فلكية.

 
يعتقد العلماء أن سبب تكون تلك المنطقة هو حالات الشد والدفع بين الكواكب في مراحل التكون الأولى للمجموعة الشمسية، السحابة النجمية الأولية التي نشأت منها الشمس وكواكبها، مما دفع بعض تلك الأجرام الصغيرة نسبيا إلى الانضمام للكواكب والبعض الآخر للهروب خارج الوسط الشمسي تأثرا بالدفع، 10% من تلك الأجرام المدفوعة امتلكت قدرا مناسبا من الطاقة للتخلص من تأثير الشمس الجذبوي والهروب إلى خارج المجموعة الشمسية بينما بقيت المجموعات الأخرى لتكون تلك السحابة العظيمة.

 
بالطبع أول ما يتبادر لأذهاننا عن السحابة أوورت هو التساؤل عن غرابة شكلها، لماذا تقع كل المجموعة الشمسية في مستوى دائري واحد -كطبق كبير مثلا- بينما تتخذ سحابة أوورت شكلا كرويًا يغلف كل المجموعة الشمسية؟
 

تصميم أكثر تقريبا يوضح حجم سحابة أوورت بالنسبة لحزام كايبر وباقي المجموعة الشمسية، مدار بلوتو يظهر باللون الأصفر (ناسا)
تصميم أكثر تقريبا يوضح حجم سحابة أوورت بالنسبة لحزام كايبر وباقي المجموعة الشمسية، مدار بلوتو يظهر باللون الأصفر (ناسا)

 

تتعلق الإجابة على هذا السؤال بمدى ابتعاد سحابة أوورت عن الشمس، فحدودها الداخلية ربما تبدأ من ألفي وحدة فلكية، أي 300 مليار كيلومتر من الشمس، وهو ما يجعل من تأثير الشمس الجذبوي على تلك المنطقة البعيدة للغاية ضعيفا بحيث يسمح لتأثيرات أخرى بفرض سيطرتها في، أول تلك التأثيرات هو تأثير المد المجري (Galactic Tides)، تأثير مركز المجرة الجذبوي وتأثير جذب قرص المجرة، كذلك تأثير النجوم القريبة. فكما قلنا، حيث تمتد السحابة حتى ثلث المسافة إلى أقرب النجوم إلينا، وربما تأثير بعض السحب الجزيئية الضخمة المجاورة في المجرة. هذا إذن هو سر ذلك الميل الشديد المذنبات طويلة المدة على المجموعة الشمسية، فهي تأتي من كل اتجاه تقريبا.

 
نحتاج هنا أن نضيف أن تأثير المد المجري الصادر من مركز المجرة قد يتسبب في أن سحابة أوورت لا تتخذ شكلا كرويا مثلا لكن أشبه ببيضة، فجذب مركز المجرة -التجمع الضخم شديد الكثافة والقوة-  لطرف السحابة من ناحيته يقوم بمطها ناحيته، يتسبب ذلك في مطّها في الناحية المقابلة وتفلطحها على المحاور الأخرى العمودية على هذا المستوى المجري، يتسبب ذلك في اضطراب دائم بمنطقة السحابة وهو ما يدفع بالمذنبات إلى داخل المجموعة الشمسية.

 

عوالم أبعد من خيالنا

في تقرير سابق(5) تحدثنا عن الكوكب القزم سيدنا (Sedna) وزملاؤه كـ 2012 (VP113) المكتشف حديثا سنة 2012، تدور تلك المجموعة في مدارات غاية في الانحراف بالمنطقة النائية بين سحابة أورت وحزام كايبر، يسمي الفلكيين تلك المنطقة بـ سحابة أوورت الداخلية(6) )Inner Oort Cloud"، IOC) ذلك لأنها -على عكس سحابة أوورت الخارجية (OOC)- لا تخضع بعد لتأثير المد المجري، تتخذ تلك الأجرام مدارات ثابتة حول الشمس منذ بداية المجموعة الشمسية وحتى الآن، في الحقيقة يعرض وجود أجرام سحابة أوورت الداخلية تحديًا على العلماء، حيث إنه ليس من المفترض أن توجد في هذا الموضع، لذلك توجد عدة فرضيات لتفسير ذلك.
 

مقارنة غاية في البساطة توضح المسافات في المجموعة الشمسية بداية من الكواكب الداخلية (أعلى يسار) ثم الخارجية تشملها في أعلى اليمين، ثم مدار سيدنا بالأسفل يمين، وأخيرا حجم الجزء الداخلي من سحابة أوورت بالنسبة لكل ذلك (ناسا)
مقارنة غاية في البساطة توضح المسافات في المجموعة الشمسية بداية من الكواكب الداخلية (أعلى يسار) ثم الخارجية تشملها في أعلى اليمين، ثم مدار سيدنا بالأسفل يمين، وأخيرا حجم الجزء الداخلي من سحابة أوورت بالنسبة لكل ذلك (ناسا)

تتعلق الأولى بحالات الجذب والدفع التي تعتبر سمة أساسية لبداية عمر المجموعة الشمسية، ربما في مرحلة ما تم الدفع بتلك الأجرام -لسبب أو لآخر- إلى الجزء الخارجي من المجموعة الشمسية، بعد أن كانت قديما بين الكواكب التي نعرفها، فرضية أخرى تقترح أن تلك الأجرام ليست من منشأ شمسي، بمعنى أن الشمس قد التقطتها في أثناء رحلتها حول مركز المجرة، كذلك يقترح بعض الباحثون أن التأثير المدّي للنجوم القريبة ربما استطاع من الولوج بشكل أكثر عمقا في النظام الشمسي في بداية تكون الشمس.

 
هناك كذلك فرضية أخيرة تقترح أن أجرام السحابة الداخلية تكونت بالفعل في هذا المكان بسبب نجم مار بالصدفة بجانب الشمس، دعنا هنا نتأمل تلك الفرضية الأكثر إثارة، حيث يحدث بالفعل أن تمر الشمس -بشكل عشوائي-  بنجم ما على مسافات شاسعة أو قريبة، بل يتوقع العلماء أن نجما يمر بمسافة 10000 وحدة فلكية فقط من الشمس مرة كل 36 مليون سنة، وتوصل الباحثون من جامعة برشلونة ومختبر الدفع النفاث في باسادينا  إلى دليل يؤكد أن نجمًا قد مر بقرب الشمس خلال المليون عام الماضية، وربما سوف يكون العبور القادم(7) لقزم أحمر يدعى جليز 710 (Gliese) خلال 1.4 مليون سنة.

 
نعرف من دراسة المذنبات الوافدة من تلك الغياهب البعيدة جدا أنها تتكون من الميثان، الإيثان، أول أكسيد الكربون، سيانيد الهيدروجين، والماء، في الحقيقة يحاول العلماء دائما جذب أي طرف يمكن أن يكون فيما بعد دليلا للبحث وراء تلك العوالم الخفّية، فكل ما نستطيع رصده، بصعوبة شديدة، هو بعض أجرام سحابة أوورت الداخلية فقط، أما تلك المجموعات الضخمة من الأجرام الممتدة في السحابة الخارجية فلا تزال فرضيات تبحث عن دلائل ربما تؤكدها تلسكوبات أكثر قوّة وسبرا في أغوار السماء العميقة.

 
حتى فترة ليست بطويلة كان العلماء يعتقدون أن المجموعة الشمسية تقف عند بلوتو، ثم ها نحن نكتشف أن بلوتو ما هو إلا خطوة أولى من ألفي إلى ثلاثة آلاف خطوة نحتاجه لكي نخرج من المجموعة الشمسية فقط، وكنّا قبل أكتوبر 2016 نظن أن الكون يتكون من مئتي مليار مجرة فقط، ثم ها نحن الآن بعد أن أعلن الفلكيون في ناسا ووكالة الفضاء الأوروبية وعدة هيئات أخرى عن أن الكون المنظور يحتوي على 2 تريليون مجرة، يدفعنا ذلك للكثير من التأمل عما يمكن أن نعرفه غدا!

المصدر : الجزيرة