شعار قسم ميدان

"صيد الكواكب".. عندما تقطع آلاف السنوات الضوئية من منزلك!

ميدان - تلسكوب

كان أوّل تأكيد على وجود كوكب خارج النطاق الشمسي (Exoplanet) في 1991 حينما أعلنت ناسا عن كوكب يدور حول نجم في مراحل التسلسل الرئيس الأخيرة يدعى "HD 114762" من تجمع نجوم الهلبة، بعدها بأعوام قليلة أعلن فريق سويسري عن اكتشاف لأول كوكب يدور حول نجم يشبه الشمس وهو "Pegasi 51" من تجمع نجوم الفرس الأعظم.

انطلق بعد ذلك الفتح العظيم في عالم الكواكب خارج المجموعة الشمسية حتى وصلنا الآن إلى أكثر من 3600 كوكب معروف، منهم 51 كوكبا تقع في المنطقة الصالحة للحياة، وكان أشهر النماذج هنا هو النظام "TRAPPIST-1" في هذا العالم، ومن قبله كوكب صالح للحياة يدور حول أقرب النجوم لنا، بروكسيما قنطورس الذي يقع فقط على بُعد أربع سنوات ضوئية.
 

صاحبت تلك الطفرة في عالم استكشاف الكواكب خارج إطار المجموعة الشمسية اهتماما من قبل هواة الفلك أيضا، في 2004 مثلا، وبعد ثمانية أيام فقط من اكتشافه، أكد هاوي فلك من بلجيكا يدعى توني فان مونستر(1) وجود كوكب بحجم المشتري يدور حول نظام نجمي يدعى "TrES"، كان ذلك أحد أهم النماذج التي فتحت الباب لهواة الفلك أصحاب التلسكوبات الكبيرة لاقتناص الكواكب.

 undefined

 
حسنا، دعنا من المقدمات الطويلة، إذا كنت تريد أن تنضم إلى فريق مطاردي الكواكب في الفضاء السحيق فإن هناك طريقين متاحين، الأول يرتبط بالرصد المباشر وتصوير وتحليل البيانات عبر التلسكوب الخاص بك، وهو الطريق الأصعب لكنه الأكثر متعة، والآخر له علاقة بالمشاركة مع آلاف الأشخاص في تحليل بيانات التلسكوبات الضخمة الخاصة باصطياد الكواكب خارج المجموعة الشمسية والخروج -ربما- باكتشاف كوكب جديد بينما أنت تجلس في منزلك، دعنا نجرب الطريقتين.


في باحة المنزل الخلفية

إن ايجاد كوكب خارجي من باحة المنزل الخلفية ليس أمرا سهلا بالمرة، ليس كاقتناص نجم مزدوج ما أو سحابة تدور حول أحد نجوم كوكبة خافتة، لكنه كذلك ليس صعبا للدرجة القصوى التي تمنعك من الرصد، بالفعل يقوم هواة الفلك يوميا برصد كواكب خارج المجموعة الشمسية، كل ما نحتاجه الآن هو أن نتعلم عن موضوع الكواكب خارج المجموعة الشمسية نفسه، عن كيفية اصطيادها، وعن الأدوات الممكنة.

لنبدأ بالتعلم، أول شيء تود التعرف إليه هو عالم الكواكب خارج المجموعة الشمسية نفسه، ما هي؟ وكيف نستكشف وجودها؟ وما معنى أن نقول "نطاق صالح للحياة"؟، هنا لن يوجد ما هو أفضل من كتاب كريس كيتشن الشهير عن عالم الكواكب خارج المجموعة الشمسية(2)، يعرض الكتاب لكل شيء تقريبا عن تلك العوالم البعيدة، أنواعها، تصنيفها، كيفية اكتشافها، أهمية ذلك… إلخ. الكتاب متاح عبر دار النشر الأشهر "سبرينغر" مجانا للنطاق المصري وبعض النطاقات العربية.

 

هناك عدة آليات لاصطياد الكواكب خارج المجموعة الشمسية، لكن بالنسبة للهواة فإن طريقة العبور هي الأفضل والأكثر وضوحا وقابلية للتنفيذ بالكاميرات المتخصصة، تتعلق الطريقة بقياس كمية الضوء الصادرة من النجم وقياس درجة ومدة خفوتها للتعبير عن مرور نجم ما، كلما ارتفعت درجة الخفوت دل ذلك على قُطر أكبر للكوكب، وكلما طالت مدة الخفوت دل ذلك على مدار أوسع للكوكب حول النجم، شرحنا تلك الطريقة(3) بوضوح أكبر وسهولة في مقال "رتب حقيبتك.. ناسا تكتشف مجموعة شمسية صالحة للحياة"، بالطبع سوف تحتاج كذلك أن تتعرف على النجم نفسه، نوعه، قُطره، درجة حرارة سطحه.. إلخ.
 

كتاب كريس كيتشن الشهير عن عالم الكواكب خارج المجموعة الشمسية (مواقع التواصل)
كتاب كريس كيتشن الشهير عن عالم الكواكب خارج المجموعة الشمسية (مواقع التواصل)

كفلكي هاوٍ سوف تحتاج إلى تلسكوب بقُطر 12 إلى 14 بوصة على الأقل لكي تنجح محاولاتك في اقتناص الكواكب الخارجية، أعرف أن ذلك ليس سهلا بالمرة على هاوي فلك عربي، لكنه ممكن، أو حتى يمكن لبعض الجمعيات الفلكية، الجامعات المهتمة، المكتبات الضخمة، أن توفّر لروادها القليلين من هواة الفلك دعما بتلسكوب ضخم يساعدهم في ممارسة علم الفلك، الـ "C14" التابع لشركة "سيلسترون" العالمية أو رفيقه التابع لشركة "ميد" سوف يكون قادرا على أداء تلك الوظيفة.

بجانب ذلك سوف تحتاج إلى كاميرا تصوير فلكي بجهاز اقتران شحنة "CCD Camera" بقدرة "765×510" بيكسل على الأقل لكي تستطيع التقاط صور أكثر حساسية للنجم قيد العمل، يمكن بدراسة عدد كبير من تلك الصور -في المنزل- أن تحصل على نقاط انخفاض الضوء الناتج من النجم بدقة، وكم الانخفاض، ومدته، سوف يساعدك في ذلك أن تستخدم برامج حاسوبية غاية في الدقة، هنا لا تقلق، فـ "ناسا"(4) تقدمها لك مجانا، وكذلك يقدم معمل اكتشاف النطاق الصالح للحياة(5) مجموعة أخرى من البرمجيات التي سوف تساعدك بدقة في اكتشاف كواكب خارجية.

 

بقي شيء واحد إلى الآن، وهو أن تتعلم كيفية استخدام ذلك كله ودمجه معا من أجل استخراج رسومات بيانية دقيقة ومعبرة، هنا أرشح لك مجموعة من الكتب المجانية القصيرة التي تصدرها هيئات فضائية شهيرة لدعم انتشار هواية اصطياد الكواكب خارج المجموعة الشمسية: 

 

الهواة يتمكنون يوما بعد يوم بتلسكوباتهم التي تعد صغيرة مقارنة بأدوات المراصد الضخمة من أن يضيفوا إلى البحث العلمي الخاص بالعلم قدرا من التقدم
الهواة يتمكنون يوما بعد يوم بتلسكوباتهم التي تعد صغيرة مقارنة بأدوات المراصد الضخمة من أن يضيفوا إلى البحث العلمي الخاص بالعلم قدرا من التقدم
 

1- دليل "Exoplanets Observing For Amateurs" لـ بروس جاري(6)، وهو أشهر الكتب في هذا المجال، وهو كذلك أول محاولة جادة لإدخال الهواة إلى عملية اصطياد الكواكب.

2- دليل "Planet Hunters Guide" الصادر من ناسا (7) بالتعاون مع مؤسسة "Zooniverses".

3- دليل(8) "Exoplanet Transit Detection with Terrestrial Amateur Equipment".

4- دليل "A European Roadmap for Exoplanets" من الوكالة الفضائية الأوروبية(9).

5- دليل(10) "A Practical Guide to Exoplanet Observing" للـبروفيسور دينيس كونتي من الجمعية الأميركية لراصدي النجوم المتغيرة والذي يقدم عالم اصطياد الكواكب الخارجية للهواة والمحترفين على حد سواء.

عدا ذلك فإن كل ما تحتاجه هو سماء واسعة مع درجة قليلة للغاية من التلوث الضوئي، بعض الصبر والممارسة دون ملل وسوف تحصل على كوكبك، جدير بالذكر أن الكثير من المواقع على الإنترنت التي تحدثنا عنها منذ قليل -والدلائل التي أرفقتها كذلك- سوف تعطيك عددا من القوائم الرائعة(11) التي يمكن أن تكون بداية مناسبة لك.

  
إن إحدى مزايا علم الفلك هي أنه يمكن أن يتحول إلى هواية ممتعة يمكن أن تمارسها بشكل منتظم في أوقات الفراغ، بل إن الهواة يتمكنون يوما بعد يوم بتلسكوباتهم التي تعد صغيرة مقارنة بأدوات المراصد الضخمة من أن يضيفوا إلى البحث العلمي الخاص بالعلم قدرا من التقدم، يعطيك ذلك فرصة جيدة لتحقيق إنجاز صغير ربما، لكنه مؤثر، دعنا الآن نتعرف على طريقة أخرى أكثر سهولة لاستكشاف الكواكب خارج النطاق الشمسي.
 

البحث بين ملايين النجوم
undefined

يوما بعد يوم يرتبط كل أفراد الكوكب ببعضهم البعض بشكل أفضل عبر وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها، يصنع ذلك من العالم وحدة واحدة متشابكة، يفيد ذلك كثيرا في خلق نوع من "حكمة الحشد"، في نفس الوقت تظهر أزمة جديدة لعالم العلماء، فكم البيانات الضخم الذي نتحصل عليه يوما بعد يوم لا يجد العدد الكافي من الباحثين لدراسته، هنا تم فتح المجال للمواطنين في الشوارع والبيوت في كل مكان على سطح الكوكب لكي يشاركوا في البحث، وما أن دخلت لعبة اصطياد الكواكب للمجال حتى أصبحت هي الأخرى محط اهتمام روّاد الإنترنت من فئة "المواطن العالم" (Citizen Scientist).

 
في مقال سابق(12) بعنوان "عندما يلعب العلم" تحدثنا باستفاضة عن ألعاب العلم التي تستخدم فكرة "التعهيد الجماعي" (Crowd sourcing)، وهي أن تستخدم الجمهور من أجل عملية جمع ومعالجة كم ضخم من البيانات ذي علاقة بمهمة محددة، حيث يشارك آلاف البشر بشكل يومي عبر مهام قصيرة بسيطة في تحليل بلايين الصفحات من البيانات لحل مشكلات الطقس، دراسة النجوم المتغيرة، الشهب… إلخ، الآن تنضم مهمة اصطياد الكواكب خارج المجموعة الشمسية إلى تلك اللعبة.

قبل عدة أعوام، وفي نهايات عام 2010، أطلقت مؤسسة "Zooniverses" الشهيرة مبادرة جديدة، لُعبة على الإنترنت تحت قيادة ديبرا فيشر من جامعة ييل بعنوان "صائدو الكواكب"(13) (Planet hunters) التي تضم الآن حوالي 350 ألف عضو وظيفتهم هي البحث بين بيانات آلاف النجوم التي التقطها التلسكوب الشهير كيبلر، يبحث المتسابقون عن انخفاض طفيف في كم الضوء الصادر عن تلك النجوم في إشارة إلى وجود كوكب يدور حولها.

 
تبدأ اللعبة بطريقة تفاعلية في تعليمك بعض القواعد الأساسية السهلة لعالم الكواكب خارج المجموعة الشمسية وكيفية اصطياد تلك الكواكب، لا يستغرق الأمر دقائق معدودة حتى تبدأ في التعرض لبعض اللوحات البيانية لبعض النجوم وتبدأ فعليا مهمتك في البحث عنها، يمكن لك كذلك الدخول في حلقات من النقاش الطويل مع آلاف آخرين حول مشكلة ما خاصة بمجموعة الأشكال البيانية الخاصة بنجم محدد.

 

رصد الكواكب خارج المجموعة الشمسية للهواة هو عمل غاية في الصعوبة، وهو كذلك أمر حديث الدخول لعالم هواية الفلك، لذلك فالتحسينات في الكاميرات وأساليب الرصد والتلسكوبات المستخدمة من قبلهم ما زالت تتحسن
رصد الكواكب خارج المجموعة الشمسية للهواة هو عمل غاية في الصعوبة، وهو كذلك أمر حديث الدخول لعالم هواية الفلك، لذلك فالتحسينات في الكاميرات وأساليب الرصد والتلسكوبات المستخدمة من قبلهم ما زالت تتحسن
 

في 2014 أنهى المتطوعون في "صيادو الكواكب" أكثر من 20 مليون تصنيف للنجوم، وخرجوا بثلاثين مرشحا ككوكب، مع تأكيد على وجود كوكبين(14) خارج النطاق الشمسي، اكتشف الكوكبَ الأول، وهو بحجم يقع بين زحل و أورانوس ويدور حول نجم شبيه بالشمس، كل من روبرت جاجليانو من أريزونا وكيان جيت من كاليفورنيا بالولايات المتحدة، والكوكب الآخر اكتُشف على يد اللاعب رافال هيريسكوفسكس من بولندا بقُطر 10 مرات قدر قُطر الأرض ويدور حول نجم بحجم الشمس، كذلك تنوعت استكشافات روادها بين النجوم المتغيرة الجديدة، والنجوم المزدوجة، والانفجارات النجمية.

 
نعم، لقد تمكن شخص عادي، مثلي ومثلك، من تخطّي حاجز قدرات التحليلات الحاسوبية، واكتشاف نمط مختلف لعبور كوكب ما أمام نجم يبتعد عن الأرض آلاف السنوات الضوئية، بينما هو جالس في منزله ليتطوع في لعبة اصطياد كواكب عبر الإنترنت تُنشر فيم بعد ورقة علمية لتوضيح اكتشافه وكيفية استخدامه للبيانات والعمل عليها، أليس ذلك رائعا؟

 
إنها قوة الحشد، حكمة المجموع، تلك التي تساعدنا في استكشاف الأنماط بقدرات أعلى من أفضل حواسيبنا. قدم المتطوعون في تلك الأنواع من الألعاب أفكارا وطرقا، ربما غير عقلانية لكنها غاية في الإبداعية، غاية في التنوع والغرابة، لحل مشكلة ما، يشبه الأمر ما يحدث في عوالم النمل والنحل عالية التنظيم والقادرة على خلق ذكاء واحد أكبر من ذكاء المجموعة ككل، ها نحن ذا أمام عالم جديد جريء حقا، مستقبل مفتوح لجميع البشر كي يساهموا بعقل واحد معا في حل كل مشكلاتنا.

 

إن رصد الكواكب خارج المجموعة الشمسية للهواة هو عمل غاية في الصعوبة، وهو كذلك أمر حديث الدخول لعالم هواية الفلك، لذلك فالتحسينات في الكاميرات وأساليب الرصد والتلسكوبات المستخدمة من قبلهم ما زالت تتحسن يوما بعد يوم، تساعد في ذلك الهيئات الكبيرة مثل ناسا، ويساعد كذلك خبرات الهواة التي تتراكم يوما بعد يوم في الكثير من المقالات، الدلائل، القوائم، المنتشرة عبر الإنترنت، يقدم ذلك دعما دوريا لك، من الممتع حقا أن يبادر مجموعة من الشباب في النطاق العربي بالانضمام إلى مسيرة كتلك في بداياتها، فيكون لهم فيما بعد إنتاج جوهري في وسط هواة الفلك عالميا.

المصدر : الجزيرة