ما الذي قدمه أحمد زويل للعلم؟
"عن دراساته حول المراحل الانتقالية للتفاعلات الكيميائية باستخدام تحليل الفيمتوثانية الطيفي"
(هيئة نوبل)
كانت تلك هي الكلمات التي صرحت بها هيئة نوبل حينما أعلنت عن جائزتها في الكيمياء خريف سنة 1999 التي حصل عليها المصري "أحمد زويل". منذ حصوله على الجائزة، حتى قبل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي في الوطن العربي، كان الجدل حول أحمد زويل قائمًا في اتجاهات سياسية لها علاقة بميوله وتحيّزاته، وتصاعد ذلك إثر وفاته أغسطس الماضي، حتّى أنك حينما تقرر عمل بحث قصير حول الرجل في الإنترنت؛ لن تجد غالبا إلا إشارات تاريخية عن تطوره الوظيفي أو موضوعات سياسية، طغى ذلك على النقطة الأساسية في تلك الحكاية، تلك القصة المهمة، وهي ما قدمه هذا الرجل للعلم.
لذلك، دعنا نترك التطور الوظيفي، والإيحاءات السياسية، لرجل قال إنه يود أن يموت عالما، ونحاول فهم ذلك الابتكار الرائع الذي قدمه زويل للعلم، تلك الفكرة العبقرية التي مكّنت البشر من الاطلاع على واحد من أكثر الأسرار عمقًا وقدرة على التخفّي، فما بدأه ديمقريطس كفكرة فلسفية قبل ألفين وأربعمائة سنة بتصور أن المادة تتكون من ذرات، أصبح هو نقطة الانطلاق لكل البحث العلمي في نطاقي الفيزياء والكيمياء1 طوال القرن العشرين، لقد تعرفنا على الذرَّة، وجسيماتها، وحالاتها الكمّية، تعرفنا على تموضع الذرات في الجزيئات، وعلى أنواع التفاعلات الكيميائية، لكن بقت نقطة واحدة مهمة.
بإيعاز من ليلاند قام إدوارد ميوبريدج2 -باستخدام 12 كاميرا- بالتقاط مجموعة من الصور لحصان يجري بأحد حقوله، ودمجها معا لعمل أول فيلم صامت قصير يصور حركة شيء ما ويؤكد بالفعل أن الحصان يرفع حوافره الأربعة عن الأرض أثناء الجري، هنا ربح ليلاند الرهان، وبدأ عصر جديد للعلم حينما طور ميوبريدج سرعة كاميراته لتصل إلى واحد من ألفي جزء من الثانية، كان ذلك رائعا، لكنه لم يكن كافيا كالعادة.
يواجه الكيميائيون نفس المشكلة حين محاولتهم التقاط صور للتفاعلات الكيميائية، فالتفاعل الكيميائي قد يحدث في جزء من المليون مليار جزء من الثانية، أي في نطاق الفيمتو ثانية، ما يعني أن نضع علامة عشرية، ثم 15 صفر، ثم "1"، يشبه الأمر أن تقارن بين ثانية و32 مليون سنة، لذلك استطاع العلماء دائما فهم التفاعلات الكيميائية في إطار أن الجزيء "A" يلتقي مع "B" ثم يحدث شيء ما لا نعرفه تتكسر خلاله بعض الروابط وتتكون روابط جديدة، ويخرج لنا الناتج النهائي "C".
ليس هناك ما هو أمتع من تلك الزحاليق التي تنتشر على حمامات السباحة في المصايف، يصعد الطفل إلى إحداها ثم ينتقل من أعلى إلى الأسفل، يمكن لنا أيضا أن نتعامل مع الجزيئات بنفس الطريقة، فهي الأخرى تتحرك على سطوح الطاقة (energy surfaces)، لكن الجزيئات تحتاج لقدر محدد من الطاقة لكي تصعد إلى تلك السطوح، ثم كأي شيء آخر في العالم تود أن تستقر إلى مستوى أدنى حيث عالم الاتزان الهادئ، بالضبط كما يود الطفل أن يهبط إلى الماء ليستمتع قليلا.
كانت تلك هي الفكرة إذا في عمليات التفاعل الكيميائي، بدأ ذلك على يد الكيميائي السويدي سافنتي أرهينيوس3 وحصل بسببها على نوبل 1903 بعد أن صاغ ما نسميه الآن "معادلة أرهينيوس" التي تصف خط السير الزمني للتفاعلات الكيميائية، طور تلك الفكرة هنري فيرينج ومايكل بولاني لتصف حالة الجزيئات المفردة أثناء التفاعل الكيميائي، تبيّن أن تلك الحالة الانتقالية بين مرحلة "المتفاعلات" ومرحلة "النتائج" تحتاج نفس المدة الزمنية التي تحتاجها الذرة لعمل اهتزازاتها والتي تتراوح بين 10 و100 فيمتو ثانية، هنا جاء دور زويل للعمل على ذلك كله.
كانت فكرة مشروع أحمد زويل بسيطة4:
1- سوف نقوم بضرب الجزيء بومضة ليزر أولى، قوية، غاية في السرعة، تسمى الومضة الأولى مضخّة (Pump) ، تستثيره تلك الومضة لإحداث التفاعل حينما ترتفع طاقته.
2- هنا وفي أجزاء من المليون من المليار جزء من الثانية نقوم بضرب ومضة ليزر أخرى، تسمى مجس/مسبار (probe) ، أقل قوة من الأولى، وتقوم بعكس صورة الجزيء، والتقاط صوره له في تلك الحالة.
3- سوف نعيد نفس التجربة عدة مرات بعد ذلك وفي كل مرة سوف نغير قيمة الوقت بين الومضتين، بذلك نحصل على عدة لقطات، كلقطات إدوارد ميوبريدج السريعة التي تعلمنا عنها منذ قليل، نستطيع أن نتبين خلالها حركة الجزيئات أثناء التفاعل. لكن.. كيف نتحكم في ذلك الفارق الزمني القصير للغاية؟ هنا تظهر الفكرة الرائعة.
نحن نعرف أن تأخير المسافة بفارق .03 ملليمتر يتسبب في فارق زمني 100 فمتوثانية، لذلك لن نحتاج لضرب ومضتي ليزر واحدة تلو الأخرى، بل نحتاج لضرب ومضتين متزامنتين معا، ثم تأخير إحداهما بالقدر الذي نريده، في الشكل التالي سوف تتضح تلك الآلية:
كذلك يمكن لهذا الفيلم القصير أن يوضح كيفية استخدام الفارق الزمني بين الومضتين لالتقاط صور على مدى زمني واسع للجزيئات بعد إثارتها:
هكذا، يمكن لنا التقاط صور للجزيئات في المرحلة – أو المراحل – الانتقالية، ونتعرف على كيفية تكسّر الروابط بين المتفاعلات وتكوين روابط النواتج الجديدة، بالطبع يجب هنا توضيح أن تلك الآلية لا تقدم صور مباشرة للجزيئات، لكنها تعطينا كم من المعلومات عبر طريق غير مباشر ذا علاقة بخصائص مميزة للمراحل الانتقالية، مثل الخصائص البصرية كالطيف أو عبر قياس التغير في كتل الجزيئات، كل ما نحتاجه هنا هو مقارنة ما حصلنا عليه من نتائج مع النماذج الحاسوبية النظرية التي صاغها جون بوبل – وحصل عنها على نوبل في الكيمياء 1998 – للكيمياء الكمّية.
بالفعل، اتسع نطاق البحث الذي يمكن لكيمياء الفمتو أن تساعد فيه إلى كل الكيمياء، ثم إلى البيولوجيا، إلى فهم التفاعلات الحيوية، والجزيئية ذات العلاقة بالحمض النووي، ثم امتد ذلك إلى أنواع جديدة من الهندسة، ثم للعلم كله تقريبا.
لقد ابتكر أحمد زويل -بالمعنى الحرفي للكلمة- علمًا جديدا يبتلع الكيمياء بداخله؛ فببساطة، أشعل هذا الرجل مصباحا في الغرفة المظلمة التي تحدثنا عنها منذ قليل، لقد تمكن من إجابة أسئلة محققي الجرائم، الكيميائيين، والعلماء في كل مكان، حول مشكلات كثيرة للغاية وأحجيات ظلت طوال قرن من الزمان بلا إجابة، لقد أعطى – وفريقه – للبشر نافذة جديدة يمكن لهم خلالها إلقاء نظرة على المجهول القابع في خلفية جوهر وجودنا، لقد أطلعنا على شيء لم تستطع عين قبل أحمد زويل أن تراه، أليس ذلك مهيبًا؟!