شعار قسم ميدان

بين النجوم.. أسرار "السيدة كاثي" السماوية

ميدان - كاثي3

"وهذه.. ملكة إثيوبيا السمراء، التي سعت لتمجيد جمالها فوق.. حوريات البحر!
(جون ميلتون في "الرجل الجاد")

 

"من التي تدَّعي أنها أجمل من بنات بوسَيدون حوريات البحر؟" كان ذلك ربما هو السؤال الذي دفع ببوسَيدون(1) إله البحر في الأسطورة القديمة لإرسال الوحش "قيطس" كي يقتل كل إثيوبي ويخرب دياره، جرّاء ما فعلته السيدة كاثيوبيا (Cassiopeia) (ذات الكرسي) ملكة إثيوبيا وابنتها أندروميدا (Andromeda) ذلك لم يكن ليغتفر أبدًا، هنا ذهب أهل إثيوبيا لملكهم قيفاوس (Cepheus) من أجل أن ينقذ مملكتهم من هذا الوحش، فما كان منه إلا أن اصطحب ملكته وذهبا إلى العرّافة.

 

قالت العرّافة إن الحل الوحيد هو تقييد أندروميدا بالسلاسل (لهذا سميت "المرأة المسلسلة" في التراث العربي)  في الصخور التي تقع على شاطئ البحر، هنا سوف يلتفت لها الوحش تاركًا الناس في سلام، كانت تضحية ثمينة من قيفاوس وزوجته، لكن في أثناء قدوم قيطس إلى أندروميدا يقف له برشاوس (Perseus) الشاب الشجاع الذي استطاع بحيلة ماكرة أن يقطع رأس ميدوزا ذات الثعابين بدلًا من الشعر، يقف برشاوس بين أندروميدا والوحش.

 

يخوض برشاوس معركة عظيمة ضد قيطس الضخم، لكنه يهزمه في النهاية، وككل الحكايات الشبيهة يتزوج قيفاوس من أندروميدا ويعيشان معًا في سعادة للأبد، لكن الحياة ليست عادلة لتلك الدرجة -هكذا يرى البعض منّا- كما أن السيدة كاثي -هكذا سمّاها جون كوفي من الفيلم الشهير "غرين مايل" (Green Mile)- ليست ملكة ولا من عامة الشعب، إنها فقط مجموعة نجوم في السماء تشبه حرف (W) من اللغة الإنجليزية، ربط الناس قديمًا أحلامهم بها، أمنياتهم لمستقبل سماوي ملائكي تنجح فيه كل خططتنا.

 

دليل التائه في الصحراء
حسنًا، دعنا من الشعر والتفلسف الآن، من حديث مفتوح عن تلك السمراء التي تحدت جمال الآلهة فأعطت للبشر فرصة لتمني المستحيل، ولنبدأ في الحديث عن بعض العلم، إن ما يميز السيدة كاثي عبر العصور، بجانب نجومها اللامعة التي تقف بين القدرين الثاني والثالث، هو أنها دائمًا كانت منارة البشر السماوية، حيث يمكن لك بسهولة استخدامه للوصول إلى النجم القطبي (Polaris) ويعني ذلك أنك تعرف الشمال الجغرافي للأرض، وبالتالي بقية الاتجاهات.
  
undefined
  
النجم صدر(2) (Schedar) هو ألمع نجوم الكوكبة، وهو عملاق أحمر يبلغ قطره حوالي 40 مرة قدر الشمس، وسبب ذلك هو أن النجوم كالشمس- أو ضمن حدود 8 كتل شمسية- في نهاية أعمارها لا تتمكن من حرق المزيد من الوقود الخاص بها لتقوم بدمج الكربون وتحويله إلى عناصر أعلى، هنا تنهار النواة على ذاتها وتدفع الطاقة المنطلقة بالأغلفة الخارجية للنجم، فتصنع في النهاية سديمًا كوكبيًا ملونًا تاركًا في الأعماق من السحابة قزما أبيض يتحول خلال عدة مليارات من السنين إلى قزم أسود.

 

عمر "صدر" يقع بين مائة ومائتي 150 مليون سنة فقط، ونقول "فقط" هنا لأن عمر الشمس الآن هو 4.5 مليار سنة تقريبًا، ورغم ذلك فالشمس نجم يافع ما زال يحرق في الهيدروجين الخاص به وبقت ربما 5 مليارات سنة من عمره. إن مستقبل "صدر" هو مستقبل الشمس، مع فارق الكتلة فهو يبلغ الآن حوالي 5 كتل شمسية، وهو ما عجل بالأساس في وصوله لمرحلة العملاق الأحمر، فكلما ازدادت كتلة النجم، ارتفع معدل حرقه للوقود الخاص به، ومات سريعًا.

 

الكف الخضيب
أما ثاني ألمع نجوم الكوكبة فهو الكف الخضيب(3) (Caph)، فهو عملاق آخر لكنه هذه المرة عملاق أبيض تبلغ حرارة سطحه حوالي 7 آلاف درجة مئوية وهو أكبر من حجم الشمس بـ3 مرات، لكن ما يلفت النظر أكثر لنجم الكف هو أنه نجم متغير من الفئة دلتا الدرعيات (Delta Scuti)، وهي نوع من النجوم النابضة بدقة شديدة لذلك تستخدم كشمعات معيارية (Standard Candles) لكي تحدد المسافة إلى بعض النجوم البعيدة، كالنجوم في السحابتان الماجلانيتان أو بعض التجمعات العنقودية، لفهم أفضل لتلك النقطة يمكن لك تأمل تقرير(4) سابق للكاتب عن النجوم المتغيرة وكيفية رصدها.

   

undefined

  

في تلك النقطة ربما تتساءل(5) عن تلك التسمية الرنّانة "الكف الخضيب"، أي الكف المخضبة بالحناء، سمتها العرب كذلك حينما تصورت أن الثريا هي فتاة جميلة لها كفّان ممتدان، الكف الطويلة إلى اليمين وسميت الكف الخضيب، وتمثلها مجموعة النجوم بين الثريا وكوكبة ذات الكرسي فكأن الكوكبة (حرب W) هو رسم الحناء على كفها، والأخرى هي الكف الجذماء، يد الثريا اليسرى، يقول ناظم أرجوزة الكواكب أبو علي الحسين بن عبد الرحمن الرازي:

   

سَرى وَاللَيلُ مُزوَرُّ الجُنـــوبِ         وَقَد دَنتِ الثُـــرَيّا لِلغُــروبِ

وَمَدَّت كَفَّها الجَـــذما قَليـــلاً         كَمَن يَرجو مُصافَحَةَ الحَبيبِ

كَأَنَّ النسرَ حينَ رَأَى وُرودَ الـ         نَعائِمِ طارَ عَن كَفِّ الخَضيبِ

 

في الحقيقة يفتح ذلك بابًا جانبيًا لنا لتأمل تلك المنطقة ككل من السماء، ونستمتع بروائعها، حيث يمتد حزام المجرة الذي خرج كثيفًا من منطقة العقرب (Scorpius) مرورًا بالمثلث الصيفي، ثم أعلى ذات الكرسي، إلى برشاوس (نجم المرفق) إلى الجبار، هذه منطقة زاخرة بالنجوم والسدم ولذا تصور العرب القدماء أن هناك كفا ما بين الثريا وذات الكرسي، ليس هناك ما هو أجمل من تتبع دورة حزام المجرّة في سماء الليل، يمكن لك كذلك الاستمتاع بتأمل تقرير خاص عن هذا الموضوع للكاتب.(6)

  

undefined

 

روائع السيدة كاثي

ما زلنا مع نجوم ذات الكرسي، لكننا هذه المرة نتحول عن شكل حرف الـ (W) قليلًا لنبحث في الوصلة بين نجمي صدر ونافي (سمي كذلك حديثًا كمعكوس لكلمة إيفان من اسم رائد الفضاء الأميركي(7) فيررجيل إيفان غريسوم (Virgil Ivan Grissom) عن نجم لامع يخرج عن الخط قليلًا، إنه النجم إيتا(8) من الكوكبة، ويسمى (Achird) وبالعربية ظهر الناقة، وهو نجم يعشقه هواة الفلك في أنحاء العالم ذلك لأنه أحد أشهر وأسهل النجوم المزدوجة، فمع قرب النجم للأرض (حوالي 20 سنة ضوئية فقط)، والمسافة بينه وبين رفيقه (11 ثانية قوسية) هناك ميزة إضافية هنا وهي الفارق اللوني الواضح بين الرفيقين (أبيض وبرتقالي)، تجعل تلك الظروف من إيتا ذات الكرسي فرصة جيدة للمبتدئ مع النجوم المزدوجة.

 

ربما أحد الروائع التي تستحق التأمل كذلك هو النجم رو (Rho) من الكوكبة، ورغم أنه مجرد نجم يلمع بين حوالي ستة آلاف نجم يمكن رصدها بالعين المجردة، إلا أنه يمثل نوعا خاصا من النجوم ندعوه عملاق عظيم فائق أصفر10 (Yellow Hypergiant)، وتلك فئة من النجوم لا نراها كثيرًا في درب التبانة، دعنا نتوقف هنا قليلًا لتأمل تلك الفكرة، حينما تقف في ليلة خريفية باردة فوق سطح المنزل لتأمل تلك النقطة الخافتة بجانب نجم الكف – تأمل موضع النجم في الخريطة الأولى – فإن ما تنظر إليه هو نجم يلمع بالأساس حوالي 550 ألف مرة قدر الشمس، كتلتة 20 مرة قدر الشمس، ونصف قطره أكبر منها بحوالي 500 مرة، يعني ذلك أن تلك النقطة الخافتة إن وُضعت مكان الشمس سوف تصل إلى مدار المشتري، إنه واحد من أكبر النجوم التي نعرفها، هل ترى غرابة ذلك الشعور؟

   

مقارنة بين حجم الشمس والنجم رو من ذات الكرسي، الشمس نقطة دقيقة بجانبه، هذا النجم يمكن أن تراه بعينيك (الجزيرة)
مقارنة بين حجم الشمس والنجم رو من ذات الكرسي، الشمس نقطة دقيقة بجانبه، هذا النجم يمكن أن تراه بعينيك (الجزيرة)

   

أضف لذلك أن أحد أهم الأهداف التي تدعو للاهتمام في ذات الكرسي هي تجمعاتها النجمية المفتوحة، خاصة حينما تقع بسهولة في مرمى تلسكوب مبتدئ، فجميعها تدور حول القدر الظاهري(6)، ما يجعلها فرصة سهلة جدا على تلسكوب متوسط، وممكنة جدًا لتلسكوب صغير، التجمعات النجمية المفتوحة هي واحدة من أروع مشاهد سماء الليل خاصة أنها سهلة الاصطياد على عكس بقية الأجرام الممتعة كالسدم والمجرات وحتى التجمعات العنقودية، الثريا والقلائص من كوكبة الثور هما أشهر التجمعات المفتوحة، البقية منها لا يمكن رصدها إلا بنظارة معظمة أو تلسكوب.

   

يمكن لك استخدام أطلس كامبريدج للنجوم المزدوجة للعثور عليها، أو حتى بعض البرامج كـ (Stellarium) (الجزيرة)
يمكن لك استخدام أطلس كامبريدج للنجوم المزدوجة للعثور عليها، أو حتى بعض البرامج كـ (Stellarium) (الجزيرة)

   

فقاقيع سماوية
حسنًا، اقتربت رحلتنا مع الأميرة السمراء من الانتهاء، لكن لا يمكن لنا ذلك دون زيارة أساسية إلى أهم ما يميز الكوكبة من روائع السماء العميقة (Deep Sky Objects)، دعنا نبدأ هنا بأقرب مصدر راديوي لكوكب الأرض، إنه بقايا المستعر الأعظم الذي نسميه ذات الكرسي10 أ (Cassiopeia A)، والذي يمتد بعرض حوالي 10 سنين ضوئية (10 مجموعات شمسية كاملة تقريبًا!)، كانت بداية هذا كله هو نجم انفجر قبل حوالي 350 عاما، بينما ما زالت بقايا هذا الانفجار تجري بسرعة 5 ألاف كيلومتر كل ثانية، يشبه ذلك أن تسافر من الإسكندرية (مصر) إلى لوساكا (زامبيا) في ثانية واحدة!

   

هذه صورة مركبة لذات الكرسي أ ضمن عدة نطاقات من الطيف الكهرومغناطيسي، اللون الأرجواني مأخوذ من النطاق جاما (تلسكوب فيرمي الفضائي)، الأخضر والأزرق من نطاق الأشعة السينية (تلسكوب تشاندرا)، الأصفر ضمن نطاق الضوء المرئي (هابل)، والأحمر ضمن النطاق تحت الأحمر (التلسكوب سبيتزر)، والبرتقالي ضمن نطاق الراديو (التلسكوب الكبير VLA)، تلك صورة شاركت فيها أربعة تلسكوبات فضائية وواحد أرضي! (مواقع التواصل)
هذه صورة مركبة لذات الكرسي أ ضمن عدة نطاقات من الطيف الكهرومغناطيسي، اللون الأرجواني مأخوذ من النطاق جاما (تلسكوب فيرمي الفضائي)، الأخضر والأزرق من نطاق الأشعة السينية (تلسكوب تشاندرا)، الأصفر ضمن نطاق الضوء المرئي (هابل)، والأحمر ضمن النطاق تحت الأحمر (التلسكوب سبيتزر)، والبرتقالي ضمن نطاق الراديو (التلسكوب الكبير VLA)، تلك صورة شاركت فيها أربعة تلسكوبات فضائية وواحد أرضي! (مواقع التواصل)

  

إنَّ سر تلك المسافة الشاسعة التي تقطعها بقايا المستعرات العظمى في السماء يمكن فهمه بتجربة بسيطة، أحضر 3 كرات، كرة قدم، كرة يد، وكرة تنس أرضي، الآن ألق بكل منهم على الأرض، سوف يرتفع لمسافة قصيرة، لكن حينما تضعها فوق بعضهم البعض (قدم ثم يد ثم تنس) وتتركهم للسقوط سوف تنطلق كرة التنس الأرضي للأعلى لمسافة شاسعة، هذا هو ما يحدث لطبقات النجم قبل انفجاره، حيث تدفع كل طبقة التي فوقها فنصل إلى الطبقة الأعلى بأكبر قوة دفع تلقي بها في أعماق الفضاء.

   

  

أما عن سديم الفقاعة(11) (Bubble Nebula)، فهو بالفعل واحد من أروع المشاهد السماوية، فما تراه أمامك بالصورة المرفقة هو أكبر فقاعة يمكن أن تراها في حياتك، إنها فقاعة بعرض 7 مجموعات شمسية تقريبًا! تسببت فيها الرياح النجمية العاتية الصادرة من نجم عملاق عظيم ساخن يقع في مركزها يسمى (SAO 20575)، للأسف لا يمكن عبر تلسكوب صغير أن تتأملها، فمع قدر ظاهري بقيمة 10 لن تبدو في تلسكوب متوسط إلا كغمامة خافتة جدًا، يحتاج الأمر لتلسكوبات كبيرة (16-18 بوصة).

  

undefined

    

حسنًا، لماذا نود أن نتعلم عن كل ذلك؟ ما الذي نستفيده حينما نتعلم عن رو ذات الكرسي أو سديم الفقاعة؟ ربما تدفعنا ضخامة هذا الكيان كله بنجومه، تجمعاته، ومجراته اللامعة لتحقيق فهم أكثر واقعية لحجمنا في هذا الكون، إن أبسط المعلومات من عوالم فيزياء الجسيمات أو علم الكونيات تعطينا فكرة مهمة عن ذواتنا، وهي أنه بقدر أحجامنا الصغيرة، وقدراتنا المحدودة مقارنة بكل ذلك الكون، لكننا استطعنا تجاوز خوفنا كبشر، استطعنا القفز في المجهول بشكل مستمر وسبر أغواره، يدفعنا ذلك للتأمل كثيرًا، فنحن هنا نلعب دور القوي والضعيف، الصغير والكبير، المُتأمِل والمُتأمَل.

المصدر : الجزيرة