شعار قسم ميدان

السر النفسي وراء تلاعب الموسيقى بمشاعرنا

midan - listening music

"دون موسيقى ستكون الحياة غلطة"

(فريدريك نيتشه)(1)

 

لماذا تثير الموسيقى انتباهنا ومشاعرنا إلى تلك الدرجة؟ إن طفلا في الشهور الأولى من عمره سوف يستجيب للموسيقى كشخص كبير، سوف يتأهب ويتراقص مع بعضها، ثم مع البعض الآخر الحزين منها سيركن إلى كتفي أمه ليهدأ قليلا، ونحن نفعل نفس الشيء، حتى حينما نسمع فصول موسيقى فيفالدي (Vivaldi) الأربعة فنحن نتمكن، فقط عبر موسيقاه، من معرفة عن أي فصل تتحدث مقطوعته الخاطفة، ما الذي يحدث هنا؟ ولماذا نبكي حينما نسمع موسيقى تايتانيك؟

 

سر الموسيقى
في الحقيقة، الموسيقى ليست كاللغة بالمعنى المفهوم، أي إنها لا تحمل أية دلالات (Semantics)، وعلى الرغم من ذلك فإننا نستجيب لها كأداة تواصل، لكن ليس لأنها صوت فقط، فنحن نسمع أصوات الضرب والاحتكاك طوال اليوم ولا يلحقنا ذات الأثر، ربما لهذا السبب تصوّر(2) فريدريك نيتشه، الفيلسوف الألماني الأشهر، في كتابه "مولد التراجيديا"، أن الموسيقى هي شرط ترانسندالي سابق للغة، كذلك ربطها بما تعنيه "الإرادة"، بل ووضعها كصورة بدائية من وجودنا ذاته، وبذلك يكون التعرف إلى الموسيقى، بالنسبة لنيتشه، والتعرّف بها إلى العالم، هو تعرّف إلى ذواتنا، تكميل لها!

 

من جهة أخرى فإن تاريخ الفلسفة حافل بتأملات كثيرة حول الموسيقى، بداية من فيثاغورث الذي يُقال إن بداياته مع الرياضيات كانت عبر تأمل الموسيقى وانتظامها، إلى أفلاطون(3) "الموسيقى هي قانون أخلاقي"، مرورا بكانط الذي اعتبر أن جمال الموسيقى مرتبط بجمال تركيبها نفسه، حتى نصل إلى شوبنهاور الذي اعتقد أن الموسيقى(4) "أكثر اختراقا لذواتنا من كل الفنون الأخرى، لأن كل تلك الفنون تخاطب الظلال فقط، بينما تخاطب الموسيقى الجوهر"، ربما هنا يجب أن نوضح أن الموسيقى قد لعبت دورا خاصا في التاريخ الروحي(5) للشعب الألماني، وكانت أشبه بتعزية له عمّا سمّاه كارل ماركس "البؤس الألماني"!

         

    

حسنا، ربما تحتاج كل تلك التصورات البديعة إلى خوض أكبر في كتابات فلاسفتها، لكن ذلك ليس موضوعنا الآن، دعنا نتحول قليلا عن التفلسف إلى العلم، حيث ترجع بدايات البحث خلف العلاقة بين الموسيقى والاستثارة العاطفية -بكل أشكالها- إلى المؤلف الموسيقي، والفيلسوف، وأحد واضعي نظرية الجمال في الموسيقى، ليونارد ماير(6) (Leonard B. Meyer)، خلال كتابه المنشور بالخمسينيات من القرن الفائت "العاطفة والمعنى في الموسيقى" (Emotion and meaning in music)، والذي استخدم تقنيات من علم النفس الجشطلتي، نظرية المعلومات، والألفة المسبقة مع أنواع محددة من الموسيقى، لتفسير تلك العلاقة.

 

رغم ذلك، لم يحدث -حتى الثمانينيات- أن تفاعلت النظريات الموسيقية مع علم النفس التجريبي، ربما لأن معظم الباحثين في هذا المجال كانوا بالأساس من المؤلفين الموسيقيين، لكن مؤخرا بدأت العلوم التجريبية، النفسية والعصبية، في الولوج بقوة أكبر على أرض هذا المجال البحثي، خاصة مع تطور تقنيات التصوير الدماغي (الرنين المغناطيسي الوظيفي fMRI) واللي تمكننا بشكل مباشر من تتبع أثر الموسيقى على دماغ مستمعها وقت استماعه للموسيقى.

 

لكننا سنؤجل الحديث المفصّل عن ذلك الجزء العصبي إلى تقرير قادم، حيث سوف نهتم الآن بدراسة حديثة نسبيا تحاول إيجاد حل للمشكلة الرئيسة التي تواجه العلاقة بين الموسيقى والمشاعر البشرية، وهي أننا لا نعرف "أين تقع المشكلة بالأساس؟"، حيث إن هناك درجات من التناقض بين جانبين، جانب يتصور أن الموسيقى بالكامل تتلقى استجابة بيولوجية عصبية في الدماغ، لكن هناك أدلة تؤكد أن الموسيقى في العموم لا تترك هذا الأثر، بمعنى أن مقطوعة موسيقية ما قد تكون حزينة بالنسبة لك فقط، أو أن موسيقى فلكلورية فنلندية، مصرية، روسية، قد لا تكون مقبولة لك بينما تكون مقبولة لآخرين، جرّب مثلا أن تسأل الآخرين من حولك عن آرائهم في موسيقى شوبان أو فاجنر.

     undefined

          

في الجانب الآخر فإننا لا نرى أن الموسيقى تتخذ جانبا سياقيا فقط، أقصد خاصا بالسياقات الاجتماعية، لكن أيضا نجد أن هناك بعض التأثيرات العامة المرتبطة بنمط النغمات وترددها على الدماغ البشري، هنا يدخل إلى أرض الملعب كل من باتريك جوزلين (Patrick N. Juslin) أستاذ علم النفس من جامعة أوبسالا السويدية ودانيال فياسفيَل (Danial Västvjäl)، من جامعة جوتبورج بالسويد أيضا، ليؤكّدا أن الأمر المتعلق بالموسيقى هو أكثر تعقيدا من أن تشرحه آلية واحدة، أو حتى اثنتين (دماغية واجتماعية)، ولكن هناك ست آليات، تسمى النظرية التي تجمعها بـ "نظرية الآليات المتعددة"(7) (Multiple Mechanisms Theory).

 

آليات متعددة
تبدأ تلك الآليات* باستجابة منطقة دماغية تدعى جذع الدماغ(8) (Brain Stem Reflex)، في الحقيقة لا تزال استجابة تلك المنطقة، وباقي الدماغ، بيولوجيا للمثيرات الصوتية محل بحث علمي نشط، لكن هناك بعض الإشارات المهمة التي يمكن أن تفيدنا هنا، فمثلا نجد أن الأصوات الأعلى من تردد محدد (الأصوات العالية والمضطربة) أو الأقل منه (حركة حفيف شيء ما) تستدعي استجابة مباشرة للجهاز العصبي المركزي في جسم الإنسان، أو حتى بقية الحيوانات، ونقصد هنا الشعور بالخطر أو الخوف أو فقط الامتعاض، وهو ما يدعونا إلى توقع أن يكون نطاق التردد الصوتي الواقع ضمن حد حرج محدد بين الترددات العالية والمنخفضة ذا أثر مقبول للدماغ.

 

أضف إلى ذلك أن ما نعرفه عن منطقة جذع الدماغ يشرح سبب التأثر بالموسيقى، فهي كذلك المنطقة التي تتكامل وظيفيا مع الجهاز الدوري للجسم ((9)Cardiovascular System)، القلب والأوعية الدموية، كذلك مع وظائف التحكم بالجهاز التنفسي، ومناطق الحس المسؤولة عن الانتباه، والتأهب، والوعي بشكل عام، حتّى إن أي تلف في تلك المنطقة يعني تهديدا مباشرا لحياتنا، وبذلك فقد يبدو مقبولا أن تقول التجارب على الرضع إن هناك تسارعا واضحا في معدلات سرعة القلب(10) (Heart Rate) لدى الأجنة في باطن الأمهات مع استجابة حركية فور سماع موسيقى صاخبة، وينخفض المعدل إلى حدود دنيا مع تهدئة الصوت شيئا فشيئا.

      

undefined

        

من جهة أخرى تتدخل آلية ثانية وهي التقييم المشروط(11) (Evaluative Conditioning) لتشرح سبب الاستجابة العاطفية للموسيقى، فتقول إن تكرار حدوث نفس الموسيقى مع حدث ما، ليكن مثلا لقاؤك السعيد بأصدقائك، أو توترك لسماع نغمة هاتفك التي خصصتها لمديرك في العمل، أو شعورك بالفخر لدى سماع موسيقى معينة في الأعياد الوطنية… إلخ، يتسبب في شعور (موجب أو سالب، حسب الحدث) في حال الاستماع لتلك الموسيقى بعيدا عن الحدث، لكن ما يثير الانتباه هنا هو أن ذلك يحدث دون علم المشاركين في التجارب.

 

بمعنى أن استثارة انتباهك للحزن تجاه مقطوعة موسيقية محددة قد يكون مشروطا بحدث ما لكنك لا تعرف هذا الحدث، بل إن الخاضعين للتجارب حينما يعرفون بتلك الحالة من الشرطية يعيقهم ذلك عن استشعار نفس الحالة تجاه موسيقاهم الحزينة أو السعيدة تلك، وبذلك فإن ما يميز تلك العملية هو أنها غير واعية، غير مقصودة، تتم دون جهد، ويرتبط ذلك بتفعيل مناطق تحت قشرية في الدماغ تتضمن اللوزة الدماغية (Amygdala) والمخيخ (Cerebellum)، أضف إلى ذلك ملاحظة أخرى مهمة وهي أن تلك الحالات المشروطة تستمر مؤثرة لفترات زمنية طويلة.

 

ويختلف التقييم المشروط عن آلية أخرى ترتبط بالذاكرة العرضية الخاصة بنا(12) (Episodic Memory)، حيث تشير الأخيرة إلى استحضار موسيقى ما لذكرى سعيدة أو حزينة، لكن المثير للاهتمام هنا هو مدى قدرة الموسيقى على استحضار تلك الذكريات بكامل المشاعر المتعلقة بها، بل إن بعض التجارب تقترح أن الأفراد الذين اقترنت الموسيقى بالكثير من ذكرياتهم عن فترة الطفولة سوف يميلون بشكل طبيعي إلى العمل في المجال الموسيقي حينما يكبرون.

 

لكن بالطبع، نجد أن الكثيرين يستجيبون بالحزن أو الفرح لموسيقى ما، دون أي حالات شرطية، هنا يجب أن نوضح أن تلك الآليات الستة التي تفترضها النظرية الجديدة لا ترتبط ببعضها البعض، وإنما كل منها يعمل بخط سير خاص به كمفسر لحالات دون غيرها، لكن يمكن لنا -حسب جوزلين وفياسفيَل- أن نعتبرها مكملة لبعضها البعض، لكن إلى الآن نحن لم نتحدث عن أثر الموسيقى نفسها المتشابه على الكثير من الأفراد، كيف يحدث ذلك؟

    undefined

   

هنا يمكن لآلية أخرى من النظرية أن تشرح ذلك الجانب، ونسمّيها العدوى العاطفية(13) (Emotional Contagion)، ويعني أن تستثار العاطفة بشكل صغير بناء على الوتيرة البطيئة للصوت، أو المستوى المنخفض له، ضمن الحدود التي تحدثنا عنها منذ قليل، ثم بعد ذلك يقوم الواحد منّا داخليا بتضخيم أو حفز هذا الأثر، أو خارجيا عبر العدوى العاطفية، أي إننا -كبشر- حينما نرى تأثرا من نوع ما على وجوه الآخرين تجاه موسيقى حزينة، مثلا، أو أصواتهم، فنحن نميل إلى تجاوز عملية تقييم الموسيقى المعروضة أمامنا إلى تصديق أنها بالفعل حزينة بناء على ما بدر من الآخرين.

 

في الحقيقة يتجاوز أمر العدوى العاطفية حدود التأثر السلوكي، فقد أثبتت التجارب الخاصة بجوزلين وفاسفيَل، والتجارب السابقة لهما، أن البشر يلتقطون نفس تعابير الوجه من الآخرين الموجودين في صور فوتوغرافية، حقيقية أو تمت معالجتها بالفوتوشوب، عبر انقباض نفس العضلات بنفس القدر، وهذا هو أيضا أحد التفسيرات التي تشرح الرابط بين الطفل الرضيع وأمه، أنهما يحاكيان نفس التعابير ويشعران بنفس الوتيرة، وبمعايير علم النفس التطوري يمكن النظر إلى تلك الظاهرة على أنها أساسية لإبقاء التواصل بين أفراد الجماعة في أفضل أحواله، فالجماعة أقوى من الفرد وأكثر أمانا.

 

ويرتبط ما سبق أيضا بآلية سلوكية أخرى ذات علاقة باستحضار الصور المرئية(14) (Visual Imagery) من الدماغ، وتعتبر تلك الصور العقلية محركا أساسيا لاستجابات فيسيولوجية عدة لدى البشر، ويرى باحثَينا، بالإشارة إلى تجارب سابقة وحالية، أن السبب هو محاولة البشر ترجمة المفاهيم الموسيقية إلى صور مجازية في الدماغ، وبالتالي قد يشرح ذلك سبب استجابة الناس للموسيقى الحزينة كحزينة أو الراقصة كراقصة، فمثلا حينما يستمع الشخص لنغمات متصاعدة السرعة فإنه يحولها إلى مشهد دماغي (كان صورة حقيقية أو حسّية) تتصاعد فيه درجات، بذلك يمكن تحويل الموسيقى -كأي شيء آخر واقعي- إلى صور دماغية مقروءة.

 

الموسيقى كلغة
undefined
    
وأخيرا، نصل إلى آلية سادسة مهمة تتعلق بتوقعاتك الموسيقية(15) (Musical Expectancy)، حينما -مثلا- تستمع إلى مقطوعة موسيقية ثم فجأة تشعر بأن هناك نغمة شاذة، رغم أنك لا تمتلك أي معرفة موسيقية مسبقة بتلك المقطوعة أو بالموسيقى نفسها، لكن ما يحدث هنا هو أن للبشر توقعات عن الأنماط، دعني مثلا عبر بيانو أو جيتار أعرض عليك النغمات "دو"، ثم "ري"، ثم "مي"، ثم "فا"، هنا إن كانت النغمة التالية ليست "صول" سوف تشعر بدرجة من الاختلاف في العرض، يتشابه ذلك مع درجات ارتفاع وانخفاض التردد تدريجيا.

 

في تلك النقطة تشبه توقعاتك عن الموسيقى توقعاتك عن اللغة، والتي تتكون من مقاطع محددة متوقعة الانتظام، ولهذا السبب يرتفع حسّك الموسيقي بارتفاع مستوى تدريبك، يشبه الأمر قدرتك -بالسليقة- على اكتشاف خطأ نحوي في مقال صحفي ما، حيث مع التدريب والقراءة المتواصلة يصبح لديك حس لغوي دقيق تكتشف معه حالات الشذوذ بسهولة، لذلك فإنه من الطبيعي أن نتوقع أن الاضطرابات في المناطق المسؤولة عن اللغة بالمخ تترافق مع اضطرابات في قدرة البشر الطبيعية على توقع نمط الموسيقى، الموسيقى إذن، بعد كل شيء، وكما قال نيتشه، ربما، هي صورة بدائية من اللغة(16).

 

للوهلة الأولى يبدو أن البحث خلف العلاقة بين الموسيقى والعواطف البشرية هو نوع من الرفاهية العلمية، لكنه بعد كتاب ماير الذي تحدثنا عنه بالأعلى أصبح أحد النطاقات البحثية المهمة في العديد من الجامعات سواء بأقسام علم النفس أو العلوم العصبية الإدراكية، واستطاع هذا النطاق كذلك ربط نفسه بتفرعات مختلفة(17)، كالعلاج بالموسيقى (ما زال فرعا جديدا، وللأسف ينطلق البعض منه إلى مساقات علاجية زائفة)، البحوث التسويقية لابتكار دعايات مناسبة للجمهور، أو أبحاث موسيقى الأفلام، تاريخ الموسيقى، فلسفة الجمال، السايكولوجيا الفلسفية، أو تكنولوجيا وهندسة الآلات الموسيقية.

 

في مقالهما البحثي المثير للانتباه يضع كل من جوزلين وفياسفيَل قائمة مكونة من 11 نقطة، يختص كل منها باختبار تجريبي لجزء ما من تلك النظرية، حتى يتمكنا في النهاية من تحقيق اختبار دقيق لكل جوانب النظرية، سواء الآليات الستة لها، أو الفصل بين فرضيات كل آلية، لكن بالطبع يظل هذا النطاق البحثي -بسبب حداثته، وكذلك صعوبة تحقيق إنجاز تجريبي مباشر خلاله- بابا ضخما مفتوحا لمجالات معرفية وعلمية متعددة كي تحاول تفسير تلك العلاقة الغريبة بيننا وبين الموسيقى.

     

الموسيقى ليست الصوت العذب الصادر من الآلة فقط، وإنما هي جدلية الصوت مع الصمت، تراقص الأضداد الذي يصنع لهذا الكون طعما ربما
الموسيقى ليست الصوت العذب الصادر من الآلة فقط، وإنما هي جدلية الصوت مع الصمت، تراقص الأضداد الذي يصنع لهذا الكون طعما ربما
   

كل مقطوعة موسيقية تستمع لها إذن، كانت "الهواء المار على الوتر G" ليوهان سباستيان باخ (Air On G String)، سوانتا بيانو رقم 14 (سوناتا الشتاء) لبيتهوفين، أو مدخل آلة القانون في أغنية "إلا أنت" للصغيرة نجاة ثم الكمنجة التي تليه بعذوبة شديدة، كل ذلك ليس مجرد نغمات حلوة مرتّبة بصورة أنيقة، إنما هو تركيبة معقدة تجمع ما بين تاريخك الطويل على هذا الكوكب، ذكرياتك الحلوة والمرة، وعيك، وتطور إدراكك كإنسان قادر على التقاط اللغة، تجمع بين ما يحمله هذا المخ من تعقيد بيولوجي، وتلك النفس من أعاجيب سلوكية.

 

ما يحدث إذن أننا حينما نستمع لموسيقى فيلم تايتانيك التي عرضناها بالأعلى قد نستدعي ذكرياتنا مع الفيلم، والحادثة نفسها، الماء البارد، وبكاء الأطفال في الغرف، وحقائب المسافرين، ثم قد نربط ذلك بحادث نعرفه عن غرق عبّارة مصرية تُدعى السلام 98 تنام الآن في قاع البحر الأحمر، لا لشيء إلا لأن أحدهم لم يهتم ببعض معايير الأمان، قد نتذكر مشهد درّاجات الأطفال فيها، والهدايا التي لم تصل، والأحضان التي لم تمتلئ بعد شوق الانتظار، قد يدفعنا ذلك إلى تضخيم مشاعرنا تجاه تلك المقطوعة والتي بدورها تلعب، بسبب وتيرة منخفضة ممتدة صُمّمت بدقة شديدة بين يدي فنان بارع، في الجانب الأسفل من الحدود التي يتأثر بها دماغنا إيجابيا. الموسيقى إذن تجربة كاملة متشعبة في ذواتنا.

 

حينما بدأت في تعلم الجيتار، قبل عدة سنوات، في الحقيقة لم أستكمل دروسي إلا لعدة أشهر، لكن أتذكر جيدا أن المحاضرات الأولى تعلّقت بتعريف الموسيقى ونظرياتها، وكان أول ما قاله لنا الأستاذ هو إن الموسيقى هي "صوتٌ له زمن، وصمتٌ له زمن"، فالموسيقى ليست هي فقط الصوت العذب الصادر من الآلة، وإنما هي جدلية الصوت مع الصمت، تراقص الأضداد الذي يصنع لهذا الكون طعما ربما، منذ تلك اللحظة، لسبب ما، وهنا، نستذكر ما قاله فيكتور هوجو ذات مرة: "الموسيقى تعبّر عن أشياء لا يمكن أن تبقى صامتة، لكن أيضا لا يمكن التعبير عنها بكلمات"!

 ____________________________________________________

    

(*): التقرير هو بشكل رئيس، خاصة الآليات الست، قراءة في المقال البحثي الطويل (Emotional responses to music: the need to consider underlying mechanisms)، "الاستجابة العاطفية للموسيقى: الحاجة إلى اعتبار الآليات الأساسية"، لـ باتريك جوزلين (Patrick N. Juslin) ودانيال فياسفيَل (Danial Västvjäl)، المقال نشر في مجلة "BEHAVIORAL AND BRAIN SCIENCES" عدد 2008 وموجود بالمصادر، ويمكن لك مع بعض الجهد، وفي ثلاث ليال فقط، قراءته، في الحقيقة هو موسوعة كاملة ساعدت الكاتب كثيرا في فهم ما تعنيه الموسيقى للدماغ. أما المصادر في جزئية الآليات فهي ما اقتبس منه الكاتب جزئيا أو ما يرشحه لقراءات مبسطة أكثر اتساعا(18).

المصدر : الجزيرة