شعار قسم ميدان

الـ 10% الدماغية.. أكبر من مجرد أسطورة

midan - light bulb

"إذا بدا شيء ما أروع من أن يكون حقيقيا فهو كذلك على الأرجح" 

 (كارل سايجَن)

 

في الفيلم الشهير "Lucy" تتمكن البطلة التي تلعب دورها "سكارليت جوهانسون" من الحصول على قدرة دماغية كاملة بعد أن يتسرب إلى جسدها دواء جديد كان من المفترض أن تقوم بتهريبه، يعمل هذا الدواء على شحذ قدرات العقل ورفعها من الحالة الطبيعية -10 % من قدرة العقل- حتى تصل إلى 100%، هنا تصبح "سكارليت" أشبه ما تكون "بإلهة"، في الفيلم الشهير "Limitless" يلعب "برادلي كوبر" دور "إيدي" الذي يحصل بالصدفة على حبّة شفافة ترفع قدرات عقله بشكل مجنون للدرجة التي تمكنه من التحكم في السوق العالمي. 1

 

في الغالب، تلعب تلك النوعية من الأفلام على واحدة من أشهر الأساطير في علم النفس والتي تلقى رواجا واسعا في أوساط علم النفس الشعبي الذي يتخذ في مجتمعاتنا العربية شكلا تجاريا تحت عنوان "التنمية البشرية"، هنا يجب توضيح أن ما ننوي التحدث عنه ليس فقط محاولة لإثبات مدى اهتراء هذا الادعاء الأكثر شهرة؛ لكننا سوف نحاول معا سبر أغوار هذا العالم، ومحاولة فهم التفاف الملايين من الشباب العربي حوله.

 

الـ 10% من قدرات الدماغ
لا يستطيع الإنسان تفعيل قدرة أكثر من 16% من خلايا المخ على إرسال إشارات في نفس الوقت، بتلك الطريقة يمكن للمخ أن يحافظ على نشاط مستمر مع تحقيق معالجة أفضل للمعلومات
لا يستطيع الإنسان تفعيل قدرة أكثر من 16% من خلايا المخ على إرسال إشارات في نفس الوقت، بتلك الطريقة يمكن للمخ أن يحافظ على نشاط مستمر مع تحقيق معالجة أفضل للمعلومات
دعنا نبدأ بالإجابة المختصرة: للأسف لا، هذا ببساطة هو ما نرصده عند الخضوع للتصوير الدماغي عبر تقنيات كالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) 2، أو التصوير المقطعي البوزيتروني (PET)، والتي تمكننا من التقاط نشاط المناطق المتفرقة من الدماغ خلال عمليات متفرقة يقوم بها الخاضع للتجربة، إن ما تفعله خلال وظيفة بسيطة كقول بعض الكلمات يدفع بالجهاز إلى إظهار نشاط واضح فيما يتخطى 10% من مناطق دماغك؛ بينما يعد ذهابك للمطبخ وتجهيز كوب من الشاي هو عملية معقدة للغاية قد تتطلب من معظم وظائفك المخيّة أن تتجهز للعمل.

 

بالفعل أنت لا تستطيع تفعيل قدرة أكثر من 16% من خلايا مخّك على إرسال إشارات في نفس الوقت، بتلك الطريقة يمكن للمخ أن يحافظ على نشاط مستمر مع تحقيق معالجة أفضل للمعلومات، لكن تظل جميع خلايا المخ فعّالة بدرجة أقل طول الوقت، وبمرور يوم كامل كن متأكدا أنك استخدمت معظم -إن لم يكن كل- وظائفك المخّية بشكل أكثر فاعلية، وحتى وأنت نائم يظل مخك نشطا لتفعيل العديد من العمليات.

 

ليس ذلك مستغربا من كيان يحتوي على ما يقترب من 86 مليار خلّية عصبية3، تعمل معا بشكل لا يمكن لنا فهمه بصفة كلّية؛ لكنها -وهي فقط تمثل 2% من كتلة جسمك- تستهلك 20% من طاقته في حالتك كإنسان بالغ، بينما تستهلك 50% من طاقة جسم الأطفال، بينما تذهب 60% من طاقة الجسم للمخ فقط في حالة الرضع، أليس غريبا أن يكون الجهاز الذي يستغل كل تلك الطاقة مستخدما فقط بنسبة 10%؟!

 

هنا ربما يفتح الباب لتساؤل آخر، إن كانت تلك الـ 10% من المخ هي فقط ما يعمل بينما يتبقى ما يقرب من 77 مليار خلّية في حالة خمول دائم منذ ظهور البشر قبل مئتي ألف سنة، فربما لا يتسبب التخلص من أي من أجزاء المخ -عدا تلك المجموعة الفعالة- في أي اضطراب، لكن ذلك غير صحيح، لا يمكن أن تتعرض أي مساحة بالمخ للتلف نتيجة السكتات الدماغية أو -مثلا- التعرض لصدمات على الرأس من دون أن يؤدي ذلك إلى عجز خطير في وظائفه.

وليام جيمس، أحد رواد علم النفس (مواقع التواصل)
وليام جيمس، أحد رواد علم النفس (مواقع التواصل)

خذ مثلا حالات استئصال الفص الجبهي للمخ4، والتي يضطر لها جرّاحو المخ والأعصاب في حالات محددة من الاعتلالات العصبية. بعد العمليّة تظهر أعراض الذهول والاضطراب على بعض المرضى، و تزداد شهية البعض الآخر، و تظهر النوبات الصرعية كعرض رئيس في الكثير من المرضى، أعراض مختلفة نجدها في جراحات فصل نصف الكرة المخية والذين يعانون من انخفاض في الذكاء مع مشكلات في الوظائف الحركية؛ لكن هنا يجب علينا توضيح أن المخ البشري جهاز مرن، فهو دائما يتكيف مع الوضع الحالي ويعيد تنظيم ذاته محاولا تلافي الضرر، فتبدأ بعض أجزاء المخ بعد بتر أجزاء أخرى في تطوير وظائف إضافية تغني عمّا تم فصله؛ لكن يظل هناك أثر يمكن للمتخصصين رصده عبر تقنيات مختلفة.

 

في الحقيقة، تعد أسطورة الـ 10% هي الأكثر شهرة في تلك المنطقة من علم النفس الشعبي، ربما كان ذلك بسبب مصدرها، إنه -ربما-  الفيلسوف وعالم النفس الأمريكاني الشهير "ويليام جيمس" حينما قال في مرة إن "الناس لا يستخدمون غير جزء بسيط من إمكاناتهم العقلية"، في الحقيقة قصد "جيمس" أننا لا نبذل ما فيه الكفاية من الجهد لمواكبة قدرتنا على التفكير، لا نتحمس بما فيه الكفاية، لكن في عام 1936 قدم الكاتب الأمريكي "توماس لويل" هذه الفكرة في صورة مختلفة تماما حينما قدم للكتاب الأكثر مبيعا "كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس" للكاتب "ديل كارنيجي"، قائلاً إن "البروفيسور ويليام جيمس من جامعة هارفارد كان يقول إن الرجل المتوسط ​​يطور عشرة في المئة فقط من قدراته العقلية الكامنة"، هنا بدأت الكارثة.

 

لماذا نحتاج لأسطورة الـ 10%؟
بين كل ضغوط الحياة اليومية، لا شك أننا في حاجه ماسة لحل سحري لكل مشكلاتنا، يمكن أن يغير من طريقتنا في الحياة بلمح البصر، وليس أسهل من كاتبة كتاب بعنوان
بين كل ضغوط الحياة اليومية، لا شك أننا في حاجه ماسة لحل سحري لكل مشكلاتنا، يمكن أن يغير من طريقتنا في الحياة بلمح البصر، وليس أسهل من كاتبة كتاب بعنوان "قدرات غير محدودة"
لكي نعيش حياة سعيدة، إذا كنّا نستخدم بالفعل 10% من قدرات دماغنا فربما هناك مساق ما، كتاب ما، يمكن له أن يعلمنا الكثير عن الـ 90 الأخرى، ربما تكون بعض الحلول الجاهزة ممكنة، نحن في عالم قاس، والحياة معقدة، و في أوطان تشبه أوطاننا يبدو الأمر للوهلة الأولى مستحيلا، بين كل ذلك الضغط اليومي في العمل، والمنزل، والشارع، لا شك أننا في حاجه ماسة لحل سحري لكل مشكلاتنا، طريقة مضمونة بنسبة 100% يمكن لها أن تغير من طريقتنا في الحياة بلمح البصر، وليس هناك ما هو أسهل من مقدمة نارية لكتاب بعنوان "قدرات غير محدودة" لتتصور أن كل ما تطلبه في الحياة سوف يتحقق خلال الـ 265 صفحة القادمة، فقط عليك أن تدفع مئتي جنيه للنسخة الواحدة!

 

إن حكاية الـ 10 % هي مثال فقط، نموذج لنفس الفكرة التي غالبا ما تُقدم بصور مختلفة، لكن تتبع كلها نفس الطريقة، فهناك أسطورة اختلاف وظائف نصفي المخ الأيمن والأيسر مثلا، وأسطورة القراءة السريعة، وأساطير علوم الطاقة، والبرمجة اللغوية العصبية، تلك التي توهمك أنك سوف تتمكن من إنقاص وزنك عبر تمارين التنفس، وأساطير التواصل التي تقول لك إن كل مشكلاتك مع مديرينك في العمل سوف تُحل حينما تربطها بحلقة تصنعها بأصابعك.

 

يلتف ذلك ويدور دائما حول قناعتك بأن هناك مساحة ما لا تزال غير مستغلة من قدرات دماغك، تسمح تلك المساحات بأفق عظيم من التطوير السهل، لذلك لا تستغرب يا صديقي حينما تسمع وتقرأ كلمات في تلك النوعيات من الكتب كـ "لا محدود" و"لا نهائي"، ذلك لأن أساطيرهم لا نهاية لقدرتها، على عكس العالم الطبيعي الذي تحده دائما الحدود، لكن.. من هم؟

 

خلال السنوات الثلاثين الأخيرة تطورت بقوّة تحركات تلك الخرافات العلمية، في كل العالم، لتتحول بالتدريج إلى مجموعة من الأشخاص والمؤسسات التي تدعي حصولها على شهادات من مراكز متخصصة تقوم بعمل مجموعة من المساقات، تتضمن في العادة أشكالا متدرجة، من الدبلومة إلى المدرب المساعد إلى المدرب إلى مدرب المدربين، تلك التي سوف تخرج منها لا محدودًا لا نهائيًا.

 

نعم، يستغل الجميع ضعف معرفة البشر بالمنهج العلمي من أجل الترويج لأفكار كتلك على أنها علمية، وهنا نقف على نقطة غاية في الأهمية، دعنا نبدأ بضرب مثال:

حينما نحاول صناعة دواء جديد فنحن نحتاج مدة ثلاثٍ إلى ست سنوات من البحث العلمي وتطويره حول اختيار المادة الفعالة من بين آلاف أخرى يمكن أن تخدم نفس الهدف5، ثم تحديد أي من تلك المواد سوف نبدأ باستخدامه في التجارب الأولية، بعد ذلك سوف نحتاج لمدة تقترب من العام من أجل عمل الاختبارات الكيميائية الأولية والتجريب على الحيوانات، يحتاج التجريب الحذر على البشر لحوالي سبع سنوات، ونحتاج بعد إطلاق الدواء لسنتين من أجل رصد تطور استجابة البشر لهذا الدواء، ما يعني أن مادة فعّالة واحدة، كالباراسيتامول الموجود في قرصي بنادول، تحتاج لما يقترب من عشر سنوات لكي تصل ليديك.

لا يحتاج مدربك في مساق ما إلا ورقة علمية واحدة غير مؤكدة، ليؤكد لك، أن تمرينا ما مثل التأمل مثلا سوف يعالج الاكتئاب الذي عانيت منه على مدى سنواتٍ ثلاث!
لا يحتاج مدربك في مساق ما إلا ورقة علمية واحدة غير مؤكدة، ليؤكد لك، أن تمرينا ما مثل التأمل مثلا سوف يعالج الاكتئاب الذي عانيت منه على مدى سنواتٍ ثلاث!

في المقابل من ذلك، لا يحتاج مدربك في المساق إلا ورقة علمية واحدة غير مؤكدة، ليؤكد لك، أن تمرينا ما سوف يعالج الاكتئاب الذي عانيت منه على مدى سنواتٍ ثلاث، هنا يجب التوقف قليلا للتأكيد على أن التأمل -مثلا- هو أمر مفيد، يثبت العلم ذلك كل يوم بشكل أكبر، لكن مشكلتنا مع التحويل المباشر من قراءة إحصائية سريعة ما ظهرت في ورقة علمية ما -بدون أي رقابة أو تجريب حقيقي على مرضى أو حتى سماح قانوني- إلى جرعات علاجية تتخصص في حالة مرضية ما، ينقلنا ذلك للهدف الرئيس من المقال.

 

منذ فترة ليست بقصيرة اجتاحت أجواء الوطن العربي الخرافة الشهيرة القائلة إن هناك فيتامينا يدعى B17 يمكن له أن يعالج السرطان6. يقول مروجو تلك الخرافة إن السرطان وهم صنعته شركات الأدوية لكي تدفع المرضى اليائسين لشراء الأدوية منهم، بينما السرطان الحقيقي هو مرض بسيط يمكن لمادة الأميجدالين (ب17) علاجه، و يتواجد هذا الفيتامين في عدد من البذور الشهيرة، ما إن اندلعت تلك الأسطورة حتى عكف العديد من مرضى السرطان على ترك أدويتهم وبرامجهم العلاجية والبدء في ابتلاع أكبر قدر ممكن من تلك البذور التي تحتوي على تلك المادة، لكن لم يتذكر أحد أن يخبرهم أن أحد منتجات هضم الأميجدالين في المعدة هو المانديلونايترايت الذي بدوره يتحول بعد الهضم لعدة مواد كيميائية منها سيانايد الهيدروجين السام حينما يؤخذ بكميات كبيرة.

 

تلك إذن هي المشكلة الأكبر، تلك الأساطير التي لا تمت للعلم بصلة، والتي تعد اليائسين بحلول سهلة، لا تفوّت فقط على مرضى حقيقيين فرصة العلاج عند متخصص؛ لكنها أيضا تحمل آليات ضارة للمرضى. تخيل معي أن أحدهم هو بالفعل مريض اكتئاب حاد قرر أن يلجأ لتلك المساقات التي تعد بحلول لجميع المشكلات عبر تمارين الطاقة اللامحدودة، بعد عدد من تلك المساقات يفشل المعالج في تجاوز الحالة التي ربما كانت تحتاج لبعض الجرعات العلاجية من متخصص، هنا ربما سوف تزداد حدة الحالة؛ لأن المريض سوف يقتنع من داخله أن المشكله لها علاقة به وليس بالمساق، وسوف يزيد ذلك من الضرر الواقع بالفعل، من هنا أوجب ذلك علينا التصدي لكل تلك الممارسات.

المصدر : الجزيرة